للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من قضايا العلم والتعلم

بقية الحديث عن البديل

(٣)

د. عبد العزيز القارئ

في غياب العلماء الربانيين، وفي ظل علماء الحاشية [١] تولد في نفوس

كثير من طلاب علوم الشريعة روح التمرد، فأعلنوا العصيان على العلماء.

ظاهرة واحدة لها جانبان متشابهان هما وجهان لشيء واحد: في غياب الفقهاء

المجتهدين، وفي ظل المقلدين الجامدين (المتعصبين لمذاهبهم لقلة علمهم) نشأ روح

التمرد على مدارس الفقه ومذاهبه كلها من أساسها، فوقعت أو تكاد تقع مهزلة فقهية.

وفي غياب العلماء الربانيين في ظل علماء الحاشية نشأ روح التمرد

والعصيان في نفوس المتفقهين وطلاب علوم الشريعة، ليس على العلماء فحسب،

بل على كل شيء، تمرد على جميع الضوابط، فإذا بأبرهة وجيشه، يعكر صفوهم، ويبدد اطمئنانهم هذا التمرد الذي أتاهم من حيث لا يحتسبون.

لاشك أنهم في حيرة دائمة: إن كان هناك علماء ربانيون فالخوف من الطيور

الأبابيل، وإن لم يكن فالخوف من انفلات روح التمرد من عقالها، ولعل هذه

مخوفة أكثر من تلك، لأن هذه بلا ضوابط، [ويَأْبَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ولَوْ كَرِهَ

الكَافِرُونَ] .

وراح المتفقهون يعلمون أنفسهم بأنفسهم، ويربون أنفسهم بأنفسهم، وهذا أمر

غير ممكن، لا يستطيع أي صغير أن يرضع نفسه بنفسه، لا ينبت ريشه إلا في

المحاضن الصحيحة التي خلقها الله لذلك.

كل مجموعة ائتلفت من هؤلاء المتفقهين تجمعت حول نفسها تحاول التعلم،

ولكن أين المعلم، أين الرأس؟ .

رأى الإمام أبو حنيفة حلقة في المسجد فقال: من هؤلاء؟ قالوا: جماعة

يتفقهون. قال: هل لهم رأس؟ قالوا: لا. قال: لا يفقهون أبداً [٢] .

في مجال علوم الشريعة عملية التعلم والتعليم أهم عنصر فيها هو (الرأس) ،

أي العالم المعلم، لأنه منوط به أمران مترابطان لا انفصام بينهما: التعليم والتربية: أي (التدبير والسياسة) [كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] [آل عمران / ٧٩] .

قال ابن جرير: الربانيون هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين

والدنيا، ولذلك قال مجاهد: وهم فوق الأحبار. لأن الأحبار هم العلماء، والرباني: الجامع إلى العلم والفقه البصر والسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما

يصلحهم في دنياهم ودينهم [٢] .

هذا هو معنى (الرأس) : أي عالم رباني يسوس أمور المتعلمين ويدير شئونهم، ويربيهم ويعلمهم.

بدون هذا الرأس لا يفقهون أبداً، لأن الفقه في الإسلام ليس نظريات مجردة،

ولا قوانين جامدة، ولا معلومات منفصلة عن الحياة، إنه علم وعمل، علم أنزل

للتطبيق، وللحياة، ولذلك كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلقون

العلم والعمل معاً.

ولكن أمام ضغوط المجتمع الفاسد، وقصور البديل المتاح سواء كان تعليم

علماء الحاشية، أو التعلم بلا رأس: كثرت الآفات التي يصاب بها المتفقهون اليوم.

من أخطرها فساد المقصد: ومن أعجب مظاهر فساد المقصد هذا الحرص

العجيب على (الإمامة) ، والرئاسة العلمية، هل يلهث جميع هؤلاء لنيل الإمامة؟ .

تجد متفقهين يفترض أنهم في أول الطريق، حدثاء الأسنان، وإن لم يكونوا

حدثاء الأسنان فهم (حدثاء العقول) تجدهم يتعلمون أدوات الاجتهاد (أصول الفقه،

أصول الحديث، تخريج الحديث، علم الرجال، أدلة الأحكام، التفسير، أصول

التفسير ... ) قبل أن يتعلموا الفقهين: فقه التوحيد، وفقه الأحكام، مع أنهما

واجبان ليس على كل متفقه فحسب، بل على كل قادر على التعلم، بينما (الاجتهاد)

لا يجب على كل متفقه، بل لا يجوز أن يتصدى له أي متفقه حتى يكون أهلاً له،

ولا يكون أهلاً له حتى يجتاز مراحل علمية، ويستوفي شرائط معينة لا يسقطها

ضجر هؤلاء المتفقهين بها، لابد من ذلك وإن ضجر منه (حدثاء العقول) .

بعض العلماء المعاصرين ممن لم تتحقق فيهم صفة (الكفاية) ، أي الخبرة

والحنكة، لا أقول بعالم السياسة فحسب، بل حتى بأصول التربية (الربانية) ،

الحنكة والخبرة بتدبير شئون المتفقهين، بعض هؤلاء العلماء يشجعون ظاهرة طلب

الإمامة العلمية والجري وراءها من حدثاء الأسنان وحدثاء العقول تحت وهم أن ذلك

يشجع على حرية التفكير.

منذ عام ١٣٨١ هـ رأيت ماذا صنع هذا المسلك، وعشت في داخله متأثراً

حيناً، ومتفرجاً في أكثر الأحيان، وشاهدت بعيني ماذا فرخ لنا هذا الأسلوب في

تعليم المتفقهين، فرخ لنا جيلاً جدلياً من الأئمة الصغار - صغار الأسنان أو صغار

العقول - أتقنوا (الجدل) بدلاً من العلم، حتى إنهم كانوا يجتمعون حول (شيخ

الحديث) في بعض الرحلات البرية يجادلونه طوال الليل حتى مطلع الفجر في

مسائل معدودة لا يتجاوزونها، وأكثرها بينها الشيخ المذكور في كتبه التي صنفها،

لكنهم لا يقرأون، لأن القضية عندهم لم تصبح قضية التعلم، وإنما هي شهوة الجدل. حضرت يوماً درساً فقهياً لأحد أفاضل العلماء، وكان من عادة ذلك الشيخ أن

يخصص الوقت بعد صلاة العشاء للأسئلة، وتقدم فتى في سن (المراهقة) لم يخضرَّ

شاربه بعد، وبين الأذان والإقامة لم يطق صبراً حتى يأتي وقت الأسئلة بعد صلاة

العشاء، وحشر الفتى نفسه بين الصف حتى لاصق منكبي الشيخ، ثم سأل:

الفتى: هل تُشترط الطهارة لمس المصحف؟ .

الشيخ: نعم.

الفتى: ما الدليل؟ .

الشيخ: قوله تعالى: [لا يمسه إلاَّ المُطَهَّرُونَ] ، وحديث: «ألا يمس

المصحف إلا طاهر» .

الفتى: أما الآية فلا دليل فيها لأن المراد بها اللوح المحفوظ، وأما الحديث

فالمراد به ألا يمسه إلا مسلم بدليل نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن حمل

المصحف إلى أرض العدو.

والتفت إليه الشيخ فإذا هو فتى حدث السن، فتبسم وقال له: ما الذي ترجح

أنت؟ .

الفتى: أنه لا تشترط الطهارة لمس المصحف.

الشيخ: أعمل بما ترجح لديك.

هذا الأسلوب في تربية الشباب المبتدئين كان يمكن أن يخرج علماء متحرري

الفكر، لو كان أسلوباً صحيحاً سليماً، لكن التجربة التي شاهدتها بنفسي وعشت

داخلها متفرجاً في أغلب الأحيان أثبتت أنه إنما يُفرَّخ (جدلِيين) بلا علم، وأحياناً

يفرخ أدعياء مغرورين يملئون الدنيا ضجيجاً وجدالاً، وربما كتباً، كل ذلك بلا علم

ذلك لأنه فتح باب الاجتهاد على مصراعيه فدخله كل من هب ودب، كأنما هي

دعوة (الجَفَلَى) إلى الاجتهاد.

فكان من ظواهر هذا المسلك العجيب أمران عجيبان:

أولهما: أصبحت الساحة العلمية مباحة لكل من هب ودب، يصول فيها

ويجول كل من اشتهى ولو لم يحمل سلاحاً ولا عدة، فإذا بنا نشاهد أطباء يفسرون

القرآن، ومهندسين يصنفون في الحديث، بل وعمالاً ومهنيين عوام يقصدون

للفتوى والتصنيف في الحلال والحرام، نعم إن تدبر القرآن والتفقه في الدين ليس

محتكراً لطبقة من الناس، فلا (كهنوت) في الإسلام، تدبر القرآن والتفقه في الدين

مطلوبان من كل مسلم، لكن هذا شيء والتصدر للفتوى والاجتهاد والتصنيف شيء

آخر.

الفتوى والاجتهاد والتصنيف في علوم الشريعة كل ذلك (حكر) على أهله،

وأهله هم كل من تحققت فيهم الأهلية (العلمية) حسبما يقرره أهل الاختصاص،

وحسب الضوابط والقواعد التي اصطلحوا عليها، واستمر العمل بها إلى اليوم.

ثانيهما: أنه نتيجة لهذا المسلك العجيب في التعليم الذي جعل الدعوة إلى

الاجتهاد (الجفلى) ، أصيب طلبة العلم أنفسهم بداء العجلة وسقوط الهمم، ونفاد

الصبر، أو قل عدمه بالكلية، أصبحت صدور طلبة العلم ضيقة، وهممهم ساقطة

هزيلة، لم يعد هناك صبر ومصابرة، ولا جلد على طلب العلم والجلوس عند رُِكب

المشايخ، وملازمتهم لأخذ العلم والعمل عنهم، أصبح طلاب العلم اليوم لا يقدرون

على إكمال متن -أي متن -في أي علم من العلوم.

وهكذا مع ضعف الهمم، بل سقوطها، ومع عموم البلوى بداء العجلة

أصبحت هياكل التعليم الديني (الرسمية) يمكن أن تخرج متخصصين بالسنة النبوية

لا يحفظون حتى خمسمائة حديث، ولم يقرأوا أمهات الحديث، ويمكن أن تخرج

متخصصين بعلوم القرآن والتفسير لا يحفظون القرآن، وقد يخطر في بال أحد من

(دهاقنة) هذه الهياكل أن يخرج قراءً لا يحفظون القرآن، ومعظم (كليات الشريعة)

اليوم تخرج متخصصين بالفقه لم يكملوا دراسة الفقه، ولو على مذهب واحد من

المذاهب المعتبرة.

نصف محدث، ثلث قارئ، ربع فقيه، بعض نحوي أو أديب. أدباء لا

يحفظون المعلقات ولا اللاميتين ولا المقصورة، نحويون لا يحفظون الألفية ولا

الكافية الشافية بل ولا المُلْحَة أو الاجْرُومية، قراء لا يحفظون الشاطبية ولا الدرة

ولا المقدمة، بل ولا حتى القرآن.

محدثون لا يحفظون عمدة الأحكام ولا بلوغ المرام، بل ولم يقرأوا من السنة

شيئاً ولو نظراً. فقهاء لم يكملوا شيئاً من المتون على أي مذهب من المذاهب

المعتبرة: العمدة أو الزاد أو منار السبيل، الهداية أو القدوري، المنهاج أو المهذب، المختصر الخليلي أو الرسالة.

الناس جميعاً في عجلة من أمرهم، ولذلك لجأوا إلى الاختصار، اختصار كل

شيء، العلم اليوم مختصر، والدين مختصر، والعلماء مختصرون، وما لا يمكن

اختصاره، يلغى.

نحن المسلمون اليوم نمارس بعضاً أو جزءاً من الحياة الإسلامية الكاملة،

وهذا القصور أو النقص يسري في كل شيء، ومن مظاهره قصور عملية التعليم،

وهذا النقص الفادح الذي أصابها.

والعجيب أنه صاحب كل ما ذكرنا من ظواهر: ظاهرة أخرى أعجب وأشد

نكاية بكل من يحلم مثلي بالتعلم على طريقة السلف:

بعض الحمقى من المتفقتهين الذين اشتهوا التصدر للفتوى والاجتهاد وأرادوا

التصدي للتصنيف والتأليف بلغ من هوس العجلة في العلم عندهم أن أرادوا تحت

تأثير تلك الشهوة إلغاء سلم التعلم الذي صنعه السلف، اختصاراً للطريق، لأن

هممهم ساقطة مثل غيرهم، لكنهم يطلبون الإمامة، شهوة الإمامة ركبتهم وتسلطت

على عقولهم، وهذا السلم الذي صنعه ونظمه السلف طويل، يحتاج إلى همم عالية، وإلى صبر ومصابرة، وهم لا يستطيعون صبراً، فأرادوا القفز من فوق الجدران:

- من كتب الحديث اختاروا: نيل الأوطار، وربما سبل السلام.

-ومن كتب الرجال: تقريب التهذيب.

- ومن كتب أصول الفقه: إرشاد الفحول.

وكل هذه المصنفات - إن كنت تعرفها - من أدوات الاجتهاد، أعني أنها

مصنفات تصلح للمجتهدين لا للمبتدئين، أو المتفقهين الذين كل همهم الامتثال

وإبراء الذمة.

أدلة الأحكام، وكتب الرجال، وأصول الفقه، هذه أدوات للمجتهد الذي انتهى

من تعلم الأحكام - أي الفقه -، ومن تعلم العقيدة، ومن تعلم علوم الوسائل.

وهل تظن أن هؤلاء المتعجلين يقرأون هذه الكتب، ومعظمها للشوكاني -

رحمه الله- أو يفهمونها؟ إنهم مجرد صيادين، يتصيدون المسائل تصيداً بلا فقه

وبلا قريحة صحيحة، أو ملكة علمية سليمة.

وليتهم سكتوا، أو أن الأمر كان ضرره مقتصراً عليهم، لكنهم تصدروا

للفتوى والترجيح والاجتهاد، وشرعوا يناقشون الآراء والمذاهب، ودخلوا في علم

الخلاف، وهو من العلوم التي لا يقوى عليها إلا فحول الفقهاء، ولما كانت القرائح

فجة نيئة لم تستو بعد فقد عجزوا عن إدراك مغازي الكلام ومراميه، فراحوا

يخطئون العلماء، ويردون على فحول الأئمة وكبار الفقهاء دون وجل أو أدب.

إن العجلة في العلم، مع سقوط الهمم، وقلة الجلد، وعدم الصبر على التلقي

، مع تحكم شهوة طلب الإمامة وحب الرئاسة العلمية الذي تحكم في القلوب، وما

في ذلك من فساد المقصد، كل ذلك وفي ظل أصحاب ذلك المسلك العجيب من

المعلمين الذي وصفناه بالدعوة إلى الاجتهاد (الجفلى) والذي لا يتاح للمتعلم في ظله

تعلم العلم ولا تعلم الأدب كل ذلك أدى إلى هذه الفوضى العلمية وهذا الهزال العلمي

الذي عمت البلوى به اليوم.

كنا مع أحد شيوخنا جلوساً في الصحراء قريباً من طريق المسافر إلى الرياض، وحضرت صلاة المغرب فقمنا نصلي بعد أن أذن أحدنا، ومرت (سيارة) بها مسافرون، فلما أبصروا جماعة الصلاة أوقفوا ركبهم وانضموا إلى الصلاة، وبعد

فراغنا من الصلاة قال أحدهم موجهاً كلامه إلى شيخنا المذكور:

أفتني يا مُطوع أنا سائق السيارة (التاكسي) وأنا مستوطن بالمدينة وأهلي بها، وأنا دائماً مسافر بينها وبين الرياض لا أستقر بحكم عملي ومهنتي يوماً كاملاً في

بلد، ورمضان على الأبواب، فهل أصوم وأنا مسافر؟ .

وقبل أن يتنفس الشيخ، تعجل واحد منا - وهو مثلنا من تلاميذه - فأفتى

السائل بما يأتى:

الأفضل أن تفطر أخذاً بالرخصة، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:

«ليس من البر الصيام في السفر» ، فتفطر وتقضي بعد رمضان.

- قال السائل: لكنني مسافر دائماً، ويثقل على حبس نفسي شهراً كاملاً

للقضاء.

-المفتى المتعجل: هذا هو حكم الشرع، الأفضل أن تفطر ثم تحبس نفسك

بعد رمضان شهراً للقضاء. والتفت السائل إلى شيخنا الذي كان يتفرج على تلميذه

حانقاً، وقال: أنت يا شيخ ماذا تقول أفتني؟

قال له الشيخ: تصوم رمضان في وقته لابأس بذلك، لأنك في حكم المقيم.

وفرح السائل بعد أن سمع هذه الفتوى، وظهر الارتياح على وجهه وقام

منصرفاً وهو يدعو للشيخ كأنما وهبه الشيخ مالاً.

وجادل التلميذ المتعجل شيخه بعد انصراف الركب، فقال الشيخ: مادمت

ستلزمه بالإقامة شهراً للقضاء فلم لا يكون هذا الشهر هو رمضان ويصومه أداء لا

قضاء، ثم ما الداعي لإلزامه بالإقامة وحبسه عن طلب الرزق، وليس في صيام

المسافر لو صام حرج، فكيف وهذا حاله أشبه حال المقيم من جهة أن هذا دأبه دائماً

وعادته، هو ليس شيئاً طارئاً عليه.

بل شاهدت مثلاً آخر أعجب من هذا، كان ممن فرخهم هذا المسلك الذي

وصفت آنفاً: رجل من العوام، كان يعمل بواباً على باب (كلية الشريعة) بالمدينة

النبوية، التي درسنا بها أيام الصبا والشباب، وكان هذا البواب رجلاً صالحاً محباً

لحلقات العلم مداوماً على مجالسة المشايخ، ولكن دون أن يتفقه، وإنما هو مستمع

فقط.

وكان مما سمعه من بعض المشايخ أهل ذلك المسلك العجيب أن على كل مسلم

أن يجتهد على قدر طاقته في تبليغ العلم، وأن الشروط التي اشترطها الفقهاء ما

أنزل الله بها من سلطان، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بلغوا عني ولو

آية» ، وفهم صاحبنا من هذا الكلام أن هناك تفويضاً شرعياً لمثله أن يفتي حسب

علمه وطاقته، فجلس بين العوام يُذكِّر ويفتي.

إذا وعظهم ربما أفادهم، لكنه حين يفتي كان يأتي بالعظائم، وسمعت بذلك

فأنكرته في نفسي، فكنت إذا رأيته على باب (كليتنا) أداعبه ببعض غوامض

المسائل، ثم أقول له: يا أبا فلان إياك أن تفتي فتهلك الناس، فالعلم كما ترى

يحتاج إلى التعلم أولاً.

وحضرت يوماً مع صديق لي من طلاب العلم عشاءً في بيت من بيوت البدو

القاطنين في شرق المدينة النبوية، وكانت جلسة بدوية، في فناء واسع مكشوف،

وفي ظلمة الليل البهيم، لا يهتك ستر ذلك الظلام إلا خيوط من ضوء الحطب الذي

كان يشتعل وسط حلقة الضيوف، وعلى جوانبه أدوات (القهوة) ، لكن تلك الأشعة

الضئيلة المنبعثة على استحياء من شعلة النار المتصاعدة من حول (دلال القهوة) لم

تكن كافية لأن نتبين الجالسين ونحن نأخذ مجلسنا بينهم، إلا أن صوت المتكلم الذي

كانوا جميعاً يصغون إليه وهو يفتيهم ويجيب على أسئلتهم كان يشبه صوت بواب

(كلية الشريعة) ... عجباً أبو فلان لا يزال يفتي الناس؟ ! .

قال له سائل بدوي:

-أنا يا مطوع إذا كنت ماشياً في أرض منقطعة موحشة لا أنيس بها ولا أحد

ولا أثر لحياة ولا لأحياء، ثم وجدت فتاة كلها فتنة جالسة في ذلك القفر الموحش،

واستنجدت بي وطلبت مني أن آخذها معي لأوصلها إلى أهلها فهي ضائعة، وأنا

شاب أخشى الفتنة، ولو أمنت على نفسي الفتنة لم آمن من كلام الناس وتهمتهم لي

إن أنا أقبلت بها عليهم. فماذا أفعل؟ أأتركها فتهلك، أم آخذها مع خوفي من نفسي

وخوفي على نفسي وطربت لهذا السؤال، وعجبت من فصاحة هذا البدوي في

صياغته وإلقائه مع أن موضوع السؤال يعد من الواقعات التي يصادفها البدو أحياناً، فهي ليست صورة خيالية، وقلت في نفسي. الآن نسمع العجائب من فقه بواب

(كلية الشريعة) . قال البواب المفتي:

- تتركها ولا تأخذها لأن العلماء قالوا: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

وضحكنا أنا وصديقي من هذا الجواب، وبينما كان السائل البدوي يناقش هذا

المفتي العجيب، ويراوده عله يغير فتواه كأنما الفتاة التي تصورها في السؤال ملقاة

فعلاً في الفلاة تنتظر الفتوى، قال لي صديقي: لا يحل لنا السكوت.

قلت: يا أبا فلان، هذه الواقعة فيها دليل من السنة.

فلما سمع صوتي قال: ها.. هنا بعض المشايخ إذن هم أولى بالفتوى مني

اسمعوا منهم.

وأكملت تعليقي على فتواه:

لما مر صفوان بن المعطل السلمي ووجد أم المؤمنين عائشة -رضي الله

عنها- في الفلاة، وكان الركب قد مضوا إلى المدينة النبوية وحملوا هودجها ولم

ينتبهوا إلى خلوه منها لخفة وزنها، فجلست أم المؤمنين متلفعة بجلبابها حتى مر بها

صفوان، فلما رآها وعرفها استرجع، ولكنه لم يتركها، بل أناخ جمله ثم تنحى

عنها حتى ركبت، وأخذها إلى المدينة دون أن يلقي بالاً لما يمكن أن يقوله

المنافقون، وفعلاً هذه الواقعة هي التي استغلها المنافقون فرموا أم المؤمنين عائشة

بالإفك، ثم أنزل الله براءتها من فوق سبع سموات قرآناً يتلى إلى يوم الدين ...

فلا يحل إذن للسائل أن يترك تلك الفتاة معرضة للهلاك أو حتى للفساد إذ قد

يمر بها فاسق، وذلك من أجل مفسدة متوهمة، بل يتوكل على الله ويأخذها معه

ويوصلها إلى أهلها وأجره على الله.


(١) أي حاشية السلطان، كما بيناه في الحلقة السابقة.
(٢) تفسير ابن جرير: ٣/٣٢٧.