[التلازم بين الديمقراطية والرفاهية]
د. عبد الحميد الدخاخني
كثيراً ما سمعت حوارات بين مثقفين وأنصاف مثقفين وبسطاء ... مليئة بالوصفات السحرية لحلِّ المشكلات التي تعاني منها مجتمعاتنا المسكينة، هذه الحلول مثل حلول (جنرالات المقاهي) الذين يخوضون في كل شيء؛ من السياسة إلى الدِّين إلى الطب. ولكن من أكثر ما سمعت في الآونة الأخيرة كان الحديث عن الديمقراطية باعتبارها العلاج الناجع لكل أمراضنا المزمنة، وهي النهاية الحاسمة لاستبداد المستبدين، والأهم من كل ذلك أنها هي التي ستنهي فقر بلادنا ومعاناتنا؛ حيث ستنهمر الخيرات على البلاد والعباد بمجرًّد تناول الوصفة السحرية.
ذهب أحد محافظي مصر المشهورين إلى النمسا في زيارة، ولما سأل عن سرِّ نظافة البلاد، أخبروه بنظامهم، ومن ضمنه الأكياس السوداء لجمع القمامة، فتركَّز نظر الرجل على فكرة الأكياس السوداء، فلما عاد سرعان ما طلب تطبيقها في مصر المحروسة، وكالعادة ـ فالباشا دائماً على حق ـ تمَّ تعميم هذا الأمر، وكالعادة ـ أيضاً ـ ازدادت المشكلة؛ فهناك جيش من جامعي هذه الأكياس لإعادة تدويرها، حيث يفرغون محتوياتها في الشارع ويمضون بالأكياس سعداء، وهناك جيوش من القطط والكلاب الضالّة تبحث عن أقواتها في هذه الأكياس دون أن تعبأ بالأنظمة السخيفة التي اخترعها البشر دون مشورتها، وهناك الكثير من أفراد الشعب يستمتع بصوت رمي القمامة من الشبابيك، خاصة في أنصاف الليالي، ونسي المحافظ المسكين كل هذه الفروق بين التجربة التي رآها وانبهر بها، وبين البيئة التي يحكمها وهو مسؤول عنها، فكانت الكارثة.
عندما كتب «فوكوياما» أحد المفكرين الأمريكيين نظرية (نهاية التاريخ) كان ظنُّه أن الغلبة ستكون للديمقراطية والقيم الغربية، وأن الحضارة الغربية ستعمُّ كل الدنيا، ومن سيعترضها سيُسحق أو يذوب في ثناياها. بعد عدة سنوات تراجع الرجل عما ظنَّه نهاية للتاريخ، وكان عنده من الشجاعة ما يعلن به تراجعه.
المشكلة عندنا أن أنصاف المثقفين الذين يجترّون ما يلقه الغرب في أفواههم دون أن يميزوا ما ينفعهم مما يضرهم أو ما يصلح لمجتمعاتهم مما يتنافى معها.. هؤلاء لا يتراجعون أبداً عما تعلَّموه من السادة ذوي الشُّعور الشقراء والعيون الزرقاء. تلقَّفوا منهم أن الديمقراطية هي الحل الشامل لكل المشكلات، ونسوا أن هناك بلاداً عريقة في تطبيق الديمقراطية ومع ذلك هي إحدى أبشع أمثلة الفقر على كوكبنا، مثل: الهند، التي يزيد عدد الفقراء من سكانها على (٨٠%) .
ونسوا أن هناك أنظمة طالما وصفها الغرب بالدكتاتورية وإهدار حقوق الإنسان وهي تحقق معدلاً من التنمية كثيراً ما فاق (٨%) سنوياً، مثل: الصين، وبدأت الصين تدخل الآن في حالة من الرفاهية تختلف تماماً عما كان الحال عليه قبل عشرين بل قبل عشر سنوات فقط.
بدأت الديمقراطية في الغرب منذ القِدَم عبر التجربة اليونانية؛ حيث كان الناس (وهم الأحرار اليونانيون من الذكور فقط) يجتمعون للتشاور وتقرير أمور المدينة، ثم انتهت بسرعة مع تكوين الدول المركزية واتِّساع حدود الإمارات اليونانية، ثم جاءت بعدها الدولة الرومانية بقناصلها المنتخبين من الشعب، وسرعان ما تحوَّلت إلى إمبراطورية على يد أوكتافيان (أغسطس) ابن قيصر بالتبنِّي. ثم غابت هذه الديمقراطية عن الغرب حتى جاءت على استحياء في بريطانيا أولاً، ثم فرنسا بالثورة الفرنسية عام ١٧٨٩م، وانتشرت منها إلى كل أوروبا نظرياً؛ أما عملياً فقد جاء نابليون قائداً للجمهورية وانتهى إمبراطوراً منفياً.
أما في معظم البلدان الإسلامية فلا الديمقراطية تملأ سياساتنا ولا الرأسمالية يمكن تطبيقها في مجتمعات إسلامية ذات قيم ومواريث وأخلاقيات تضبط جنوح الأفكار البعيدة عن الدِّين والحضارة الإسلامية.
ثم هل الرفاهية هي المطلب الأول أو الأوحد للمسلم؟
هل حقّقت الرفاهية الأوروبية السعادة لرجل الشارع العادي الذي يخاف النزول إلى الشارع بعد الثامنة مساءً؟
هل حقّقت الرفاهية السعادة عند تفسُّخ المجتمعات وانهيارها؟
ألا يجدر بنا مراجعة أولوياتنا بدلاً من الجري وراء السَّراب.. أو دخول جحر الضبِّ خلف من دخلوا واختنقوا وهلكوا؟