[نقد مفهوم العلمانية الجزئية والشاملة]
عند الدكتور عبد الوهاب المسيري
محمد إبراهيم مبروك
يرتبط كاتب هذه السطور بعلاقة صداقة حميمة مع الدكتور عبد الوهاب المسيري، ويدين له بالفضل في الكثير من المواقف، ويرى أن الناس سيحتاجون إلى قدر من السنين ليدركوا مدى الأهمية البالغة لأعماله العلمية والفكرية، ومدى ما أنعم الله عليهم بوجود هذا المفكر بينهم، بما يحمله من طاقة فكرية، لها قدرة كبيرة على تقويض الكثير من الأسس الفلسفية للحضارة الغربية الراهنة، وليعيد قدراً من التوازن بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، بعد غياب طويل انقطع فيه الفكر الإسلامي عن مواصلة السجال والصراع مع ذلك الفكر، الذي كانت له الغلبة والصولة، والمبادرة على امتداد قرون طويلة.
أقول هذا بداية حتى لا يحمل أحد النقد الموجه لفكر الرجل في هذه الدراسة على أي محمل شخصي، أو ينسبه إلى الجهل بقيمة الرجل وأعماله في خدمة الإسلام والمسلمين؛ خصوصاً أن أغلب الخطوط العامة لهذه الدراسة قد تم ذكرها في محاضرة في صالون الدكتور المسيري نفسه، ولم يُبْدِ الدكتور نفسه استياءه مما جاء فيها من نقد. وإن كان قد قام بالنقد للنقد الذي تم.
أثار الدكتور المسيري جدلاً حول موسوعة (اليهود واليهودية والصهيونية) ما زال قائماً.
وبين أيدينا كتابه الآخر (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) ؛ فقد أثار أزمة فعلية بين أوساط الإسلاميين، وأزعم أنه قد قوبل من أغلبهم بالرفض، وقبل أن أقوم بالنقد الفعلي للمقولات التي جاءت، فيه أُحب أن أُوجِّه الانتباه إلى الظروف العالمية التي صدر الكتاب فيها، وخطورة قضية تحديد الموقف من العلمانية، والتي تمثل من وجهة نظرنا الحد الحاسم بين: إما (معنا) أو (ضدنا) ، والتي باتت سيفاً مسلطاً على رقاب الجميع.
- معضلة تعريف العلمانية:
لا أريد الخوض في كثير من الإشكاليات المتعلقة بتعريف العلمانية، والتي تقدم الحديث عنها في مقالي السابق بالبيان، ولكني أنبه فقط إلى أن لفظ العلمانية ذاته هو لفظ قديم قِدم الحضارة الغربية ذاتها.
وعلى الرغم من ارتباط تعريف العلمانية بالرؤى الأيديولوجية، والسياسية المرادة منه، إلا أن الْتِماس ذلك لدى الفلاسفة الغربيين الذين تحتجب رؤاهم الحقيقية للأمور تحت سُتُر كثيفة من المحظورات الأيديولوجية والأغراض السياسية، والمصالح الخاصة.
وأهم تلك السمات التي يمكن التماسها عن العلمانية لدى الفلاسفة والمفكرين الغربيين هي ارتباطها بالاعتماد على العقل والاستقلال التام عن المقدس (الوحي) ، والحرية الكاملة في التفكير، وهي سمات تنطبق على الكثير من فلاسفة الإغريق، ومن ثم كان ذلك الربط الذي يشير إليه الفلاسفة والمفكرون الغربيون بين العلمانية وبين أسلافهم فلاسفة الإغريق.
وسأتحدث هنا عن التيار الأصيل في الفلسفة الإغريقية؛ أي تيار الفلاسفة الذين نشؤوا في كنف قاعدة شعبية تدين بالاعتقاد (الوثني) في آلهة الأولمب، وهو الأمر الذي كان له تأثيره الكبير على موقف هؤلاء الفلاسفة المعادي من تلك الآلهة، وهو تيار الفلاسفة الأيونيين، والإيليين، وأرسطو، وأبيقور، بعكس تيار ضئيل كان له تأثره الخاص بالصوفية الهندية، والذي يتمثل بشكل أساس في الفيثاغوريين.
أما بالنسبة لفلاسفة العصر الحديث فهل يمثل الانطلاق من (الكوجيتو الديكارتي) : «أنا أفكر إذن أنا موجود» لإدراك الحقائق انطلاقاً من أي فرضية دينية؟
أما (أسبينوزا) فقد كان يرى «أن الكتب المقدسة ليست مصادر للحقيقة النظرية، وما الأديان الكبرى إلا أدوات للتنظيم الاجتماعي، وللأخلاقية العملية أولاً وقبل كل شيء» (١) .
ولم يعترف (هوبز ١٥٨٨م - ١٦٧٩م) بأي مضمون نظري متميز للحقيقة الدينية التي نزل بها الوحي؛ وجوهر الدين ـ على المستوى الشخصي ـ لا يقوم على إدراك أية حقائق، بل على خوف الفرد من القوة المجهولة والمتوعدة التي ينطوي عليها الكون، ولم يعوّل (لوك ١٦٣٢ - ١٧٠٤) على شيء غير الخبرة الحسية مصدراً للمعرفة، وكان برهانه الأساسي على الإله هو حجة المراهن، والذي يكاد يكون هو نفسه غير مقتنع به: (أي رهان كون احتمال صدق الألوهية أكثر فائدة من احتمال عدم صدقها) .
و (هيوم ١٧١١ - ١٧٧٦م) التجريبي المتشكك في كل شيء، حتى تجريبيته؛ فقد حدد الدين الحق بأنه فلسفته الخاصة عن الدين، والتي ترجع ضرورة الاعتقاد في الله إلى الميل الذاتي في طبيعتها، وليس إلى أي دليل آخر ودون أن يؤدي ذلك إلى أية عقائد دينية.
وإنك لتعجب أن تجد عقلاً كـ (جان جاك روسو) يقيم اعتقاده في الله على الشعور الأخلاقي والعاطفة الباطنية، ومع ذلك فقد كان يخالف تماماً (الميتا فيزيقا) المسيحية، بل كان يفتقر إلى علم كبير بها.
وربما كان هذا أحد أهم أسباب ضمّه إلى فلاسفة التنوير على الرغم من تناقضه الأساسي معهم في التعويل على العوامل الذاتية في التفكير.
أما (كانت) صاحب المنهج الترانسفدتالي في المعرفة (والذي يتعلق ببنية العقل نفسها والمعرفة القبلية) ففي بحثه عن (الدين داخل حدود العقل وحده ١٧٩٣م) لم يعترف بوحي متميز عالٍٍ على الطبيعة، ولم يرَ في العقائد المسيحية أكثر من رموز مؤثرة، أو أساطير وجودية تعمل على تشجيع الفاعل الأخلاقي على التمسك بإخلاصه للمثل الأخلاقية العليا.
فهل أكون قد خالفت الواقع إذا قلت إن الذي يجمع بين هؤلاء جميعاً هو الاقتصار على العقل الإنساني وخبراته في إدراك العالم وتصريف شؤون الحياة سواء كانوا عقليين مثاليين، أو ماديين تجريبيين؟ وذلك هو تحديد تعريفي للعلمانية.
- المسيري وتعريف العلمانية:
في حديث عن إشكالية تعريف العلمانية يذهب الدكتور المسيري إلى أن «الواقع الإنساني يتكون من بنيتين (أو مستويين) : البنية الظاهرة، والبنية الكامنة. وعادة ما تكون البنية الظاهرة تبدياً للكامنة. وأفضل أن أراهما دائرتين متداخلتين: الأولى صغيرة (ونشير إليها بالجزئية) ، والأخرى كبيرة (ونشير إليها بالكلية الشاملة) ، وهي تحيط بالأولى وتشملها، وهي بمنزلة الإطار الذي ينتظمها. ويمكن القول: إن الأولى إن هي إلا مجرد إجراءات، وأفعال تشكل تجلياً للثانية، ولا يمكن فهمها حق الفهم إلا بالرجوع إلى الدائرة الأشمل؛ لأن هذه الدائرة الأكبر هي البنية الكامنة، والمرجعية النهائية» (٢) . ورغم أن هناك اضطراباً في التصور بين الداخل والخارج، وصنع البنية الكامنة، والدائرة الشاملة في موقعي تناقض، ولكني سأتجاوز ذلك لأربط بقوة على قول (المسيري) على فرض أننا مشينا معه في تصوراته ومحاولته تقسيم العلمانية إلى علمانيتين أن الأولى ما هي إلا مجرد إجراءات وأفعال تشكل تجلياً للثانية. إذن على فرض ذلك فكِلا العلمانيتين من حيث الجوهر شيء واحد، ولكن إحداهما تتخذ شكلاً إجرائياً يختفي وراءه المحتوى المعرفي، والمرجعية النهائية الذي تمثله الأخرى.
يكمل المسيري كلامه فيقول: «في حالة العلمانية يشكّل الفصل بين الدين من جهة، وبين الدولة وسلوك الناس في بعض مجالات الحياة العامة من جهة أخرى الدائرة الصغيرة الجزئية الإجرائية، وهي دائرة لا يمكن فهم ما يجري فيها إن نظرنا إليها (معزولة عما حولها) [أليست داخل الدائرة الشاملة، فلماذا سننظر إليها معزولة إذن؟] (٣) ؛ إذ يلزم دائماً أن نعود إلى الدائرة الشاملة الأكبر التي تشمل الأمور النهائية» (٤) . والسؤال هنا: لماذا نعود إلى الدائرة الأكبر إذا كانت الدائرة الأصغر داخلها؟ الحقيقة أن المسيري قد بدأ العزل بالفعل ليصل إلى حل التقسيم الذي يحاول به أن يرضي جميع الأطراف، كما سنُظهر فيما بعد بإذن الله، ومن ثم فإن النتيجة المباشرة التي سيلحقها بهذا الكلام هي قوله: «ويوجد في تصورنا علمانيتان لا علمانية واحدة: الأولى جزئية، ونعني بها العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، والثانية شاملة، ولا نعني فصل الدين عن الدولة وحسب، وإنما فصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية لا عن الدولة وحسب، وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص؛ بحيث تنزع القداسة عن العالم، ويتحول إلى مادة استعمالية يمكن توظيفها لصالح الأقوى» (١) .
ألم تكن العلمانية الأولى هي مجرد إجراءات وأفعال تشكّل تجلياً للثانية؟ فلماذا تم الفصل إذن؟ وكيف صرنا الآن بعد بضعة سطور في مواجهة علمانيتين سيتم قبول الأولى، ورفض الثانية إسلامياً؟
وقبل أن أناقش هذا التكتيك السياسي سأنتقل إلى تعريف أكثر مباشرة في موضع آخر من الكتاب يقول عنه المسيري: إنه تكتيك بحثي مقبول؛ بسبب ارتفاع مقدرته التفسيرية (وسوف أتوقف كثيراً عند مقدرته التفسيرية هذه) .
يعرّف المسيري ما ادّعاه علمانيتين هكذا:
العلمانية الجزئية:
رؤية جزئية للواقع (برجماتية - إجرائية) لا تتعامل مع أبعاده الكلية والنهائية (المعرفية) ، ومن ثم لا تتسم بالشمول. وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة وربما الاقتصاد، وهو ما يعبر عنه بعبارة «فصل الدين عن الدولة» . ومثل هذه الرؤية الجزئية تلزم الصمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة؛ كما أنها لا تنكر بالضرورة وجود مطلقات وكليات أخلاقية وإنسانية، وربما دينية، أو وجود ما ورائيات وميتافيزيقيات؛ ولذا لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلاقية.
العلمانية الشاملة:
رؤية شاملة للعالم ذات بُعد معرفي (كلي ونهائي) تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات الغيبية (الميتافيزيقية) بكل مجالات الحياة، وهي رؤية عقلانية مادية تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية التي ترى أن مركز الكون كامن فيه غير مفارق، أو متجاوز له (فالعلمانية الشاملة وحدة وجود مادية) ، وإن العالم بأسره مكون أساساً من مادة واحدة، ولا قداسة لها، ولا تحوى أية أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات، أو التفرد، أو المطلقات، أو الثوابت. هذه المادة ـ بحسب هذه الرؤية - تشكّل كلاً من الإنسان والطبيعة؛ فهي رؤية واحدية طبيعية مادية» (٢) .
واضح أن الفصل هنا قد صار تاماً، وأن هذا التعريف يخالف تماماً التعريفَ الأوَّلي الذي تقدم به المسيري في بداية الكتاب للعلمانيتين، وهذا غير السقوط في الكثير من المشكلات الفلسفية التي سوف أتناولها في حينها، لكنها الآن تعود إلى مناقشة مفهوم المسيري للعلمانية من البداية.
فبعد أن عمل المسيري على الفصل بين العلمانيتين، واعتبر الجزئية هي فصل الدين عن الدولة حاول من خلال هذا الحل أن يدفع عن نفسه تهمة الإقرار بهذا الصدام الحتمي بين الإسلام والعلمانية، ومن ثَم بدأ يوغل في كلام لا يعني أي شيء سوى إسقاط الواقع الحضاري للنصرانية في الغرب على الرؤية الإسلامية للعالم، ويخلط بين هذا وذاك ليوهم بصحة القضية التي هو بصددها؛ حيث يقول: «المؤسسة الدينية لا يمكن أن تتوحد مع المؤسسة السياسية في أي تركيب سياسي وحضاري مركب، تماماً مثلما لا يمكن أن تتحد مؤسسة الشرطة الخاصة بالأمن الداخلي مع مؤسسة الجيش الموكول إليها الأمن الخارجي، كما لا يمكن أن تتوحد المؤسسة التعليمية والمؤسسة الدينية في العصور الوسطى النصرانية حيث كانت هناك سلطة دينية (الكنيسة) ، وأخرى زمنية (النظام الإقطاعي) ، بل داخل الكنيسة نفسها كان هناك من ينشغل بأمور الدين وحسب، ومن ينشغل بأمور الدنيا، وحينما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» فقد كان في واقع الأمر يقرر مثل هذا التمايز المؤسسي؛ «ففي القطاع الزراعي بإمكان المرء أن يؤبر النخل، وحسب ما يمليه عليه عقله، وتقديره للملابسات، متحرراً في بعض جوانبه من المطلقات الأخلاقية والدينية» (٣) .
- المناقشة:
أذكّر القارئ بأنه من البدء قد ربطنا بقوة على ذهاب المسيري إلى أن كِلا العلمانيتين من حيث الجوهر شيء واحد، وأن إحداهما تتخذ شكلاً إجرائياً يختفي وراءه المحتوى المعرفي الذي تمثله الأخرى، ثم بدأت تنازلات الرجل شيئاً فشيئاً، حتى تم الفصل بين العلمانيتين تماماً بعد أن جعل منهما رؤيتين، رأى أن إحداهما يمكن لها التعايش مع الدين، وإذا كانت العلمانية ـ بحسب التعريفات الغربية، أو رؤية فلاسفة الغرب لها بشكل أدق ـ ترتبط باستقلال العقل في الإدراك وتنحية المقدّس؛ فإن تعريف المسيري للعلمانية الشاملة هو الأقرب للتعريف الحقيقي للعلمانية بوجه عام؛ حيث لا يغدو تعريف العلمانية الجزئية هذا ـ والتي قال عنها المسيري في البدء: ليست سوى إجراءات، وتجليات للعلمانية الشاملة ـ سوى تكتيك يتدرع به المسيري من تهمة الصدام، وأقول: هو الأقرب؛ لأن هذا التعريف للعلمانية الشاملة، سواء في شكله الأول أو الأخير، هو أقرب إلى رصد نتاج الرؤية العلمانية، أو نتاج إعمال المنهج العلماني.
وقاعدة أن المقدرة التفسيرية للتعريف هي التي تحقق مصداقيته هي التي تلقى قبولاً شديداً عند المسيري؛ حيث يعتمد عليها منهجياً في معظم أعماله تقريباً، وهي بوجه عام أكثر القواعد قبولاً في المنهج العلمي للتحليل.
والآن لنا أن نحاكم المسيري إما على ارتباط العلمانية، واستقلال العقل في الإدراك والتصور، وتنحية المقدمة كما هو مسلَّم به عند فلاسفة الغرب، أو على هذا التعريف الذي نصنعه (وقد ذكرنا حيثياته في مقال البيان المشار إليه) ، والذي نصنعه على محل قاعدة المقدرة التفسيرية للتعريف؛ حيث نرى أن العلمانية: «هي الاقتصار على العقل الإنساني وخبراته في إدراك حقائق العالم، وتصريف شؤون الحياة» .
ومن هنا فإن كل ما يقال عن انقسام العلمانية إلى علمانيتين (إحداهما إجرائية، والأخرى معرفية) لا يستقيم؛ لأن المسألة تتعلق أساساً بالمضمون الإدراكي، الذي يقف في الخلف، وليس هناك شيء يسمى إجراءات، أو سلوكيات، أو قيم ومواقف تتعلق في الهواء، ولا تعكس مضموناً فلسفياً ما، (حتى ولو كان هذا المضمون يعني اللامضمون، فلا بد من وجود رباط فلسفي بين هذا وذاك) .
ولكن لو أخذنا بمعيار المقدرة التفسيرية للتعريف الذي يأخذ به المسيري تماماً (١) ، وطبقناه على قولنا: «إن العلمانية هي الاقتصار على العقل، وخبراته في إدراك حقائق الوجود، وتصريف شؤون الحياة» لفهمنا من هذا التعريف أن العلمانية لا تنظر للأمور إلا من خلال العقل وخبراته كحقيقة مقدسة، ومن ثم لا تسلِّم بشيء مما يقول، والنتيجة الحتمية لكل ذلك ألا تسمح له بالتدخل في أي شأن من شؤون الحياة لا الدولة ولا المفاهيم ولا القيم، ولكن ذلك لن يؤدي بالضرورة إلى تحويل العالم إلى مادة استعمالية من وجهة نظر العلمانية، بل قد يؤدي إلى تصور ديني أيضاً قائم على العقل، ولكن تركيز المسيري على نتائج الرؤية العلمانية، وليس حقيقتها جعله يختزل موقفها على النتائج الأكثر انتشاراً في هذا الجانب المتعلق بالرؤية إلى العالم، وهو تحوُّل ما عن تحويل العلمانية في التعريف اللاحق إلى رؤيتين: إحداهما جزئية، والأخرى شاملة؛ فهو بمثابة إمعان في المغالطة، والمراوغة تحت ادعاء أنه تكتيك بحثي مقبول؛ بسبب ارتفاع مقدرته التفسيرية. وسنرى أن ليس له أية مقدرة تفسيرية، بل يتسبب في المزيد من الإرباك ليس للموقف الإسلامي فقط، ولكن في الرؤية الفلسفية بوجه عام.
فليس هناك رؤية لا تعكس مضموناً فلسفياً ما، حتى العبث فإنه يعكس (اللامعرفة) و (اللاجدوى) ، وعندما أتحدث عن فصل الدين عن الدولة؛ فهذه ليست رؤية وإنما هي موقف ينعكس عن رؤية فلسفية وراءه تعني إقصاء التدنس عن التدخل في العالم الدنيوي؛ فضلاً عن أنه ليس هناك (رؤيةٌ ما) يمكن تسميتها (رؤية جزئية) ؛ لأن الرؤية تعني تصوراً فلسفياً ما يحتم تداعي نتائجه في مختلف مناحي القضايا المتعلقة بالعالم.
ولكن مكمن المشكلة الأساسية في تعريفات المسيري للعلمانية: هو السقوط فيما نعاه على بعض التعريفات الأخرى من مشكلات؛ وأقصد بذلك تعويل هذه التعريفات على نتائج الرؤية العلمانية، وليس العمل على سبر حقيقة ماهيته؛ فعندما يذكر المسيري تعريفه الأول للعلمانية الشاملة (التي هي الأقرب للمقصود بالعلمانية بوجه عام) يذكر أنها لا تعني فصل الدين عن الدولة فحسب، وإنما عن الطبيعة، وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص؛ بحيث تنزع القداسة عن العالم، ويتحول إلى مادة استعمالية يمكن توظيفها لصالح الأقوى، وكل هذا نتاجات لإعمال الرؤية العلمانية، وليس تحديداً لها؛ لأن السؤال المطروح هو: لماذا تفصل العلمانية الدين (بمعنى الوحي) عن الدولة والقيم الإنسانية والأخلاقية، بل وعن الدين الفعلي الذي يجب اتباعه؟ إنه يذكر النتيجة، وليس السبب العام إلى مادة استعمالية، وسنزيد هذا الأمر شروحاً فيما بعد.
أما في التعريف اللاحق للعلمانية الشاملة فيذكر فيه: أن العلمانية رؤية عقلانية مادية تدور في إطار المرجعية الكامنة، والواحدية المادية ... إلخ، كما ذكرنا من قبل. ويلاحظ في هذا أنه يتعلق بالنتاج الراهن للرؤية العلمانية، وليس بحقيقة الرؤية ذاتها؛ فحقاً إن العلمانية السائدة الآن هي علمانية مادية شاملة للإنسان والطبيعة، ولكن هذا لا يعني حتمية المطابقة بين العلمانية والرؤية المادية للعالم؛ فقد تأتي مرحلة لاحقة يؤدي إعمال الرؤية العلمانية إلى رؤية عقلانية مثالية للعالم، كما أنه لا يمكن تعميم ذلك على المراحل المختلفة للفكر العلماني الغربي، حتى في العصر الحديث، فلا يمكن أن يقال مثلاً: إن أياً من (ديكارت أو كانت) كان فيلسوفاً مادياً، بل كان عقلانياً مثالياً، وهو مما لا شك فيه أنه كان علماني التفكير.
- هفوة المسيري شديدة الوضوح:
أما هفوة المسيري شديدة الوضوح فهي في المقولة التي عمل على إيهام القارئ أنه يرتضيها (وإن كان هو لا يرتضيها حتماً إذا تمت مراجعة كلامه مراجعة حرفية، خصوصاً لو تم هذا في ظل ما يدلي به من أقوال في الندوات) .
وهي المقولة التي مفادها أن لا تعارُض بين الإسلام والعلمانية الجزئية؛ لأنه حتى لو كانت العلمانية الجزئية هي فصل الدين عن الدولة فهي تعني العمل على الانتقاص من شمولية الدين، بل وتهدف إلى تبعيضه، وهو الأمر الذي يتناقض مع قوله ـ تعالى ـ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: ٨٥] .
وقوله ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: ١٥٠ - ١٥١] . ولعل ذلك هو ما دعا الدكتور محمد البهي (وهو المفكر الإسلامي النابغ الذي جمع بين دراسته الأزهرية للدين ودراسته الألمانية للفلسفة) إلى أن يعنوِن كتابه عن العلمانية بالتالي:
(العلمانية وتطبيقها في الإسلام: إيمان ببعض الكتاب وكفر بالبعض الآخر) .
ويبلغ السيل الزُّبى عندما يطبق المسيري ذلك على قول الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» ؛ حيث يقول وهو يورد في إطار إقراره للفضل النسبي بين الدولة والدين: «ففي القطاع الزراعي بإمكان المرء أن يؤبِّر النخل أولاً، حسب مقدار معرفته للملابسات، متحرراً في بعض جوانبه من المنطلقات الأخلاقية» . وما بين القوسين للمسيري ليس به شيء إذا أُخذ حرفياً، لكن المشكلة في الإيهام أن ذلك يعني إمكانية الفصل بين الدين والدولة في الإسلام اعتماداً على هذا الحديث؛ لأن الحديث بكل وضوح يتناول الجوانب العلمية التطبيقية من الحياة، وهي أمور عامة مجردة وموقف الإسلام (وليس كل الأديان) من هذه الأمور شهير جداً، ومفاده عدم التدخل والاعتماد على الخبرة، ولكن لا ينطبق ذلك على أي جانب من الجوانب السلوكية للحياة التي تنظمها الدولة، وهذا ما يوهم به كلام المسيري.
- إلى أي من الإسلاميين استند المسيري؟
أستطيع القول إن العذر العام الذي يظلل مواقف الدكتور المسيري أن الرجل حديث الانتقال في نقده للحضارة الغربية من المنظور اليساري إلى المنظور الإسلامي، أو بشكل أكثر دقة إلى منظور فلسفي يبدو عاماً ولكنه يستبطن رؤية إسلامية، ومن ثَم فإن تراكمه المعرفي يتشكل أساساً من التراكم المعرفي الغربي نفسه؛ ولهذا فإن منظوره الإسلامي لا يقوم إلا على بعض القواعد العامة وربما غير المحددة، ويفتقد التراكم المعرفي الإسلامي لدرجة محزنة؛ خصوصاً إذا تعلق الأمر بموقعه المتقدم المفترض في مواجهة الحضارة الغربية مما ينعكس على مواقفه في الكثير من الحالات بغياب الرؤية الإسلامية المحددة، أو ضبابيتها في مواجهاته الفكرية مع هذه الحضارة، وهو الأمر الذي يؤدي إلى الكثير من المشكلات حتى مع إقرارنا باشتراك المنظور الإسلامي والاشتراكي في بعض المواقف الناقدة للحضارة الغربية.
ولكل ما سبق كان من الطبيعي أن يحاول الدكتور المسيري الاستناد إلى بعض المفكرين الإسلاميين في تحديد موقف المنظور الإسلامي من العلمانية، ولأنه من الطبيعي أيضاً أن يتحدد استناده هذا بعاملين هما: محدودية تراكمه المعرفي الإسلامي وعزوفه الشخصي عن احتداد المواجهة في مواقفه السياسية؛ فقد وقع اختياره على تيار الوسط التوفيقي بين الإسلام والعلمانية، وهو ما اعتيد أن يطلق عليه في القنوات الإعلامية المرضي عنها بـ (التيار الوسطي) والذي يُعد الكاتب (فهمي هويدي) أحد أبرز رواده؛ ولذلك فقد كان هو الشخص الوحيد من المحسوبين على الإسلاميين الذي استند إليه المسيري في تعريفه للعلمانية.
و (الأستاذ فهمي هويدي) هو صاحب المقولة الشهيرة: «العلمانيون المعتدلون هم أقرب إلى الإسلاميين المعتدلين من الإسلاميين غير المعتدلين» ا. هـ.
والنتيجة التي ينتهي إليها الاثنان معا (هويدي والمسيري) هي كما يقول هويدي: «أن كل تيار سياسي يحترم عقيدة الأمة ويلتزم بنصوص الدستور المعبرة عن ذلك يصبح من حقه أن يكتسب الشرعية، وأن يكون شريكاً في الحياة السياسية للمجتمع الإسلامي ينسحب ذلك على مختلف فصائل العلمانيين المعتدلين سواء كانوا ليبراليين أو قوميين أو ناصريين أو ماركسيين» (١) .
ويعلق المسيري على ذلك بقوله: «وإن الحوار بين فصائل الأمة المختلفة ممكن في إطار التعريفات الجزئية، أما التعريفات المادية الشاملة فإنها تُسقط كل المرجعيات ولا تخلّف لنا سوى الصراع في الداخل والتبعية لقوى العولمة في الخارج. ولعل الذين قرؤوا مقال (الأستاذ فهمي هويدي) لاحظوا أن مطالبة الإسلاميين بتأكيدهم قبول التعددية التي تشمل التيار العلماني كانت موقفاً التقى عليه رأي آخرين من أهل الفقه والنظر في مقدمتهم الدكاترة: (يوسف القرضاوي) و (أحمد العسال) و (محمد سليم العوا) . ومما يجدر ذكره أن (فهمي هويدي) ليس وحيداً في موقفه هذا، بل يمكن القول بأن هذا الرأي هو الرأي الممثل للتيار الإسلامي الأساسي» (٢) .
أعتقد أن القارئ النابه لا يستطيع أن يعرف ـ بعد هذا الذي سردته الآن ـ أين ذهب المسيري المفكر الفلسفي العميق؟
هل استغرقه الجهد في إيجاد مخرج للعلمانيين بهدف إيجاد مخرج لنفسه من الصدام مع النخبة الفكرية المسيطرة حتى ذاب تماماً في تيار السياسة؟
ولا بد أن ننظم الآن نقاط البحث حتى لا نذوب نحن أيضاً مع تيار السياسة هذا. ولذلك فإن ما يهمنا هنا هو ليس قبول التعايش أو عدم التعايش مع هذه العلمانية المعتدلة التي تتطابق إلى حد ما ـ لاحظ إصرار المسيري على استخدام مثل هذه الألفاظ (إلى حد ما) حتى يحتفظ لنفسه دائماً بالقدرة على الإفلات من المحاسبة الفكرية الدقيقة ـ مع العلمانية الجزئية.
ولكن المهم بالنسبة لنا: هل هذه العلمانية الجزئية أو المعتدلة تتناقض مع الإسلام أو لا تتناقض؟
والنقطة الثانية هي: هل هذه العلمانية الجزئية تخرج في شيء عن العلمانية الشاملة، أم أن المسألة لا تخرج عن كونها مجرد ادعاء سياسي يتم التستر به على الموقف الحقيقي من الدين أمام المجتمع الإسلامي؟
في الإجابة عن النقطة الأولى: ما هي المرجعية لنا في ذلك: هل هو الانتماء للوطن أو الانطلاق من المشروع الوطني العام أو الموقف من الاستعمار؟ إن مثل هذه الأمور قد تصح معايير للتعاون في القضايا العامة؛ وهذا أمر سياسي، ولكن ليس معايير لتحديد العلاقة بين العلمانية الجزئية والإسلام والتي لا يصح فيها إلا معيار واحد هو المرجعية الإسلامية التي تقرر أن الإسلام دين شمولي لا يقبل التجزئة، ولا يقبل الاستعاضة عنه كمرجعية في أي أمر من أمور الحياة سواء كانت السياسة أو غير السياسة. فإذا كانت هذه العلمانية الجزئية أو المعتدلة لا تقر الإسلام على ذلك، وتصر على تنحيته باعتباره مرجعية في مجال السياسة أو في أي مجال آخر؛ فهي تتناقض تماماً مع الإسلام. أما الحديث عن إمكانية التعاون مع هؤلاء العلمانيين أو عدم التعاون معهم فهذا حديث آخر، ولكنه حديث من الخارج. واستخدام ما قد يصح من مرجعية له كالموقف من الاستعمار أو الانتماء للوطن في تحديد العلاقة بين العلمانية المعتدلة والإسلام هو خلطُ ما هو سياسي بما هو عقائدي. ومن ثم يجب فهم موافقة أهل الفكر والنظر الذين ذكرهم (الأستاذ هويدي) في هذا السياق؛ أي إمكانية التعاون مع العلمانيين المعتدلين على هذه الأسس المذكورة دون أن يعني ذلك موافقة أهل الفقه منهم (وهم الذين يهموننا في هذا الموضوع) على أن هذه العلمانية المعتدلة (أو الجزئية) لا تتناقض مع الإسلام.
أما خلط هذه الأمور جميعاً لكي نصل إلى نتيجة مفادها عدم الاصطدام بالصفوة الفكرية فهو تضحية بالفكر على مذبح السياسة.
ومن ثم فإن تولي مثل هذه الرؤية لا يؤدي إلا إلى المزيد من الارتباك في الواقع الفكري، وينعكس سلباً على وضوح المواقف لدى الإسلاميين.
- المسيري والعلمانيون العرب:
يقول المسيري: «تتأرجح التعريفات العربية لمفهوم العلمانية بين العلمانية الجزئية بوصفها إجراء جزئياً لا علاقة له بالأمور النهائية مقابل العلمانية الشاملة بوصفها رؤية شاملة للكون» (١) .
والذي يعنيه هذا الكلام هو عدم استطاعة تقسيم المسيري ـ الذي استمد مصداقيته من قدرته على التفسير ـ استيعاب هذه التعريفات أو تفسيرها.
المسيري ماذا أدى به منهجه في التعامل مع العلمانيين العرب؟
يقدم حسين أحمد أمين (وما أدراك ما حسين أحمد أمين؟) فيقول عنه إنه يعرّف العلمانية بأنها «محاولة في سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة» (٢) ، ويعلق على ذلك قائلاً: «فكأن المرجعية النهائية هنا ليست علمانية، وإنما مستمدة من نسق معرفي وأخلاقي آخر، وكأن العلمانية تنحصر في الدائرة الصغيرة الجزئية» (٣) ، ثم يقول في موضع آخر: «فكأن حسين أمين يرى أنه لا توجد ضرورة حتمية للصراع بين العلمانية والدين، وأن كل ما حدث هو صراع نتيجة ظروف تاريخية طارئة، وهناك بعض المفكرين الإسلاميين ـ ممن يؤمنون بالتعددية والتدافع وضرورة الاجتهاد ومن ثم استحالة احتكار الحقيقة ـ يتفقون في بعض النقاط الأساسية مع حسين أحمد أمين» (٤) .
لم يذكر المسيري من هم هؤلاء المفكرون الإسلاميون الذين يتحدث عنهم، ولكن ذكر بعض الأوصاف التي تستخدم عادة كـ (كليشهات) سياسية دون أن يكون لها معنى محدد (ممن يؤمنون بالتعددية والتدافع وضرورة الاجتهاد) . المهم أنه بهذا الكلام الهلامي أعطى (حسين أحمد أمين) جواز مرور في عدم التصادم مع الإسلام.
وحسين أحمد أمين هذا (بعيداً عن علاقته الخاصة بالدوائر الغربية) له مؤلفات شهيرة في الهجوم على الشريعة الإسلامية كبيرها وصغيرها (راجع كتابنا: تزييف الإسلام وأكذوبة المفكر الإسلامي المستنير) ولكن من الطبيعي أن يجد له مكاناً إسلامياً في رؤية المسيري الفضفاضة والمرتبكة في العلاقة بين الإسلام والعلمانية.
أما الأمثلة الأخرى التي يتخدها المسيري للمفكرين فأشد غرابة؛ لأن نموذج (حسين أحمد أمين) نموذج معروف بالعلمانية الملتوية التي تحاول أن تتخذ ستاراً إسلامياً. لكن ما بالكم بـ (الدكتور فؤاد زكريا) ذلك المفكر المادي المعروف الذي قد تمثل صراحته الفكرية أهم مميزات فكره؟ فيذكر المسيري أن (الدكتور فؤاد زكريا) يصف العلمانية بأنها «الدعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة» (٥) ، ويوضح (فؤاد زكريا) موقفه بقوله: «إن ما تريده العلمانية إن هو إلا إبعاد الدين عن ميدان التنظيم السياسي للمجتمع، والإبقاء على هذا الميدان بشرياً بحتاً تتصارع فيه جماعات لا يمكن لواحدة منها أن تزعم أنها هي الناطقة بلسان السماء. فأساس المفاضلة بين المواقف المختلفة يجب أن يكون العقل والمنطق والمقدرة على الإتيان بالحلول الواقعية الناجحة» (١) . ويذكر المسيري لـ (الدكتور زكريا) أيضاً قوله: «إن العلماني المتحمس يرفض توجيه التنظيم السياسي للمجتمع توجيهاً يرتكز على سلطة الدين، ولكنه في الوقت ذاته يتزوج بوثيقة شرعية إسلامية» (٢) .
ثم يتساءل المسيري ـ بفيض من البراءة المصطنعة ـ هذا السؤال العجيب: «هل يمكن الحديث عن (فؤاد زكريا) بعد هذا باعتباره علمانياً شاملاً؟» (٣) .
ولا أدري: هل ينتظر المسيري أن يرفض (الدكتور فؤاد زكريا) الزواج بوثيقة شرعية إسلامية وهو يعيش بين أكناف مجتمع مسلم له ضغوطه الخاصة حتى يقبل الحديث عنه باعتباره علمانياً شمولياً؟
ثم ما الذي يهمنا هنا في هذا المثال البين (مثال الدكتور فؤاد زكريا) في رفضه لتطبيق الشريعة الإسلامية في كونه علمانياً جزئياً أو شاملاً في تحديد موقفه من الإسلام؟ ولكن الدكتور المسيري بتلك الحيلة العجيبة (ادعاء أن العلمانية الجزئية يمكنها التوافق مع الإسلام، ثم ادعاء أن الدكتور فؤاد زكريا علماني جزئي) أوجد له مخرجاً من تناقضه الفكري مع الإسلام.
وهناك مثال آخر يورده المسيري عن صاحب ما يسمى بـ (العلمانية المنفتحة) الذي يقول: «كل ما أطلبه من أجل إدخال العلمنة الصحيحة في المجمتمعات العربية والإسلامية هو إلغاء برامج التعليم السائدة، وإلغاء الطريقة اللا تاريخية والعقائدية التبشيرية لتعليم الدين في المدارس العامة، وإحلال تاريخ الأديان والأنثرابولوجيا الدينية محله» (٤) .
ويبدو أن هذه الخطوة الأخيرة أدت إلى ارتباك المسيري أو ادعائه الارتباك في تحديد موقف أركون من الدين، إذ يقول: «يبدو أن محمد أركون قد نسي الهدف الأساسي من برنامجه الإصلاحي، وهو إتاحة إمكانية وجود روحانية جديدة؛ إذ إنه بدلاً من ذلك يحدد الهدف من برنامجه بأنه «دراسة بنية العقل الديني وطريقة اشتغاله ووظائفه. ولا تهم مضامين العقائد والمذاهب بحد ذاتها» (٥) .
وكأن المسيري قد صدق بالفعل أن علمانية أركون تسمح بإمكانية وجود روحانية جديدة كما يدعي.
- يا لبراءة المسيري!
ولهذه البراءة العجيبة وضع الرجلَ في خانة المترددين بين العلمانية الجزئية والشاملة.
والمسألة ببساطة هي أن أركون ما فعل سوى ما اعتاد فعله العلمانيون العرب وهو التهويم باقتصار الرؤية العلمانية على المسائل السياسية والواقعية فقط دون التدخل في العقائد، ولكن عندما يتعلق الأمر بالخطوات العملية فلا مناص من القفز إلى قلب هذه العقائد والإطاحة بها تماماً. لكن المسيري لا يقول إنه يفهم هذا ومن ثم يزعم أنه أصيب بالارتباك من موقف الرجل.
إن المسيري بعد أن ناقش التعريفات السابقة والكثير غيرها للعلمانيين العرب يعلق على ذلك فيقول: «معظم التعريفات أهملت قضية المرجعية النهائية للمصطلح (والمفهوم) [وهل تحتاج العلمانية إلى مرجعية نهائية غير نفسها؟] ومن ثم لم يتم التمييز بين الدائرتين: الصغيرة الجزئية والكبيرة الشاملة» (٦) . وإهمال تعريفات العلمانيين العرب للتمييز بين الدائرتين ليس عيباً فيها، وإنما العيب في فكر المسيري الذي توهم وجود مثل هاتين الدائرتين، ثم جعل من هذا الوهم محكّاً للحكم على هذه التعريفات. بل إن اعتراف المسيري نفسه بإهمال هذه التعريفات لذلك التمييز يظهر مدى ما بذله من تكلّف في الاستخراج المصطنع لوجود مثل هاتين الدائرتين في تلك التعريفات. إن قلة قليلة من العلمانيين العرب (وهذا أمر طبيعي تماماً نظراً للتشبث المجتمعي بالإسلام رغم كل العداءات) هي التي من الممكن أن تتبنى صرامة موقف العلمانية الحقيقي الإقصائي من الدين، ولكن الغالب الأعم منهم يبحث دائماً عن شكل ما من أشكال الاحتيال الفكري الذي لا يضعه في هذا التعارض الصريح مع الدين. ويكاد يتمثل الجانب الأكبر من تاريخ الفكر العلماني في العالم العربي في تلك الجهود المبذولة في اتخاذ مثل تلك الأشكال المختلفة من الاحتيال الفكري.
ولكن (الدكتور عبد الوهاب المسيري) يعطي بهذا الاختلاف المصطنع لما يسمى بالعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة تسويغاً اجتماعياً (يحاول أن يضفي عليه مسحة من الإسلامية) لكل هذا الغالب الأعم.
ولأن أصعب شيء على نفس هؤلاء العلمانيين هو التأكيد على تلك الحدود الفاصلة بين الإسلام والعلمانية؛ فإن ذلك يبرز خطورة تيار الوسطية بين الإسلام والعلمانية (والذي أعطاه المسيري بكتابه هذا زخماً كبيراً) والذي يدفع للانتشار والهيمنة على الأجهزة الإعلامية من جهات عديدة، وتتمثل غاية ذلك التيار الأساسية التي تبذل من أجلها كل جهوده في محو تلك الحدود الفاصلة بين الإسلام والعلمانية.
- ما يؤخذ وما لا يؤخذ:
عندما نتجاوز الصفحات والفصول التي يبرز فيها المسيري السياسي المناور (وهي الصفحات التي تتحدث تحديداً عن علاقة العلمانية بالإسلام) وننتقل إلى الصفحات والفصول التي يتحدث فيها المسيري الحقيقي (المسيري الفيلسوف أو بقول أدق سسيولوجي الفلسفة أي عالم اجتماع الفلسفة) سنجد كتابات باهرة في تفكيك ونقد العلمانية والحضارة الغربية بوجه عام؛ وهذا هو الشيء الحقيقي الذي يجب أن يستفاد من المسيري برغم ما قد يسببه من إرباك شديد فيما يكتبه عن العلاقة بين الإسلام والعلمانية، ومن أمثال ذلك المستفاد ما كتبه حول (التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع ـ التمركز حول الأنثى ـ العقل الأداتي ـ علمنة الفكر ـ علمنة الرؤية ـ الإمبريالية وعلمنة العالم) . وكتب أيضاً كلاماً جيداً عن المتتالية العلمانية (وهي منظور المسيري الخاص للعلمانية الذي يوجه كل فكره) . وبالرغم من خلافنا مع المسيري حول تلك المتتالية إلا أنها تمثل تناقضاً فلسفياً مع ما كتبه عن علاقة العلمانية بالإسلام وتقسيمها إلى علمانية جزئية وعلمانية شاملة، ولكن الأمر يحتاج إلى الكثير من الشروح، وسنعمل هنا على تركيزه في حدود نقدنا الأساسي للمسيري حول تقسيمه للعلمانية.
يتحدث المسيري عن العلماني كمتتالية كما يلي: «يمكننا تخيل متصل من المدلولات في أقصى أطرافه وهو ما نسميه (العلمانية الجزئية) وفي الطرف الآخر ما نسميه (العلمانية الشاملة) » (١) . ثم يقول في موضع آخر: «والفرق بين ما نسميه (العلمانية الجزئية) وما نسميه (العلمانية الشاملة) هو في واقع الأمر الفرق بين مراحل تاريخية لنموذج واحد؛ فالعلمانية ليست مجرد تعريف ثابت، وإنما ظاهرة لها تاريخ، وتظهر من خلال حلقات متتابعة.
ولذا فبدلاً من أن نتحدث عن نموذج العلمانية (ومصطلح «نموذج» ينطوي على قدر كبير من الثبات) يجدر بنا أن نتحدث عن متتالية نماذجية تتحقق عبر الزمان وفي المكان (٢) .
وما نراه أن العلمانية ليست متتالية مادياً، وإنما هي رؤية تؤدي إلى آلية إنتاج فكري تؤدي في بعض مساراتها مرحلياً إلى متتالية مادية قد تنعكس إلى وجهة مضادة؛ بينما تؤدي المسارات الأخرى إلى أشكال مختلفة من الإنتاج الفكري يكون من التعسف دمجها قسراً في تلك المتتالية المادية. فقد يمثل المسار الفكري (ديكارت ـ أسبينوزا ـ هوبز ـ لوك ـ هيوم) متتالية مادية ولكننا نجد ربوبية فولتير (أياً كان تفسير المسيري لها) فاصلة تمضي باتجاه معاكس ليعود تتبع المتتالية مرة أخرى ولكن بشكل أقل حدة مع (دولباك - ديدرو - دولمبير) لكنها تأخذ اتجاهاً معاكساً مع الإيمان الوجداني لـ (جان جاك روسو) والإيمان الأخلاقي لـ (كانت) على الرغم من عقلانية الرجليين العلمانية. لكن المسيري يميل إلى الترشيد في رصد النتاج الفكري العلماني، والترشيد في رصد الظواهر الفلسفية كلها في مسارات وقوانين محدودة (متأثراً في ذلك ـ بحسب رأينا ـ بماركسيته السابقة) وهو الأمر الذي يدفعه لجمع نتاج المسار المادي العلماني كله فيما يسميه (بالوحدانية المادية) والتي يطابق بينها إلى حد كبير وبين الوحدانية الروحية الصوفية وهي إجراءات تؤدي إلى زيادة التعقيد في تحليل الرؤى الفلسفية وليس إلى تبسيطها بحسب رأينا.
ولكن دع كل ذلك جانباً، ولنعد إلى قضية المسيري الرئيسية (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) فهل كون العلمانية ما هي إلا متتالية لا تختلف في مراحلها الزمنية إلا من حيثُ كمِّ المنتَج الفكري المادي الذي تنتجه. أقول: ألا يعني ذلك أن العلمانية كينونة معرفية واحدة، وأن الخلاف من حيث الكم في محتواه المادي لا يغير شيئاً من حيث نهجها المعرفي، ومن ثم يغدو تقسيمها إلى جزئية وشاملة من حيث كمها المادي تقسيماً تعسفياً لا معنى له؟ وهل يعني هذا أن المسيري عندما عرَّف العلمانية كمتتالية معرفية تناقض مع تقسيمها الأول إلى جزئية وشاملة، أم أن الأمر لا يعدو كون المسيري يدرك قبل الجميع حقيقة هذا التناقض ومع ذلك يصر على احتياله السياسي بتمسكه بهذا التقسيم؟
وأخيراً أذكِّر مرة أخرى بما قلناه في البداية ـ وهذا أهم ما في الموضوع ـ أنه أياً كان الأمر، وعلى فرض كون العلمانية جزئية أو شاملة، فهي في كل الحالات تتناقض مع الإسلام؛ لأن الإسلام منظومة شاملة لا تقبل التجزئة بأي شكل من الأشكال.