للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[الأزمة الشيشانية إلى أين؟]

مدخل لفهم المسألة الشيشانية

محمد أمين

تمهيد:

دخل المسلمون في القرون الأخيرة نفقاً مظلماً بسبب تفريطهم في أمور دينهم

وابتعادهم عن أوامره واقترافهم نواهيه، ولن يخرجوا من هذا النفق إلا بالرجوع

إلى كتاب الله وسنة رسوله وأن يبدؤوا التغيير وفق السنن الشرعية والكونية؛ قال

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم

الجهاد: سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تعودوا لما تركتم من دينكم [رواه

أبو داود، ح/٣٤٦٢] .

وليُعلمَ أن غاية إصلاح المصلحين وغاية تغيير هذا الواقع المر يجب ألا تكون

تكثير الأرزاق أو استقلال الشعوب والقرارات أو تحرر الاقتصاد أو ما شابه ذلك،

كلا، بل يجب أن تكون غاية التغيير هي تعبيد الناس لرب العالمين؛ [وما خلقت

الجن والإنس إلا ليعبدون] [الذاريات: ٥٦] ، وما سوى ذلك فهو تبع.

لذلك: فإن كل الحلول العجلى من المخلصين والغيورين على الدين التي تقع

منهم بدون فهم كامل لسنن التغيير مصيرها الفشل وجر الأمة إلى مزيد من التخبط

والتجارب الفاشلة.

ولعل مما يؤلم: أن نجد من إخواننا الدعاة إلى الله ممن نالوا نصيباً من الفهم

لكتاب الله وسنة رسوله ومنهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة والجهاد، ينساقون وراء المتعجلين والمتسرعين والمزايدين، ويحسنون الظن بمن هو ليس

أهلاً لذلك، ويستحسنون تلك الدعوات، ويعجبون بتلك الشعارات البراقة دون

تأمل في حقيقتها وخلفيتها ومآلاتها.

لقد آن أوان أن نقول لكل صاحب دعوة جهادية: قف وتأمل فيما تقول وتعمل، وعرّف الراية التي ترفعها وبرهن عليها، واعرض ما تقول على أولي العلم

والبصيرة حتى تستحق رايتك أن يوالى عليها، ويدعى الناس إليها.

وهذا كله حتى لا تصاب الأمة وشباب الصحوة بالذات بالإحباط والزهد في

نصرة الدعوات الصادقة.

ويؤلمني أن أمثل لقولي هذا بقضية مسلمي الشيشان، ففي الوقت الذي تعاني

فيه الأمة من الجراح التي تنزف ألماً ودماً في فلسطين وأفغانستان والبوسنة..

ينفجر جرح جديد في مكان آخر عزيز علينا في بلاد الشيشان في القفقاس، فما أن

أعلن الرئيس الجنرال جوهر دوداييف (القائد السابق لفرقة القاذفات الاستراتيجية في

الجيش الروسي) قيام جمهورية الشيشان الإسلامية واستقلالها عن روسيا الاتحادية

في نوفمبر (١٩٩١م) حتى بدأت المؤامرة من قِبَل روسيا لإفشال هذا الاستقلال

(وليس إسقاط دوداييف) والعودة بالشيشان إلى الحظيرة الروسية النتنة.

وتتسلسل الأحداث حتى تنتهي باجتياح روسي وحشي وبربري للعاصمة

(جروزني) ومدن (شالي) و (أرجون) ، وما زالت المعارك مستمرة.

وتنزف الدماء الغزيرة، وتبكي البواكي على أطلال (جروزني) ، وتزداد آلام

المسلمين وحسرتهم، ولكن صمود رجال الشيشان الأشاوس أمام الجيش الروسي

خفف من آلام المسلمين والمحبين، لأنه حط من كبرياء الجيش الروسي، وأنزله

من عليائه، وحد من غطرسته؛ فتنادى بعض المسلمين للجهاد، وتعالت أصوات

بأن هنالك هجمة صليبية جديدة ضد المسلمين قد بدأت في بلاد الشيشان، وأبرز

الإعلام المحلي والعالمي هذه الحرب وبيّن حجم الدمار والقتل الذي حل بالبلاد

والعباد.. وكلٌ له مقصد، والله يعلم هدفه.

والمسلمون والدعاة مستبشرون خيراً بقرب أوان بزوغ فجر جديد للإسلام في

تلك البلاد، وقيام دول إسلامية مستقلة بعد ما يزيد عن قرنين من الاستعمار

الروسي الكريه، وبنوا استنتاجهم على فرضيات ظنوها حقائق وحسابات حسبوها

قواطع، وهي:

١- أن القفقاس بأكمله سيهب للمناداة باستقلاله بعد أن شاهد الصمود البطولي

للجيش الشيشاني والمتعاونين معه.

٢- أن المتاعب الاقتصادية التي تعاني منها روسيا وتكاليف الحرب الباهظة:

كفيلة بإنهاكها وإفقارها.

٣- تزايد أعداد القتلى والمصابين خاصة بعد أن تقوم حروب العصابات

الكفيلة باستنزاف الجيش الروسي.

٤- إمكانية ظهور معارضة قوية ضد يلتسين، تزيله من حكم البلاد،

وتعترف بحق الشعوب القفقاسية في الاستقلال.

٥- وجود نزعة دينية في تلك الشعوب كفيلة بتوحيدها وإثارة روح الجهاد

فيها ضد المستعمر الروسي.

لكل هذه الأمور والأسباب يظن الظانون بأن هذه الحرب ستسفر بإذن الله عن

قيام دول إسلامية في تلك المنطقة، لذلك لابد أن تدعم هذه الحرب ويستنزف

الجيش الروسي فيها، وترفع راية الجهاد، وتتحمل كافة تبعات هذا الموقف.

ودللوا على إسلامية المعركة الدائرة بما يلي:

١- إعلان الاستقلال عن روسيا الكافرة وتكوين جمهورية الشيشان الإسلامية.

٢- أن جوهر دوداييف نادى بالإسلام، وبالحل الإسلامي، وبالانفصال عن

روسيا، ومنع الخمور أخيراً..!

٣- إحسان الظن بالقيادات على اعتبار أنها إسلامية الأصل، وأنها راجعة

إلى الله بعد الجهل والضلال الذي كانت فيه، ويجب أن لا نطالبها بما لا تستطيعه

الآن..!

٤- أن لهذه الشعوب تاريخاً عريقاً في مقاومة الروس وجهادهم، وهي لن

تهدأ حتى تحقق غايتها في إخراج الروس والانفصال عنهم.

٥- يكفي في هذه الحرب أنها ضد روسيا التي أذاقت المسلمين مر العذاب،

وتآمرت عليهم في (البوسنة) .

دعوة للتأمل! :

وفي ظني أنه قبل مناقشة هذه الفرضيات والحيثيات وأنا لن أناقشها أحب أن

ألفت النظر إلى بعض النقاط التي أحسبها مهمة جداً ومعينة إلى حد كبير في إصدار

الحكم على مثل هذه القضية، لذلك سأورد بعض الوقائع على هيئة نقاط وأترك

تحليلها للقارئ الكريم، وهي أنه لابد لنا من:

١- معرفة الواقع السياسي الموجود على الساحة السياسية الروسية، ووجود

قطبين مهمين، وهما: يلتسين ووزير دفاعه من ناحية، والمعارضة بقيادة إيجور

جيدار (رئيس الوزراء السابق) وأعوانه من ناحية أخرى، وكل قطبٍ له أعوانه

وأنصاره النافذين في الدولة، وليس من السهولة القضاء على أي واحد منهما، مع

أن كل واحد منهما يسعى للسيطرة على مقاليد الحكم وخدمة أهدافه.

٢- أيضاً لابد لنا أن نعرف ونحدد دوافع حرب روسيا على الشيشان، وهل

هي بسبب:

أ- الدافع الأمني الروسي: لكي تحمي روسيا حدودها الجنوبية التي تشهد

القلاقل والنزاعات، وأيضاً لما تمثله الشيشان من ثقل استراتيجي في المنطقة نتيجة

الموقع والكثافة السكانية (٢. ١ مليون نسمة) .

ب- الدافع العسكري الروسي الداخلي: حيث إن القيادة العسكرية الروسية

الممثلة في بافل جراتشوف وزير الدفاع تعاني من فساد مالي كبير وتواجه اتهامات

بذلك، إضافة إلى فقدان الانضباط في الجيش الروسي، وتدني كفاءته القتالية،

فجاءت هذه الحرب لإخفاء هذه العيوب وصرف النظر عنها.

ج- الدافع الاقتصادي الخارجي: حيث إن أذربيجان وقعت اتفاقية تعاون مع

مجموعة من شركات النفط العالمية المتعددة الأجناس بقيادة (بريتيش بتروليم)

(صفقة القرن) ، وذلك لاستخراج ونقل (٥١١) مليون طن من النفط من أذربيجان

إلى أوروبا، فأرادت روسيا الاستفادة من عوائد هذه الاتفاقية الكبرى، لأن طريق

النقل المرشح يمر عبر أنابيب نفط الشيشان.

د- دافع استغلال النفط الشيشاني: حيث إن الشيشان من المناطق الغنية

بالنفط في روسيا، فلم ترد روسيا التفريط فيها، ولكن لو نظرنا إلى إنتاج الشيشان

من النفط في عام ١٩٩٣م لوجدنا أنه (٦. ٢) مليون طن، وإنتاج روسيا للفترة

نفسها (٣٥٤) مليون طن، لعلمنا أن ما يمثله إنتاج الشيشان للنفط ليس بالإنتاج

المغري لروسيا.

هـ- الدافع السياسي الداخلي ليلتسين: أراد أقطاب السياسة في روسيا أن تكون أزمة الشيشان وأرضه ميدان المعركة الحقيقي بينهم؛ فالذي ينتصر فيه سيملك كثيراً من أوراق اللعبة السياسية في روسيا، ولعل مما يؤكد ذلك: التناقض الكبير في مواقف السياسيين والعسكريين الروس من هذه الحرب، أضف إلى ذلك: انتشار فضائح الجيش الروسي في التلفاز المستقل والصحافة الروسية.

و الدافع الديني (الصليبي) : شنت روسيا هذه الحرب، لأنها تتخوف من المد الإسلامي الذي بدأ يصحو في روسيا، ولكننا بنظرة سريعة متأملة نجد أن عدد المسلمين في روسيا الاتحادية حوالي عشرين مليوناً من أصل (١٥٠) مليون روسي، أي: بنسبة ٧% من عدد السكان، وهي نسبة غير مؤثرة ولا فعالة خاصة إذا عرفنا مدى الجهل الذي يعيشه المسلمون هنالك وقلة الجهود بل ندرتها ... التي تركز على تعليمهم وتشغيلهم.

٣- لابد من معرفة مدى تأثير سبعين سنة من الحكم الشيوعي التسلطي على

الشعوب الإسلامية، وحجم التضليل الذي سلط عليهم عبر البرامج الإلحادية

والحزبية، وما أسفر عن ذلك من تكوين جيل من تلك الشعوب تتبنى قيم ومبادئ

الاشتراكية والعلمانية التي تخالف أصول دينه ومعتقداته.

٤- لابد لنا من معرفةٍ أكثر تفصيلاً بالشعب الشيشاني وقياداته:

أ- معرفة الخلفيات السياسية والثقافية للقيادات الشيشانية المؤثرة الآن على

الساحة، ومعرفة صدق توجهاتها وإخلاصها لمبادئها.

ب- معرفة التركيبة القبلية الموجودة في المجتمع الشيشاني، وهو نظام

التايبات وهو القبيلة المكون من غارات أي: جماعات وتوجد في الشيشان (١٧٠)

تايب، (١٠٠) من التايبات الجبلية، و (٧٠) من السهلية، ويجب أن نحدد أساس

ولاء تلك التايبات للقادة، هل هو على أساس ديني أو قومي، سياسي أو مادي.

ج- معرفة الخلفية الدينية لتلك الشعوب ومدى تغلغل الإسلام الصحيح الخالي

من الشرك في نفوسهم وواقعهم، ومدى فهمهم للإسلام، وهل الموجود لديهم الآن

هو الحد الأدنى المقبول الذي يعتمد عليه في حرب جهادية نأمل من ورائها نصر الله

وفتحه.

٥- لابد من معرفة أوضاع شعوب القفقاس الأخرى، وما هو موقفها من هذه

الحرب، كذلك حقيقة أوضاعها الدينية والاقتصادية والتركيبة الاجتماعية وولاءاتها

السياسية.

٦- موقف الدول الغربية وبالذات أمريكا من إشعال هذه الحرب، ومدى

الإفادة التي سيحققها الأمريكان والغرب من هذه الحرب وتطوراتها، مع الأخذ في

الاعتبار الأمور الآتية:

أ- مازالت روسيا في نظر الغرب قوة عظمى يحسب لها حساب، وهناك قلق

ومخاوف من أن تعود روسيا للحكم العسكري المخابراتي التسلطي.

ب- الإمكانات العسكرية والبشرية الضخمة التي لدى روسيا، وبالذات في

القدرات النووية والصواريخ والأسلحة التقليدية، أضف إلى ذلك عدد السكان الذي

يبلغ (١٥٠) مليوناً.

ج- البنية التحتية الضخمة التي تملكها روسيا التي وإن كانت تفتقد إلى

الحداثة، ولكنها قادرة على تلبية احتياجات روسيا الضرورية، وبالذات في أوقات

الأزمات.

د- الموارد الطبيعية الهائلة التي تزخر بها روسيا الاتحادية.

هـ- المساحة الشاسعة من الأراضي التي تحقق لروسيا عمقاً استراتيجياً ليس من السهولة إغفاله.

٦- موقف القوى الإقليمية المحيطة بالقفقاس، ومدى إفادتها من هذا النزاع

(إيران، أذربيجان، تركيا) .

٧- لابد لنا من أن نعرف تسلسل الأحداث في جمهورية الشيشان منذ عام

١٩٩١م وحتى الاجتياح البربري الروسي في ١١/١٢/١٩٩٤م، حتى نحدد صدق

دعوى كل فريق، وصدق الراية التي يرفعها. والأحداث باختصار هي:

أ- عقد المؤتمر العام للشعب الشيشاني في ٢٥ نوفمبر ١٩٩٠م، وحضرته

مجموعات متنافسة، أهمها: مجموعتان، لكل مجموعة أنصار من القبائل

الشيشانية، وهما:

١- التقليديون برئاسة ليتشا أمخاييف وتدعمه حركة (دايمو كخ) التي تتزعمها

واحدة من أكبر قبائل الشيشان، والتحق به سلام بيك نائب البرلمان الروسي في

الاتحاد السوفيتي السابق، ووزير صناعة الكيمياء البترولية في روسيا ... وغيرهم.

٢- القوميون: وتمثل هذه المجموعة (الحزب الديموقراطي الفيناخي) برئاسة

زيليمخان ياندارييف، وحركة (غولام) ، و (حزب الطريق الإسلامي) برئاسة

جانتيمروف، وتزّعم القوميين آنذاك كل من بيسلان جانتيميروف وياراجي

مماداييف الذي أصبح فيما بعد مسؤولاً عن النفط الشيشاني، وهما اللذان تزعما

المؤتمر وطالبا بتقسيم السلطة في الجمهورية بصورة عادلة وقاطعة.

ب- تم في مايو ١٩٩١م عقد المؤتمر الثاني للشعب الشيشاني، وقد أحرز

القوميون فيه انتصاراً ساحقاً بقيادة ياراجي مماداييف، ورئيس (الحزب

الديموقراطي الفيناخي) زيليمخان ياندارييف على التقليديين، وانتخب دوداييف

رئيساً للّجنة التنفيذية للمؤتمر، الأمر الذي أدى إلى الانشقاق، وترك المؤتمر كلّ

المثقفين برئاسة ليتشا أمخاييف وسلام بيك حاجيف.

ج- بدأت ثورة (فيناخ) في ٦ سبتمبر ١٩٩١، ولعب فيها أتباع مماداييف

ودعمه المالي دوراً مهماً في الانتصار، وتقاسم الظافرون مقاعد القيادة مؤقتاً فيما

بينهم.

د- في ٢٧ أكتوبر ١٩٩١ عين دوداييف رئيساً، وترأس جانتيمروف الحرس

القومي، وعين مماداييف وزيراً للنفط، وهو أهم منصب على الإطلاق في الدولة،

وهو السبب فيما حدث بعد ذلك.

هـ- في نوفمبر ١٩٩١ أعلن استقلال الشيشان عن روسيا الاتحادية.

و في أوائل ١٩٩٢ غادرت القوات الروسية الشيشان، وتركت باختيارها

الأسلحة والمعدات الحديثة والطائرات في الشيشان.

ز- في مارس ١٩٩٢ خططت المعارضة وقامت بهجوم فاشل على العاصمة

(جروزني) ، وفي أثنائه جاء دعم سريع من (موسكو) للحكومة مقداره (١٥٠)

مليون روبل، تبعه في أغسطس ١٩٩٢ دعم آخر مقداره (٥٠٠) مليون روبل،

وفي أواخر عام ١٩٩٢ وصل (موسكو) مماداييف، وطلب مبلغ (٢. ٥) مليار

روبل للحكومة، واستجيب لطلبه.

ح- وقع نزاع بين أقطاب السلطة على البترول: مماداييف وأتباعه من جهة، ودوداييف وأتباعه من جهة أخرى خاصة إذا عرفنا أن إجمالي الدخل من النفط

خلال سنتي الحكم بلغ (٥. ٢) مليار دولار ذهبت لأقطاب السلطة من الطرفين،

وبدأ كل طرف يبحث عن فضائح الآخر، وحصلت اغتيالات في كل من

(جروزني) و (لندن) بسبب هذه الأمور، وبدأت القبائل (التايبات) تميل إلى أحد

الطرفين بحسب مصالحها.

ط- انقسم البرلمان نتيجة لهذا الصراع إلى قسمين: قسم مع دوداييف وعدده

(١٢) برلمانياً، و (٢٩) مع المعارضة.

ي- خطط البرلمان لإجراء استفتاء على الثقة في دوداييف والبرلمان في ٥

يونيو ١٩٩٣، وليس على الاستقلال.

ك- في ٤ يونيو تم تحطيم اللجنة الانتخابية من قِبَل أنصار دوداييف، وفي ٥

يونيو وقعت الاصطدامات بين القوى المعارضة والحكومة، وفرّق دوداييف بواسطة

المصفحات اجتماعاً لأنصار إجراء الاستفتاء، وألغيت بطاقات الاقتراع.

ل- أصبح جانتيمروف الذي كان رئيساً للحرس وعين بعد ذلك وزيراً عدواً

لدوداييف، وانحازت معه تشكيلات مسلحة من الجيش، وأعلنت منطقة (نادتير

يتشيني) استقلالها وتكوين (الجمهورية الشيشانية) على التيرك، وأصبح زعيمها

المحافظ السابق للمدينة عمر أفترخانووف.

م- نتيجة لهذه الصراعات، وبعد الفضائح التي لحقت بمماداييف، فقد هرب

إلى (موسكو) ، وأصبح رئيساً لحكومة الثقة الوطنية، واستقر الوضع إلى حدّ ما

لدوداييف.

ن- كانت القوى السياسية في (موسكو) ترقب الوضع في الشيشان عن بعد،

ويحاول كل طرف أن يلعب بالأوراق التي في يده لإضعاف الطرف الأخر (أنصار

السلام، وأنصار الحرب) .

س- في أكتوبر عام ١٩٩٣م حينما رفض دوداييف التوقيع والمشاركة في

الاستفتاء الخاص بدستور روسيا الاتحادية، قوي اتجاه أنصار الحرب وبدأت عجلة

الحل العسكري بالظهور، وتبع ذلك تبني أنصارُ الحرب المعارضةَ الشيشانية

وتسليحها ودعمها ضد دوداييف، وانتهت بالاجتياح الروسي للعاصمة (جروزني)

ومدن (شالي) و (أرجون) ، وما زالت المعارك مستمرة.

٨- لابد من معرفة أن مع الجيش الروسي قطاعاً كبيراً من المعارضة

الشيشانية، وهم وإن كانوا يؤيدون الاستقلال، ولكن ليس بمفهوم دوداييف،

ويرون في هذه الحرب أنها حرب سياسية وليست دينية، وفي الجانب الآخر:

يقاتل في صفوف دوداييف جماعات من (جورجيا) و (أوكرانيا) ومن دول البلطيق.

نحو نظرة أكثر موضوعية لتحليل الأحداث:

لذلك: فإني أحسب أن إيراد مثل هذه النقاط، التي تعبر عن وقائع ملموسة

غير خافية على أحد، كفيلة بإعطاء تصور شبه واضح عن حقيقة هذه الحرب

ودوافعها ومآلاتها ونتائجها المتوقعة على المسلمين على المديَين المتوسط والبعيد

وعلى التوازنات الإقليمية والدولية.

إنني أرجو بهذا العرض السريع لواقع الأزمة الشيشانية أن أكون قد لفتّ نظر

الأخوة إلى جانب آخر من القضية جدير باهتمامهم وعنايتهم، تاركاً لهم استنتاج

النتائج، وأرجو مع ذلك أن نخرج على الأقل بتصور عام واضح عن هذه القضية

وإن لم نتفق على كل تفصيلاتها، على أن نضبط جميع مواقفنا وقراراتنا ورؤانا

بضابط الشرع (من كتاب وسنة) على فهم السلف الصالح، وأن لا ننساق وراء

المكاسب الوقتية والأهداف القريبة، وننسى المكاسب الدائمة والأهداف الاستراتيجية

وتحقيق الغاية العظمى، ألا وهي: تعبيد الناس لرب العالمين.

وما سبق ذكره أجمله فيما يلي:

أولاً: الحرص على فهم كتاب الله وسنة رسوله فهماً صحيحاً وفق منهج

السلف الصالح (رضوان الله عليهم) ، وأن نستخلص من ذلك منهج التغيير الشرعي

وفق السنن الشرعية والكونية.

ثانياً: الحرص على النظرة البعيدة للوقائع والأحداث، وأن لا نتنازل عن

الأهداف الاستراتيجية والغاية العظمى لمكاسب وقتية وأهداف مرحلية.

ثالثاً: أن لا ننخدع بوسائل الإعلام العالمية والمحلية، وأن ننظر في الأخبار

نظرة فاحص ومدقق ومتثبت، وأن لا نخدع بالعبارات المنمقة والتهويشات

والمبالغات الإعلامية أو التحقيقات السطحية العاطفية.

رابعاً: أن لا نتخذ مواقف في القضايا الحاسمة إلا بعد عرضها على أولي

العلم والبصيرة، بعد عرض الوقائع والخلفيات للحدث والمؤثرات التي تؤثر فيه،

والنتائج المترتبة عليه.

خامساً: أن لا ننسى ونحن نواجه هذا النظام العالمي الجديد قول الله (تعالى) :

[وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال]

[ابراهيم: ٤٦] فأولياء الشيطان من اليهود والنصارى يخططون ويعملون ويستحمرون من يحقق لهم أهدافهم بغض النظر عن دينه ومعتقده وسلوكه، فالحذر الحذر من أمثال هؤلاء ودعواتهم.

سادساً: يجب على الدعاة تحديد الأولويات، وأن تكون أولى الأولويات نشر

التوحيد ومحاربة الشرك الأكبر، وهذا لا يتحقق إلا بنشر العلم، وتوفير وسائله

ومصادره، فلا نصر ولا تمكين إلا للموحدين؛ [كتب الله لأغلبن أنا

ورسلي..] [المجادلة: ٢١] .

سابعاً: أن القيادة السياسية في الشيشان هي قيادة عليها كثير من الملاحظات:

من حيث تاريخها السياسي، وخلفيتها السابقة في الحزب الشيوعي، ودوافعها في

الإعلان عن هذه الراية الإسلامية مع عدم الفهم الحقيقي لها ولما تعنيه من التزامات

وتبعات وولاءات، ثم عدم توفر أسباب النصر الشرعية والكونية.

ثامناً: إن هذه الحرب هي حرب سياسية قمعية من روسيا، لها دوافع كثيرة

في إشعالها، منها:

١- حسم الخلافات السياسية في (موسكو) بين أقطاب الحكم، وتقوية موقف

الرئيس يلتسين ووزير دفاعه أمام المعارضة.

٢- إثبات هيبة الحكومة الروسية في المجالين الداخلي والخارجي بوصفها قوة

عظمى مازالت تمسك بزمام الأمور وتتحكم في مساراتها.

٣- تريد الحكومة أن تعطي درساً قاسياً للشعوب الأخرى التي تطمع في طلب

الاستقلال عن روسيا، وذلك بواسطة تدمير الشيشان.

٤- الدافع الاقتصادي ورغبة روسيا بأن لا تفلت من يدها الفرصة الاقتصادية

النفطية التي حدثت في أذربيجان، وكذلك إثبات حضورها القوي في المنطقة.

تاسعاً: إنني أستحث الأخوة الغيورين على دينهم وأمتهم بأن يمدوا يد

المساعدة العلمية الدعوية أولاً والإغاثية ثانياً، فهذا أهم ما يحتاجونه الآن، والمجال

متاح لمن أراد ذلك، وبالذات من خلال المناطق المجاوره بإذن الله (تعالى) .

عاشراً: أن الوضع السياسي الداخلي في روسيا المعقد بدرجة كبيرة والتدهور

الاقتصادي يجعلان من الصعب إصدار أحكام قاطعة ونتائج نهائية لأي تحرك

سياسي أو عسكري.

وختاماً: فإنني لا أدعي الإحاطة بكامل الموضوع، ولكنني أفتح باباً للتأمل

ولتأصيل منهج في اتخاذ المواقف، أرجو من الإخوة أن يتأملوه ويتفكروا فيه،

داعياً الله أن يعلي كلمته ويعز أولياءه.. والله غالب على أمره..