المسلمون والعالم
[أحداث دارفور السودانية.. من أين وإلى أين؟]
مصعب الطيب بابكر
في ظل الوضع الحرج والمنعطف التاريخي الدقيق الذي يعيشه السودان
برزت (معضلة أخرى) مكانها هذه المرة هي إقليم دارفور «المسلم» غربي
البلاد؛ ففي أقل من سنتين خلفت النزاعات الدامية بالإقليم أكثر من ٣٠٠٠ قتيل
ومليون نازح وآلاف القرى المحروقة، وتمددت انعكاساتها لتؤثر على الوضع
التفاوضي للحكومة في «نيفاشا» وعلى تماسك البنية الاجتماعية والسياسية للقطر،
وعلى الاستقرار الإقليمي في وسط إفريقيا.
* لمحة عامة:
تبلغ مساحة دارفور (٥١٠ ألف كم٢) بما يعادل خُمْس مساحة السودان،
ويقترب عدد سكانها من ستة ملايين نسمة هي خُمس إجمالي سكان السودان أيضاً.
وتقع في أقصى الغرب على الحدود مع ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، وتقسم
إدارياً إلى ثلاث ولايات هي شمال وجنوب وغرب دارفور. تضم دارفور أكثر من
مائة قبيلة جرت العادة على تقسيمها إلى ما يعرف (بالقبائل الأفريقية) التي
تحترف الزراعة، ومنها قبائل الفور والزغاوة والمساليت والميدوب.. وإلى
(القبائل العربية) التي تمتهن الرعي مثل الرزيقات والهبانية والجوامعة والمهيريا
والمعاليا.
لقد حكمت (سلطنة الفور) الإسلامية هذا الإقليم من عام١٦٥٠م وحتى
١٨٧٤م حين دخلت في سلطان الدولة العثمانية الذي لم يدم إلا بضع سنين، ثم
استمرت (السلطنة) من زوال الدولة المهدية عام ١٨٩٨م وحتى سقوطها بيد
الإنجليز عام ١٩١٦م كآخر منطقة تنضم لدولة السودان.
لم تشهد منطقة دارفور في تاريخها الحديث هدوءاً واستقراراً معتبراً؛ فابتداء
بحروب (الزبير باشا) على المنطقة عام ١٨٧٤م، ثم الثورات المتتالية على
حكمه. و (ثورة أبو جميزة) على الدولة المهدية في سبتمبر ١٨٨٨م، ثم ثورات
(الفكي عبد الله السحيني) عام ١٩٢١م، و (السلطان هارون) بجبل مرة
و (مادبو) بالضعين و (البقارة) ضد الحكم الإنجليزي؛ حتى إن الجنرال
الإنجليزي «غوردون باشا» اقترح في مؤتمر برلين عام ١٨٨٤م ضم إقليم
دارفور للمستعمرات الفرنسية. ثم انتفاضة دارفور على حكومة مايو ١٩٨١م،
وانتهاء بالتمرد الذي قاده المهندس يحيى داوود بولاد (الأمين العام للجبهة
الإسلامية في دارفور) على حكومة الإنقاذ في ١٩٩١م؛ هذا فضلاً عن
النزاعات القبلية والانفلات الأمني والصراعات الإقليمية.
لقد كان لهذه الثورات والصراعات ثمن باهظ دفعه أبناء الإقليم، وكانت حسماً
كبيراً من حركة التنمية والازدهار. وقبل التطرق إلى لب الصراع الحالي يجدر بنا
فهم (الأرضية) التي تتشكل فيها الأحداث والمؤثرات التي تدخل في تكوينها.
* المكون الداخلي للأزمة:
أولاً: (النزاعات القبلية) سمة لازمت الإقليم منذ عهد بعيد، وبتفاوت
ملحوظ؛ فخلال العشرين عاماً الأخيرة وحدها ظهر العديد من النزاعات القبلية؛
ففي بداية السبعينيات جرت نزاعات بين (المعاليا والرزيقات) ، ثم (الرزيقات
والمسيرية) و (التعايشة والسلامات) أواخر السبعينيات، ثم (الزغاوة والفور)
عام١٩٨٢م، و (الفلاتة والقمر) عام ١٩٩٦م، وأخيراً (المساليت والفور ضد
ما يعرف بالقبائل العربية) منذ ١٩٩٨م. ويبدو واضحاً أن تلك الاحتكاكات ليس
لها بُعد عرقي؛ لأنها تحدث أحياناً بين أبناء الأصل الواحد كما تحدث تحالفات بين
قبائل من أصول مختلفة؛ ومن هنا فوصف هذه الصراعات بأنها تطهير عرقي أو
إعطاؤها واجهة عنصرية لا يعبر إلا عن الانتهازية السياسية، ومحاولة غير
أخلاقية لتأليب أبناء القبائل بعضهم ضد بعض، ولكسب تعاطف المنظمات
والمجتمع الدولي.
ثانياً: رغم المستوى المتدني للخدمات في كل الأقاليم الطرفية في السودان إلا
أنه كان أكثر بروزاً في هذا الإقليم، وهو الأمر الذي ولَّد شعوراً عميقاً بالاستهداف
والتهميش.
إن انعدام البنية التحتية للصناعة والتجارة والتعليم والنقل هو المسؤول إلى حد
بعيد عن تكريس الصراع حول الأراضي الزراعية والمرعى والثروة الحيوانية،
وعن سيادة الانتماء القبلي على الانتماء للأمة، وعن التركيبة الاجتماعية الهشة،
وهو المسؤول عن ضعف الاستقرار الغذائي والعمراني وعن ضحالة التفاعل
والتكامل مع سائر الأقاليم؛ كما أن ضعف الوجود الحكومي بكل مؤسساته هو سبب
مباشر للانفلات الأمني وتصاعد النهب المسلح، وتزايد المظالم بين القبائل.
ثالثاً: الجفاف والهجرات التي ضربت الإقليم منذ عام ١٩٧٣م زادت من
فرص الاحتكاكات العشائرية حول المياه والمرعى، وهو ما تفاقم أيضاً بالحركة
عبر الحدود مع دول وسط أفريقيا.
رابعاً: الدور الحزبي له تأثير بالغ في مجريات الصراع في الإقليم، والذي
كثيراً ما يوظف كأداة للدعاية السياسية والكيد والمزايدات مما أضر بقضايا المنطقة
وبمسيرة البلاد؛ وليس لهذه الأحزاب أي بناء ثقافي أو تأهيلي يستوعب أبناء
المنطقة، بل هي لا تبدي أي اهتمام بالإقليم إلا حين يكون له قيمة سياسية مؤثرة.
خامساً: تعمل (الحركة الشعبية لتحرير السودان المتمردة) منذ تكوينها مع
أي طرف يحارب الحكومة المركزية أو يسعى للانفصال كما فعلت مع حركة
المهندس «بولاد» عام ١٩٩١م، وكما تفعل الآن مع مسلحي أقاليم جنوب النيل
الأزرق وأبيي وجنوب كردفان ومناطق البجا بشرق السودان، وهي تريد فرض
وصايتها وبسط يدها على تلك المناطق بشكل يخدم أهدافها ويحقق أطماعها،
والحركة لا تخفي مساندتها لمتمردي دارفور الذين بدورهم لا يتبرؤون منه، وقد
أقيم في (هنجتن) بألمانيا مؤتمر سمي «مؤتمر القوى المهمشة» في ٤/٤/
٢٠٠٣م، رأسه عضو الحركة «الدو أجو دينق» وضم حركة تحرير دارفور
وقيادات من المؤتمر الشعبي وحزب التحالف الفدرالي وحركة العدالة
والمساواة، وقد أشاد المؤتمر بالمواقف الوطنية والسيرة النضالية للحركة الشعبية!
* المكون الخارجي للأزمة:
تمثل منطقة دارفور الفناء الخلفي لنزاعات وسط أفريقيا؛ وذلك نظراً لحدودها
المفتوحة ولمساحتها الشاسعة التي تعادل مساحة فرنسا ولضعف السلطة الحكومية في
تلك النواحي. فالمنطقة تشكل عمقاً استراتيجياً لدولة تشاد التي تشترك معها في
التداخل القبلي (أكثر من ١٣ قبيلة) منها قبيلة الزغاوة التي ينتسب إليها الرئيس
(إدريس دبي) وكبار أعضاء حكومته، وينتسب إليها أيضاً معظم عناصر
المجموعات المتمردة في دارفور الآن، وقد تأثرت المنطقة بالصراع التشادي الليبي
خصوصاً حول منطقة (أوزو) وبالصراعات الداخلية لأفريقيا الوسطى، وهو ما
ساهم في تدريب وتسليح بعض القبائل ضد بعض وفي رواج تجارة السلاح، وهو
الأمر الذي سيلقي بظلاله على الاستقرار الأمني والسياسي لتشاد ودولة أفريقيا
الوسطى، وهو ما سبب القلق لفرنسا ودفعها للتدخل لاحتواء الموقف.
إن حركة التمرد في دارفور حركة ناشئة لم تتبلور بعد، ويمكن بسهولة
سرقتها أو توجيهها بما يؤثر على مستقبل السودان والمنطقة؛ كما أن نجاح تمرد
دارفور سيعطي دليلاً وبادرة لتقسيم السودان وهو ما يغري جهات عديدة بالوقوف
خلف الأحداث. لقد كشف (الصادق هارون) أحد القيادات المنشقة عن حركة
تحرير دارفور (لصحيفة البيان، ٤/١/٢٠٠٤م) عن لقاء مسلحي دارفور مع
مسؤولين إسرائيليين بتنسيق إريتري في مقر السفارة الإسرائيلية بإحدى دول غرب
أفريقيا الذي تمخض عن تمويل إسرائيلي للتمرد.
* حقيقة الأحداث:
ليس من السهل تقصي الحقيقة الكاملة لأحداث دارفور؛ لأنه لا أحد من
أطراف الصراع يرغب في ذلك، إلا أنه يمكن تقديم بعض الإضاءات التي تكشف
جوانب مهمة من القضية.
في ظل الوضع المتوتر أصلاً للمنطقة منذ عام ١٩٩٨م، وفي ظل الهدوء
الذي تشهده الجبهة الجنوبية والشرقية وتواتر أنباء تقدم مفاوضات تقاسم الثروة
والسلطة في نيفاشا، وبعيد انشقاق المؤتمر الشعبي وما تبع ذلك من ترويج لثقافة
(الكتاب الأسود) والاستقطاب الجهوي القبلي.. بدأت الأحداث برأي معظم
المراقبين بنزاعات قبلية محدودة حول منطقة (يوتي) التي تتبع جبل مرة
(أخصب مناطق الإقليم) في يونيو ٢٠٠٠م، ولكنها لم تلبث أن اتخذت وضعاً أكثر
عنفاً وجرأة باحتلال محلية (قولو) في ١٩/٧/٢٠٠٢م، وقد صاحب هذه النزاعات
أعمال عنف وتقتيل وتشريد وحرق للقرى طالت في معظمها قبائل الفور
والزغاوة، وقد دفعها بطء التدخل الحكومي إلى تشكيل مجموعات مسلحة تعرف
محلياً بـ (الميليشيات) لصد هجمات المجموعات المسلحة التي تنتسب لما يعرف
بالقبائل العربية والتي تسمى محلياً بـ (الجنجويد) ؛ وهكذا توسعت امتدادات
وأهداف هذه (المليشيات) لتكون لاحقاً ما سمي بـ (حركة تحرير دارفور) في
فبراير ٢٠٠٣ م، ثم أعلنت الحركة في مارس ٢٠٠٣م عن تغيير اسمها إلى
(حركة تحرير السودان) عبر بيان مقتضب صيغ باللغة الإنجليزية. بعد ذلك بأيام
أعلن د. خليل إبراهيم (القيادي بالمؤتمر الشعبي) من لندن في بيان صدر
بالإنجليزية عن تكوين (حركة العدالة والمساواة) وعن تبنيها لتمرد (جبل مرة) ،
ثم تلا ذلك إعلان آخر باسم (حزب التحالف الفيدرالي) بقيادة أحمد إبراهيم دريج،
ود. شريف حرير تبنى فيه أحداث الجبل، ولكن الحزب تراجع لاحقاً ونسب
العمليات إلى تحالف عريض من أبناء دارفور.
إن من الواضح أن أحداث الجبل كانت أقرب إلى حركة احتجاج وعصيان
محدودة؛ كما أن من الواضح أن هناك جهات عديدة تسعى لسرقة الحركة وتوظيفها
والمتاجرة باسمها. ورغم الاختلاف الكبير بين هذه المجموعات إلا أن مؤتمر
(هنتجن) بألمانيا كشف مدى التنسيق فيما بينها.
وهكذا توالت العمليات لتصل لمناطق (طور) .. (الطينة) .. (مليط) ثم
أحداث (الفاشر) المشهورة في ٢٥/٤/٢٠٠٣م، ثم منطقة (كتم) مما عجّل بتدخل
عنيف للجيش السوداني واستخدامه - أحياناً - للتباينات القبلية لوقف هجمات
المتمردين.
وبعيداً عن المزايدات السياسية فإن مطالب المجموعات المتمردة هي مطالب
غامضة وغير منضبطة رغم أن لبعضها أصلاً مقبولاً. فأول الأمر كان غرض
إنشاء المجموعة المسلحة هي الحماية وصد الهجمات، ولكن التصريحات والبيانات
والعمليات التالية وجهت رسائل مختلفة جداً: أحاديث عن طرد ما يعرف بالقبائل
العربية عن الإقليم، أو عن محاسبة الحكومة الحالية عن ضعف التنمية والخدمات
منذ الاستقلال، أو عن تقرير المصير والاستقلال عن السودان، أو عن عودة
سلطنة الفور، أو عن إعادة تعيين منصب رئاسة الجمهورية على أساس عنصري،
أو عن الوزارات السيادية التي لم تكن من نصيب الإقليم، أو عن المطالبة بما يشبه
اتفاق (نيفاشا) مع الحركة الشعبية المتمردة؛ بل هناك من يدعو لتكوين (السودان
الجديد) انطلاقاً من دارفور. ولا شك أن هذه المطالب ستتوسع أكثر حين تنضم
جهات أخرى لتصطاد في الماء العكر.
* المصير والمستقبل:
إن استمرار الحرب سيلحق أذىً جسيماً بمقدرات الإقليم البشرية والمادية،
وسيحدث جرحاً لا يندمل بين المسلمين من أبناء هذا البلد، وسيعقد كثيراً من فرص
الحل وإعادة الأمور إلى نصابها.
إن الفرصة مواتية لتدارك الأمر قبل أن يخرج عن السيطرة أكثر فأكثر،
والأمر يحتاج لتدخل عاجل يستنهض همم قادة المنطقة وعقلائها لحقن الدماء ولجم
الخيول حتى تنقطع الفتنة ويهدأ أوارها، ويحتاج ذلك إلى قرار شجاع من جانب
الحكومة للتعامل بحكمة مع الموقف والتفاعل مع المطالبة (الموضوعية) لأبناء
الإقليم وتعزيز مؤسساتها وهياكلها هناك، ويحتاج إلى تكاتف اجتماعي يقوده العلماء
وقادة الرأي وأهل الحل والعقد، للأخذ بالأمر إلى ما فيه خير البلاد والعباد..
يحتاج لوقفة حاسمة لصد أطماع كل من يريد سوءاً بهذه البلاد وكف أيديهم عن
العبث بمكتسباتها ... يحتاج لتنكيس الرايات العنصرية والجهوية والعصبية المنتنة
التي لا ترضي الله ولا رسوله ولا المؤمنين.. ويحتاج الأمر على المدى البعيد إلى
العمل الدؤوب لرفع الجهل والفقر والمرض عن تلك المناطق التي كانت - ونأمل
أن تظل - قلعة حصينة للإسلام والمسلمين.