[الاستفزازات الأمريكية ليست وليدة ١١ سبتمبر]
ممدوح إسماعيل
ترددت مقولة في الإعلام العربي عبر وسائله المتعددة مفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تحارب بلداً عربىاً ولا مسلماً من قبلُ، وأنه ليس بين العرب والأمريكان ثأرات قديمة أو جروح قديمة من استعمار ماضٍ كما هو الحال مع البريطانيين والفرنسيين، وأن حرب واحتلال العراق ليس ضد العرب ولكن ضد الإرهاب والاستبداد وأسلحة الدمار؛ ولما انتفى الاستبداد، ولم يجدوا أسلحة دمار شامل قالوا من أجل ترسيخ الديمقراطية، وحتى هذه الدعوى لم تجد تصديقاً في الواقع. ولقد اعتمدوا فى ترويج مقولاتهم على أن صفحاتهم المدونة فى التاريخ مجهولة للمعاصرين، ولكن بفضل الله وعملاً على ربط الحاضر بالماضي وكشف زيف الطغيان الأمريكي بكل صوره تبرز تلك الصفحات، وتبدأ بأول صفحة مجهولة؛ ففي عام ١٨٠٠م ظهر فى الجانب الغربي من البحر الأبيض المتوسط سفينتان بحريتان أمريكيتان تجوبان البحر بحجة وهمية هي مكافحة القرصنة والنضال ضد القرصنة (كما يحدث الآن لا بد من وجود حجة وهمية الإرهاب ـ أسلحة الدمار الشامل) .
وفي الفترة من عام ١٨٠١ - ١٨٠٥م شن الأمريكيون حرباً دون سابق إنذار ضد طرابلس الغرب (ليبيا) وحاصر الأسطول الأمريكي العاصمة طرابلس (رغم وجود اتفاقية عام ١٧٩٦م بين الأمريكان وحاكم طرابلس لاستخدام الموانئ والمياه الإقليمية للسفن الأمريكية كترانزيت مقابل ١٠ آلاف دولار سنوياً) واتصل عملاء أمريكا بشقيق حاكم طرابلس (داي طرابلس) يغرونه بالاستيلاء على الحكم بدلاً من أخيه وكان ذلك الشقيق يعيش وقتها فى القاهرة واسمه (حامد كرمنلي) ووقع اتفاقية مع أمريكا لمساعدته في الوصول إلى حكم ليبيا بدلاً من أخيه يوسف كرمنلي.
ومقابل ذلك تعهد العميل (حامد كرمنلي) بتقديم العون للبحرية الأمريكية ضد التجار الأوروبيين المنافسين وأن يوفر للأمريكان وضعاً مميزاً فى البلاد، ووعد بتعيين القنصل الأمريكي في تونس (إيتون) قائداً للقوات المسلحة الليبية، وتولى (إيتون) قيادة الجيش الليبي المشكل من أعوان (حامد كرمنلي) بالأموال الأمريكية ومساعدة المخابرات الأمريكية، وهاجم مدينة (درنة) بمعاونة مدفعية الأسطول الأمريكى وفصيلة من المشاة البحرية، ورفع العلم الأمريكي فوق (درنة) ومنها تقدم إلى طرابلس، وعندئذ ذهل (يوسف كرمنلي) حاكم طرابلس من المفاجأة؛ حيث لا أسباب ولا مقدمات تدعو لهذا الهجوم الأمريكي، فوقَّع مضطراً معاهدة مع القنصل العام الأمريكي في أفريقيا الشمالية تحقق لهم مطالبهم، وكانت هذه المعركة أول معركة في تاريخ العالم العربي تشنها أمريكا على بلد عربي مسلم.
ويتغنى الأمريكان حتى يومنا هذا في نشيدهم الوطني لمشاة البحرية بهذه المعركة قائلين: (من تلال مونتيزوما إلى سواحل طرابلس، في السماء، في الأرض، في البحر خضنا معارك الوطن) . وفي مقابل هذه قامت (زمرة إيسكس) وهي كتلة من رجال الأعمال الأمريكان عرفت بهذا الاسم واسم آخر (شركاء بوسطن) وكان لهم نفوذ سياسي كبير في الولايات المتحدة نتيجة الأموال الطائلة التي يجنونها من تجارة الأفيون، وكانوا يؤثرون في انتخابات مجلس الشيوخ وتعيين الوزراء والشخصيات الهامة. ونلاحظ الدافع الاقتصادي كالبترول حالياً؛ بتكريم القائد (إيتون) حيث وصفته بأنه قاهر أفريقيا، ومنحته ولاية (ماساشوستش) هدية عبارة عن ١٠ آلاف فدان من الولاية.
وبينما كانت السفن الحربية الأمريكية تستعرض عضلاتها في البحر الأبيض بعد الاستيلاء على طرابلس تحركت السفن الأمريكية نحو ميناء طنجة بالمغرب وحاصرته بدون أسباب أو مقدمات أو إنذارات، وتلقى ملك المغرب رسالة إرهابية من قائد القطع البحرية الأمريكية في أكتوبر عام ١٨٠٤م جاء فيها بالحرف بالواحد: (أيرغب السلطان في السلام أم في الحرب؟) فهل بعد ذلك إرهاب؟ التاريخ يعيد نفسه: من ليس معنا فهو ضدنا؛ إرهاب لا حدود له.
وعلى أثر وصول تلك الرسالة والتحذير والحصار ضعف الملك، وأذعن أمام الحصار ووقع معاهدة تضمنت شروطاً مجحفة للمغرب، والعجيب أنها مدونة مفعول معاهدة كانت موقعة بينهم عام ١٧٨٦م بشروط إضافية جديدة.
وهكذا وتحت الإرهاب الأمريكي ضاعت ليبيا ثم المغرب، ولم يبقَ غير تونس التي قام القنصل الدبلوماسي الأمريكي بأعمال استفزازية مع الحكومة التونسية اضطر على أثرها داي تونس في يوليو عام ١٨٠٥م لطرد الممثل الأمريكي، وكان الأمريكان في انتظار تلك الخطوة؛ فعلى أثر ذلك بادرت المدفعية الأمريكية في أول أغسطس عام ١٨٠٥م بفتح نيرانها بقسوة على مدينة تونس العاصمة بأوامر من قائد الأسطول البحري الأمريكي (روجرز) دون سابق إنذار.
وسقطت القنابل والقذائف، وتناثرت الشظايا عشوائياً فوق المنازل والبيوت البسيطة والخيام، تدمِّر وتهدم، وتفتك بهذا وتقتل ذاك دون تمييز بين رجل وامرأة، أو بين شيخ وطفل؛ إنها القرصنة قديماً والإرهاب حديثاً. واستلم داي تونس من (روجرز) تعهداً ضمنياً للتوقيع عليه مفاده أن يُعطَى فوائد وتسهيلات إضافية لأجل الربابنة والكومودورات الأمريكيين، وقال (روجرز) إن التوقيع على هذه الوثيقة في الحال ينقذ عاصمة تونس من الدمار المحقق. وبدون تردد وقع داي تونس لتنكشف وتنفضح المقولة الأمريكية حول القراصنة، ويتضح أنهم هم القراصنة. ولعل ذلك يأخذنا إلى ما كتبه المؤرخ الأمريكي سبيرس عام ١٨٩٧م أي بعد دخول تونس بحوالي ٩٠ عاماً يقول: «لم تُخْفِ أمريكا اعتداءاتها على شعوب العالم الإسلامي، ولم تستطع أن تصور للعالم أنها صديقة للعالم الإسلامي، وأنها محبة للسلام وصديقة الإسلام الدائمة وهو ما أدهش حتى شعوب أوروبا؛ فتحت القصف العشوائي لمدافع السفن الأمريكية أُمليت على حاكم تونس شروط ومعاهدة وهو ما لم يحدث له مثيل من قبل» . المؤرخ يتحدث عن زمانه فما باله لو عاش لأيامنا هذه؛ فماذا كان سيقول وماذا كان سيكتب؟ ولم تكن الجزائر بعيدة عن هذه القرصنة الأمريكية، ولكن كانت أمريكا في الفترة من عام ١٨١٢م إلى ١٨١٤م مشغولة في الحرب الأنجلو أمريكية الثانية، وفور انتهائها عرضت زمرة (إيسكس) على الحكومة الأمريكية خطة احتلال الجزائر وطالبت الحكومة بالتنفيذ عام ١٨١٥م. وعلى الفور اتجهت سفينتان حربيتان نحو الجزائر بقيادة (ديكاتور ودبنبريدج) أيضاً تحت الحجة الوهمية القرصنة والقراصنة؛ فلم تكن كلمة الإرهاب والإرهابيين موجودة. وعندما اقتربت السفن من موانئ الجزائر رفعوا على سفنهم الأعلام الإنجليزية لتضليل الجزائريين، وفي هجوم وحشي خاطف وسريع وغادر على الأسطول الجزائري صوبوا مدافعهم فدمروه، وغرقت السفن الجزائرية بمن فيها، وتوجهت سفن الأسطول الأمريكى نحو مدينة الجزائر لتمطر الأهالي المدنيين الأبرياء بالقنابل والقذائف من المدفعية الثقيلة، وأثناء ذلك القصف والدمار والتخريب أرسل قائد الأسطول الأمريكى إنذاراً للحاكم الجزائري (عمر) بتوقيع معاهدة جائرة تتضمن بنوداً لمنح التجار الأمريكيين فوائد وتسهيلات، فلم يوافق الحاكم الجزائري (عمر) على هذه المعاهدة، فعاد الأسطول الأمريكي عام ١٨١٦م بسفن حربية كبيرة مزودة بمدافع أضخم وأحدث؛ عندئذ طلب الحاكم الجزائري من الدبلوماسي الأمريكي (شيلر) أن يعطيه شهادة خطية تفيد أنه اضطر لقبول هذه الاتفاقية تحت تهديد فوهات المدافع، وفعلاً حصل على تلك الشهادة، ووقع المعاهدة مع أمريكا مجبراً تحت التهديد في ديسمبر ١٨١٦م.
وأخيراً تبقى مصر التي هي دائماً حاضرة في مخططات كل المستعمرين؛ ففي عام ١٨٧٠م كان يعيش في القاهرة أكثر من ٥٠ عسكرياً أمريكياً بمن فيهم ٥ جنرالات يعملون في خدمة القوات المسلحة المصرية؛ فقد تم تعيين الجنرال الأمريكي (ستون) رئيساً لهيئة أركان حرب القوات المسلحة، والعقيد (شايا لونج) لشؤون السودان، ولقد استلم خديوي مصر عام ١٨٧٠م تحذيراً من الحكومة البريطانية والفرنسية بسبب النشاط الأمريكي في الشؤون العسكرية المصرية، وكان هذا الإنذار للتمويه على حقيقة العلاقات الخفية بين المخابرات الأمريكية والبريطانية والإيطالية؛ فقد قامت الدول الثلاث بإمداد جيش الحبشة سراً بالسلاح، وعملوا على توريط مصر بالحرب ضد الحبشة عام ١٨٧٦م لإضعاف الجيش المصري وإنزال الهزيمة به، ولقد اشترك ضباط أمريكان مع جيش الحبشة ضد القوات المصرية في تلك الحرب التي هزم فيها الجيش المصري بفضل الأسلحة والمساعدات الأمريكية والبريطانية والإيطالية، ولقد استغلت بريطانيا تلك الحرب لتهاجم الإسكندرية عام ١٨٨٢م وقصفتها قصفاً وحشياً؛ والخطير والملفت للنظر في هذه الحرب البريطانية هو اشتراك أربع قطع بحرية أمريكية بقيادة الجنرال البحري (نيكولسون) مع الأسطول الإنجليزي في مهاجمة الإسكندرية، وتسبب هذا الهجوم في قتل عشرات الألوف من المصريين، وتدمير المدينة، وبعد القصف نزلت على ساحل مدينة الإسكندرية فصيلة بحرية أمريكية مع قوات الاحتلال البريطاني، وكان يرأس هذه الفصيلة العقيد (شايا لونج) نائب رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية لشؤون السودان.
ما قدمناه مرور سريع على صفحات مجهولة لكثير من العرب والمسلمين، ولكنها في الوقت الحالي مهمة جداً، أن تُعرف ويعيها الجميع ليتعلموا من الماضي والتاريخ دروساً تفيدهم في فهم الواقع والتعامل معه بفطنة؛ فما أشبه الليلة بالبارحة، فأسباب الحرب لم تختلف، والحجج للحرب لم تختلف، ولكن الذي اختلف ليس الأمريكان وإنما العرب.
ملحوظة: من أراد التوثيق يمكنه الرجوع إلى الموسوعة البريطانية حرب طرابلس الغرب وما يتعلق بها، وموسوعة أنكارتا الخاصة بميكروسوفت.
(*) محامٍ وكاتب إسلامي.