الورقة الأخيرة
[الصمت الأوروبي إزاء ذبح الفلسطينيين]
يحيى أبو زكريا [*]
عندما كان يتعلق الأمر بالتنازلات والتخلّي عن الثوابت، والتعرّي عن
المنطلقات السياسية والأيديولوجية التي قامت عليها القضيّة الفلسطينية على مدى
مائة سنة تقريباً، كانت الوفود الأوروبية تتوالى على الشرق الأوسط وعلى مقرّ
القيادة الفلسطينية في غزّة لإقناع هذه القيادة بضرورة تقديم التنازلات حفاظاً على
مشروع التسوية، وتكريساً للسلام في الشرق الأوسط، وإنقاذاً للحمائم داخل
المنظومة السياسية العبرية، ورفعاً لرصيدهم السياسي في الشارع العبري مقابل
الصقور الذين يشكّكون في صدقية الأداء السياسي للمفاوضين الإسرائيليين. وقد
وصلت التحركات الأوروبية قبل أوسلو وبعده وإلى وقت اندلاع انتفاضة الأقصى
إلى ذروتها، وباتت أشبه بماراثون جماعي باتجاه الشرق الأوسط.
والمتتبّع لتطورات الأحداث في فلسطين المحتلة يكتشف بسهولة أنّ الوضع
تغيّر الآن، وأنّ الصمت بات سيّد الموقف في العواصم الغربية رغم تصاعد
المجازر ضد الفلسطينيين.
وتشير بعض المعلومات الدقيقة أنّ الدولة العبرية وضعت الاتحاد الأوروبي
عبر القنوات الخاصة في الصورة بشأن ما سوف يستجدّ في الشرق الأوسط، وهذا
ما جعل المراسلين الصحفيين الغربيين يتوافدون على فلسطين أسبوعياً قبل زيارة
زعيم الليكود شارون إلى المسجد الأقصى هذه الزيارة التي استفزّت مشاعر
الفلسطينيين والعرب والمسلمين.
وتفيد هذه المعلومات أن الدوائر الغربية متوافقة فيما بينها على مبدأ واحد
وموقف واحد، وهو الصمت بالإضافة إلى إرسال رسائل سياسية إلى السلطة
الفلسطينية عبر قنوات كثيرة، ومفاد هذه الرسائل أنّه من الأحسن للسلطة
الفلسطينية أن تقدم التنازلات التي كان يطالب بها رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق
إيهود باراك، وألاَّ تصعّد السلطة الفلسطينية الموقف. والمفارقة الغربية الغريبة أنّه
حتى الأحزاب السياسية الحاكمة في الغرب والتي كانت فيما مضى تبدي تعاطفاً ما
مع السلطة الفلسطينية خصوصاً والقضية الفلسطينية عموماً، والمحسوبة على
اليسار والاشتراكية الاجتماعية باتت متكتّمة إلى أبعد حدّ انسجاماً مع وحدة الموقف
الأوروبي من جهة، وانسجاماً مع الموقف الأمريكي.
وإذا كانت الدوائر الرسمية في الغرب تلتزم الصمت ظاهراً وتدفع
الفلسطينيين باتجاه الإذعان للمطالب الإسرائيلية باطناً، فإنّ الخارطة السياسية
والإعلامية في معظم العواصم الغربية في معظمها مع الدولة العبرية ومشروعية ما
تقوم به من أعمال عنف، وأنّ الفلسطينيين هم الذين يبادرون إلى العنف، ويتجلّى
هذا الانحياز الفاضح في المؤسسات المرئية؛ حيث إنّ مراسلي العديد من
التلفزيونات الغربية عندما يغطّون الحدث الفلسطيني ينقلون صور الأطفال
الفلسطينيين وهم يرجمون الجنود الصهاينة بالحجارة، وينقلون صور قتلى
إسرائيليين وهم يدفنون وسط دموع ولواعج ذويهم، فيفهم المشاهد الأوروبي تلقائيّاً
أنّ الظلم مصدره الشعب الفلسطيني، والمظلومية في الموقع الذي يدفن فيه
الإسرائيليون.
وذهب بعض كبار المسؤولين في الغرب إلى القول بأنّ الآباء الفلسطينيين
يتحمّلون إثم ما يجري لأبنائهم باعتبارهم يدفعون الأطفال إلى رجم الإسرائيليين
بالحجارة.
وباعتبار أنّ ثمانين بالمائة من الأجهزة الإعلامية المقروءة والمرئية مملوكة
ليهود غربيين فلا مجال هنا للتكهن حول ماهية المواضيع والتحليلات السياسية التي
تكتب في معالجة الأزمة القائمة في الشرق الأوسط، والأكثر من ذلك أنّ بعض
الكتّاب الغربيين يعملون على تغطية الشمس بالغربال كما يقول المثل الجزائري،
ويدّعون أنّ الدولة العبرية هي التي تقدّم الضحايا تلو الضحايا، وتتلقى العنف
العربي يومياً.
هذا على صعيد الإعلام. أمّا على صعيد الأحزاب السياسية الفاعلة في الغرب
فمعظمها متعاطف مع الدولة العبرية، وتظل مساحة المتعاطفين مع القضية
الفلسطينية محدودة وصغيرة، وهي تضم بعض الكتّاب اليساريين وقدامى
الاشتراكيين والاشتراكيين الدوليين وبعض الاتجاهات المسيحية التي تعتبر أن
الصهاينة أساؤوا إلى المسيحية في فلسطين، وهم من هذا المنطلق يعارضون الدولة
العبرية.
أمّا الجاليات العربية والمسلمة فهي قلباً وقالباً مع القضية الفلسطينية وانتفاضة
الأقصى، وليس في وسعها غير التظاهر والتجمهر هنا وهناك، في هذه العاصمة
الغربية وفي تلك، وعندما يحاول ممثلو هذه الجاليات الالتقاء بالمسؤولين الغربيين
لتقديم احتجاجات حول الصمت الذي يلفّ الموقف الغربي تجاه ما يتعرض له
الفلسطينيون من ذبح ومجازر، فإنّ الردود الواردة إلى هؤلاء الممثلين أنّ جدول
مواعيد الرسميين مكتظة، ويكون العذر المشفوع بابتسامة غربية هو الرد الذي
يتلقاه ممثلو الجاليات العربية والإسلامية في أكثر من عاصمة غربية، أمّا ممثلو
الشاذين جنسيّا وأمثالهم فكل الأبواب مفتوحة أمامهم، وفي ذلك مؤشر على حجم
اهتمام الدوائر الغربية بقضايانا العادلة.
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.