خواطر في الدعوة
تربية قرآنية
(٢)
محمد العبدة
ليس أضر على الإنسان من (التقليد) الذي هو الاتباع دون بصيرة أو رويّة،
وكأن الإنسان في هذه الحالة يميل للكسل الفكري حتى لا يتعب نفسه في التجديد
والتأكد من صحة السير.
ومن الأمور البالغة الأهمية التي تحتاج للتأمل الدائم والمراجعة والتفكير
للوصول إلى أحسن الطرق والنتائج: موضوع التربية من خلال منهج يصاغ فيه
الإنسان، فإذا كان المنهج سليماً صحيحاً، وطريقة عرضه وتربية الناس من خلاله
صحيحة متحددة تخدم أغراضه: نجحت العملية التربوية. فإذا أخذنا مناهج التعليم
في المدارس المعاصرة، فإننا نجد المادة العلمية واحدة، ولكن بعض طرق التدريس
قد عفا عليها الزمن وغادرها الناس إلى الأفضل، بل إن كثيراً من المواد في
مدارسنا اليوم وكأنها تُعلّم لكي تُنسى، فلا يُستفاد منها عندما يخرج الطالب إلى
معترك الحياة.
فإذا انتقلنا إلى طرق التثقيف والتربية التي تُمارس لإخراج جيل مسلم: وجدنا
أنفسنا في الموقع نفسه، فالمسلمون يملكون منهجاً ربانيّاً، ولكن قد يأتي الخلل من
طريقة عرض هذا المنهج وتربية الناس به.
لم تكن طريقة القرآن في تربية الصحابة أن ينزل عليهم آيات في موضوع
واحد، ويقال لهم: أقرؤا هذه الآيات واحفظوها وافهموها، بل كانت الآيات تتنزل
وهي تتحدث عن: صفات الله وأسمائه الحسنى، وعن عظمة خلقه والكون المسخر
للإنسان، ودعوة إلى توحيد العبادة، وفي الوقت نفسه تتحدث عن: الحلال
والحرام، وعن الجهاد، وقصص الأنبياء، ومصائر الأمم، ولا ينفصل التذكير
بالآخرة وتقوى الله عن الشرائع والأوامر، كانت الآيات تخاطب النفس الإنسانية
بمجموعها، لا تخاطب الذاكرة وحدها أو العاطفة؛ اقرأ قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا
المُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ... ]
[المدثر: ١- ٥] ، كيف جمع بين التوحيد والأخلاق والبلاغ، واقرأ قوله (تعالى)
في سورة الإسراء: [لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً (٢٢) وَقَضَى
رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً] [الإسراء: ٢٢، ٢٣] إلى آخر الآيات
التي تتحدث بعد ذلك عن الإنفاق في سبيل الله، والنهي عن التبذير وأكل أموال
الناس بالباطل..، وتأمل في مستهل سورة (المؤمنون) كيف تحدثت الآيات عن
العبادات، ثم عن الخلق والبعث، ثم عن نعم الله على خلقه، ثم عن قصة نوح
(عليه السلام) .. إن هذه الطريقة في المزج بين الموضوعات، وإن كانت من
معجزات القرآن، إلا إنها طريقة تربوية أيضاً، وعندما يُدرس الفقه منفصلاً عن
الوعظ والتذكير بالآخرة: فسيخرج فقهاء قساة القلوب، والسيرة النبوية يجب ألا
تُدرس وكأنها تاريخ، ولا العبادات وكأنها تكاليف.
وإذا كان تقسيم العلوم لابد، وقد جرى على ذلك العلماء، ولكن الارتباط بين
هذه العلوم كان واضحاً عند علماء السلف، والصلة بالقرآن ومواعظه وقوارعه
موجودة.. وفي حياتنا المعاصرة: لابد من ربط هذه العلوم بالواقع، واستلهام
القرآن في مزجها والربط فيما بينها، هذه الطريقة التي زكت نفوس الصحابة؛
فكان أحدهم يقوم الليل بآية واحدة يكررها متدبراً لها، وذكر عن جبير بن مطعم أنه
قال: (سمعت النبي يقرأ في المغرب ب (الطور) فلما بلغ هذه الآية [أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ] [الطور: ٣٥] كاد قلبي أن يطير) . وقد قال (تعالى)
عن القرآن إنه: [هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ] [البقرة: ٢] .