الورقة الأخيرة
[واقعنا بين الـ (كم) والـ (كيف)]
د. شاكر السروي
نخطئ كثيراً عندما ننساق في زحمة الهموم وفي خضم السعي لتكثير سواد
المسلمين وراء الكم والحرص على تحصيله دون التأكد من الكيف والعمل على
تحقيقه.
كما أن الصواب لا يحالفنا عندما نعتمد وسيلة تأليف القلوب بالماديات فقط مع
المدعوين مهما امتد مكثهم بيننا.
بل إن الخطأ يكون أشنع عندما نعتمد هذه الطريقة أداة رئيسة في استبقائهم
معنا، وربما وفي أحيان كثيرة تكون هي الأداة الوحيدة.
إن الأمر قد لا يكون بهذا الوضوح في واقع الدعوة، كما هو من الناحية
النظرية؛ فقد يكون من المدعوين من يستمر في الطريق؛ لأنه يحصل على ميزات
هي في مضمونها للدعوة، ولكنها تكون وسيلة لاجتذابه، لكونه المباشر لها،
والقائم عليها، وتكون في ذلك قد وافقت منه حباً للظهور أو التصدر والرياسة،
ويصحب ذلك من المربي بقصد أو بدون قصد عدم الحرص على تزكيته وربطه
بالدار الآخرة؛ فيكون والحالة هذه في نظر من ضعفت فراسته شعلة من النشاط،
وطاقة لا تنضب، وفارس ميدانه ووحيد عصره، إلى غير ذلك من الألقاب
والنعوت، ثم يُمكَّن له أكثر فأكثر، ويتصدر ثم يتصدر، حتى إذا صلب عوده،
واشتد ساعده لم يمكن بعد ذلك كبح جماحه فضلاً عن تزكيته.
ومثل هؤلاء قد لا يظهر عُوارهم في المألوف من الأحوال والأزمان، وإنما
عندما تأتي سنن الابتلاء بالخير أو الشر، وعندها تكون ضرباتهم في مقاتل.
إن غرس مبدأ التطلُّع للآخرة والسعي لطلب مرضاة رب العالمين هو الأساس
الذي قامت عليه الجماعة الأولى، والركيزة التي انطلق منها الرسول الكريم عليه
أفضل الصلاة وأزكى التسليم لبناء القاعدة الصلبة التي ثبتت وضحَّت وآثرت
الآخرة على الأولى، فكانت ممن صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
جاء الأنصار في بيعة العقبة يُشارطون الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما
عرفوا شرطَهُ، تساءلوا: ما لنا؟ فكان الجواب: «لكم الجنة» .
فتربى على هذا الأمر الجميع والتزموه منهجاً، فلم تُغْرِهِمُ المغريات، ولم
تفتنهم المفاتن، بل ضحُّوا في سبيل ذلك بكل غالٍ ونفيس، وضربوا في سبيل
الثبات على المبدأ أروع الأمثلة في البذل والعطاء والتضحية.
فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه أنعم فتى في مكة يهجر كل لذة دنيوية،
ويبذل كل البذل حتى يتوِّج ذلك بالشهادة في سبيل الله، ثم لا يُوجد له ما يُكفَّنُ به،
فيُغَطَّى أسفله بورق الإذخر.
وهذا صهيب رضي الله عنه يترك كل تجارته في سبيل اللحاق بركب
المصطفى صلى الله عليه وسلم مهاجراً، وهؤلاء الصحابة يحفرون الخندق وقد
ربطوا على بطونهم الحجارة، وإذا ما شبع أحدهم يوماً وقف مع نفسه وقفة
المحاسبة والعتب والخوف أن تكون حسناته قد عُجِّلتْ له! !
بل العجب لا ينقضي وأنت تقرأ حديث جابر رضي الله عنه الذي عند مسلم
قال: «سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوت كل رجل منا في كل
يوم تمرة، فكان يمصها ثم يصرُّها في ثوبه، وكنا نختبط بقِسِيِّنا ونأكل، حتى
قرحت أشداقُنا، فأُقسم أُخْطِئَها رجلٌ منا يوماً فانطلقنا به ننعشه، فشهدنا أنه لم
يُعطَها فأُعطيها فقام فأخذها» [١] .
فعجباً لأولئك القوم يجاهد أحدهم بنفسه، ويسعى ليبذل روحه رخيصة في
سبيل الله، حتى إذا أخطأته تمرة هي كل قوته في يوم كامل لم يكن له أن يأخذ
عوضاً عنها وقد حُمِلَ حملاً من شدة الجوع حتى يقيم البينة على ذلك! !
فما أحوجنا في زمن المغرِيات، والملهِيات، ومع تكاثر من يبيع دينه بعَرَضٍ
من الدنيا قليل، أن نكون أكثر حرصاً وأدق تمحيصاً للصف، وأن نعين إخواننا
على تصحيح النوايا وتصويب المقاصد، ولا ننسى مع ذلك أن الأمر يقضى في
السماء؛ فلنجتهد في الدعاء، ولنتزود بالتقوى. قال تعالى: [وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] (آل عمران: ١٢٠) .
(١) رواه مسلم، ح/ ٣٠١١.