ملفات
[ظاهرة المقاومة الإسلامية من فلسطين إلى العراق]
جذورها وآثارها على مستقبل الأمة
ياسر الزعاترة [*]
ليس من الصعب القول إن مصطلح الجهاد قد انتشر في الأوساط العربية
والإسلامية مع تحولات الصحوة الإسلامية التي أخذت تنتشر مع بدايات الثمانينيات
من القرن المنصرم، وإن بدأت قبل ذلك بعقد كامل مع سقوط النظام العربي
الرسمي أمام المد الصهيوني، وإخفاق الدولة القطرية العربية في تحقيق أي من
أحلام جماهير الأمة في الوحدة والكرامة والتحرر.
كان المد اليساري والقومي ومعه العلماني المتغرّب يتراجع شيئاً فشيئاً مُخلياً
الساحة بالتدريج للقوة الإسلامية الناهضة. والحال أن مصطلح الجهاد كان ولا يزال
جزءاً لا يتجزأ من منظومة الفكر الإسلامي والصحوة الإسلامية، لا لشيء إلا لأنه
كذلك في السياق التاريخي للتجربة الإسلامية الأولى في مواجهتها لتحديات العدو
الذي سعى إلى وأدها في مهدها.
مع نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات كانت تجربة الصِدام بين الحركة
الإسلامية وأحد الأنظمة العربية قد انطلقت للتو (سوريا) ، بينما كان الجهاد
الأفغاني ضد الغزو السوفييتي قد انطلق أيضاً، ولما كانت الساحة الفلسطينية غائبة
عن السياق الجهادي بمفهومه الإسلامي؛ فقد توجه الجهد نحو البعيد؛ هناك في
أفغانستان، أو نحو صِدام داخلي كما هو الحال في سوريا.
كان الوضع في سوريا بتعقيداته المحلية والإقليمية وحتى الدولية بعيداً كل
البعد عن أن يجسّد انتصاراً لفكرة الجهاد ضد نظام عربي حاكم، حتى وهو يتبنى
نهجاً اشتراكياً مصادماً للدين على نحو ما، لكن الأمر بدا مختلفاً في الحالة الأفغانية
التي كانت تتمتع بوضع محلي وإقليمي ودولي يدفع باتجاه انتصار ممكن لا يحتاج
سوى قدر معقول من الصمود.
لم يكن الإسلاميون في ذلك الحين على قدر من النضج السياسي لكي يدركوا
تماماً تعقيدات الموقف الذي يتحركون خلاله، من حيث إنهم قد باتوا، سواء علموا
أم لم يعلموا، في حالة تحالف مع الولايات المتحدة في حربها ضد الاتحاد السوفييتي
والشيوعية، وأن المدد الذي تمتعوا به لمواصلة الحرب كان يتم بدعم أمريكي
واضح، وإن كانت الأدوات في بعض الأحيان عربية إسلامية.
لا يعني ذلك بالطبع أن الإسلاميين قد أرادوا خدمة مصالح الولايات المتحدة؛
فخطابهم المتداول كان يقول شيئاً مختلفاً، لكنهم كانوا يعيشون تحت وطأة التحدي
الأيديولوجي الذي كان يواجههم في الشارع، خلافاً للتحدي العلماني الغربي الذي
كان أقل وطأة عليهم.
لم يكن التحالف الأمريكي مع الظاهرة الإسلامية قائماً في الحالة الأفغانية
فحسب، بل كان قائماً في مختلف الساحات كجزء من مطاردة النفوذ الشيوعي في
البلاد العربية الذي أدركت واشنطن أن الصحوة الإسلامية وحدها هي المؤهلة
لمحاصرته، وبذلك تمددت الصحوة على نحو واسع في الشارع العربي على حين
تراجع المد اليساري والقومي وحتى العلماني.
لا شك أن مصطلح الجهاد في طبعته الأفغانية قد استحوذ على الكثير من
الشبان بعد أن غدا الشيخ الشهيد بإذن الله عبد الله عزام بشخصيته المحببة رائد
التبشير به في الأوساط العربية والإسلامية، لكن ذلك لم يكن كافياً لجعله سيد
الموقف؛ فقد كان سؤال المساهمة الإسلامية في الصراع المركزي للأمة في
فلسطين يلاحق الظاهرة الإسلامية ويتهمها بالتواطؤ مع الإمبريالية الأمريكية. لكن
ذلك لم يغير من حقيقة أن مصطلح الجهاد قد غدا جزءاً لا يتجزأ من وعي الصحوة
الإسلامية.
* انقلاب واشنطن على الظاهرة الإسلامية:
ما أن بدت الهزيمة السوفييتية ماثلة للعيان في أفغانستان مع نهاية الثمانينيات
حتى كانت الصحوة الإسلامية هي سيدة الموقف في الساحة العربية، وصارت
الأنظمة التي سكتت عنها بسكوت الولايات المتحدة تشعر بالخطر، فضلاً عن
«باروميتر» الوجع الأمريكي الأساسي ممثلاً في الدولة العبرية التي صحت
على أعداء من لون مختلف يتحدثون عن الموت في سبيل الله بروح الشوق والإقبال
الذي لم تعرفه في صراعاتها مع الآخرين قبل ذلك.
حدث ذلك عندما ظهرت حركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين، نهاية
العام ١٩٨٧، وفي تزامن مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فيما كانت
حركة الجهاد الإسلامي قد انطلقت قبل ذلك بقليل كامتداد لتنظيم يتشكل من مجموعة
من الشخصيات الإسلامية تحت مسمى (سرايا الجهاد الإسلامي) .
لم تكن حماس هي إنذار الخوف الوحيد القادم من الشارع العربي والإسلامي؛
فقد رأت واشنطن ومعها الأنظمة الموالية لها في المنطقة، وحتى الموالية للاتحاد
السوفييتي سابقاً أن الصحوة الإسلامية برمتها هي التحدي الحقيقي، ولا سيما بعد
فوز الإسلاميين في انتخابات تونس والجزائر والأردن، إلى جانب صِدام جزء
منها مع الدولة المصرية، فضلاً عن التمدد الكبير في دول أخرى صارت فيها
الحركة الإسلامية هي الأقوى تأثيراً في الشارع.
هنا صدر القرار أو لنقل بدأ التوجه الأمريكي بإطلاق مشروع محاصرة
الصحوة الإسلامية بكل الوسائل المتاحة، واتفقت مع الأنظمة الرافضة لأي شكل
من المعارضة القوية، فضلاً عن المعارضة الانقلابية، وبكل تلاوينها «الرجعية
والتقدمية» اتفقت مع الولايات المتحدة على نهج الحصار التدريجي، وإن مال
بعضها إلى نهج الاستئصال.
حققت مسيرة الملاحقة نتائج إيجابية بمفهوم أصحابها؛ حيث بدأت الصحوة
الإسلامية تأخذ منحى متراجعاً، بعد استهداف حركاتها وبداية محاصرة حالة التدين
الشعبي بالقوانين والأنظمة. وقد استمرت مسيرة التراجع التدريجي حتى نهاية
التسعينيات حين اندلعت انتفاضة الأقصى في فلسطين المحتلة وبدأت ظاهرة
الفضائيات بالشيوع.
* انتفاضة الأقصى في ميدان الصراع:
بعد شهور قليلة من الانتصار الذي تحقق في جنوب لبنان انطلقت انتفاضة
الأقصى كرد على إخفاق مسيرة التسوية والتطبيع بعد قمة كامب ديفيد التي عقدت
في شهر تموز عام ٢٠٠٠م.
كان ثمة مفارقة هنا تمثلت في اندلاع انتفاضة الأقصى مع شيوع ظاهرة
الفضائيات في العالم العربي، وهو الأمر الذي أدخل تلك الانتفاضة بمختلف
فعالياتها إلى كل بيت في العالم العربي والإسلامي، وإلى جانبها كانت الظاهرة
الإسلامية تزداد انتشاراً من خلال الدعاة الذين تجاوزوا الحدود، وتواصلوا مع كمٍّ
كبير من الجماهير. أما الأهم من ذلك كله فهو ما ميّز تلك الانتفاضة عن مختلف
حالات الجهاد المشابهة في الوعي العربي والإسلامي، ممثلاً في ثقافة الاستشهاد في
سبيل الله التي استحوذت على قلوب الأمة؛ إذ لأول مرة يرى الناس شباناً تفتح
الحياة لهم ذراعيها يقبلون على الشهادة والابتسامة تعلو جباههم. ولا شك أن مكانة
فلسطين في الوعي العربي والإسلامي قد لعبت دوراً مهمّاً كونها القضية التي تُجمِع
عليها الأمة بمختلف مشاربها، فضلاً عن أن العدو هو الأشرس في تاريخ الأمة
بنص القرآن الكريم.
خلاصة القول: إن ما جرى في فلسطين كان يحفر عميقاً في الوعي العربي
والإسلامي، ولا سيما في أجيال من الشبان المدججين بالرفض والثورة. لكنَّ ما
زاد في عمق الظاهرة وتأثيرها قد تمثل في تداعيات هجمات الحادي عشر من أيلول
في الولايات المتحدة التي أدت إلى إعلان القيادة اليمينية الأمريكية الحرب على
الإسلام والمسلمين من أفغانستان إلى العراق.
لا شك أن ثقافة الاستشهاد التي رسّختها حركة المقاومة الإسلامية حماس في
فلسطين منذ عام ٩٣ قد شكلت البداية الجديدة لمصطلح الجهاد والمقاومة في الوعي
الإسلامي، لكن تراجع الأمر خلال أعوام ٩٧ وصولاً إلى عام ٢٠٠٠، بسبب
اتفاق أوسلو وتمدده على الأرض، مما أدى إلى تراجع التأثير، وهو ما يؤكد أن
انتفاضة الأقصى تشكل المرحلة الأكثر تميزاً في التاريخ الحديث.
هكذا دخلت ثقافة المقاومة كل بيت في العالم العربي والإسلامي وجاءت
الغطرسة الأمريكية الإسرائيلية لتزيدها تجذراً مع مشاهد الغزو الأمريكي للعراق وما
سبقه من سيناريوهات مذلة لمجموع الأمة وصولاً إلى مشهد سقوط بغداد وما تركه
في الوعي العربي والإسلامي.
* المتطوعون العرب في الحرب العراقية:
برز التجلي الأول لظاهرة رسوخ ثقافة المقاومة والاستشهاد في الوعي العربي
والإسلامي خلال تحضيرات الحرب على العراق حين سافر الآلاف من الشبان
العرب إلى العراق للمساهمة في الحرب. وهي المساهمة التي لم تغير كثيراً في
نتيجة المعركة لأسباب متعددة، لعل أهمها غياب الخطة الدفاعية المعقولة عراقياً،
وعدم وجود إرادة قتال لدى الجيش العراقي كجزء من الشعب العراقي الذي كان
ينتظر الخلاص من صدام حسين، إضافة إلى عين الشك التي تعامل بها المسؤولون
العراقيون مع المتطوعين، ومعها موقف الرفض من قِبَل الذين لم يكونوا يريدون
الصمود وتأخير سقوط النظام.
لكن ذلك كله لم يكن ليخفي حجم البسالة والإقبال على الاستشهاد كما تبدى في
سلوك المتطوعين أو المجاهدين حسبما بات أهل العراق يسمونهم لاحقاً. وقد أجمع
كثير من العراقيين على أن الصمود الذي تحقق في الجنوب ومعركة المطار كان
بفعل أولئك المتطوعين.
على أن الأهم من ذلك كله قد تمثل في إصرار كثير منهم على مواصلة القتال
رغم إعلان سقوط المدينة بيد القوات الأمريكية، وهو الأمر الذي ترك آثاره على
وعي الشبان العراقيين في مناطق السنة في بغداد وما حولها؛ حيث غدت حكايات
المتطوعين تُروى وتُتداول بين الناس، وفي هذا السياق يذكر أحد قادة الحزب
الإسلامي العراقي كيف اضطُروا للكذب على بعض أولئك المتطوعين عبر إخبارهم
بأن ثمة معركة مع القوات الأمريكية تدور في منطقة أخرى، ثم حملوهم إلى الحدود
السورية؛ فما كان من بعضهم إلا أن أجهش في البكاء قائلين لمن جاؤوا بهم: لقد
حرمتمونا الشهادة في سبيل الله، بينما أصر آخرون وهم قلة على البقاء انتظاراً
لاندلاع المقاومة، وهو ما تحقق خلال أيام على نحو ما، وقد تأكدت الظاهرة خلال
أسابيع قليلة.
* ثقافة المقاومة وآثارها القائمة:
ربما يجد بعض القراء في هذا الاستقراء التاريخي نوعاً من الإسهاب غير
الضروري، لكنه ليس كذلك؛ لأننا إزاء ظاهرة استثنائية غير مسبوقة في تاريخنا
تدل على قدرة هذه الأمة على العطاء المتجدد. فها نحن اليوم أمام شبان يتسابقون
إلى الشهادة كل يريد أن يسبق الآخر؛ حيث يهجمون على عدوهم دون أدنى خوف
من الموت ودون نظر إلى خلل ميزان القوى لصالح عدوهم أو ما يعانونه من
ضعف الإمكانيات.
لقد قدموا ولا زالوا يقدمون أمثلة مذهلة في التضحية والفداء يحفزها إيمان
عميق بالله عز وجل وحق هذه الأمة في العزة والكرامة، وقدرة هذا الدين وأتباعه
على مواجهة المؤامرات الدولية الرهيبة الساعية إلى استئصاله والنجاح فيما عجزت
عنه المحاولات السابقة طوال قرون.
إنهم شبان تفتح الحياة لهم أذرعها وليسوا يائسين كما ردد بعض الغربيين،
لكنهم يتميزون بروح يعجز أولئك عن إدراكها. إنها روح الإيمان بما عند الله
وبصفقة بيع رائعة، تقدم فيها النفس لله عز وجل مقابل الخلود في الجنة: [إِنَّ
اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ] (التوبة: ١١١) .
من هنا كان من الطبيعي أن تترك هذه الظاهرة آثاراً مهمة على مسيرة الأمة
في مواجهة أعدائها. وفي هذا السياق يحسن بنا أن نتوقف أمام ما حققته من
إنجازات حتى الآن.
لا بد من القول ابتداءً بأن مسيرة أوسلو وعجز الاحتلال الصهيوني ومن
ورائه الإرادة الأمريكية عن فرض الحل المطلوب على الأمة قد أكد لهم أن ما هو
قائم من هزال في وضع الأنظمة لا يكفي لذلك. كما أكد لهم أن هذه الصحوة
الإسلامية العارمة وثقافة المقاومة التي تتميز بها لا يمكن أن تمرر ما يريدونه؛
فكان لا بد من مسار يطارد الأنظمة ويفرض عليها مزيداً من الركوع في وجه
الإملاءات الأمريكية الصهيونية، ولا بد أيضاً من مطاردة الظاهرة الإسلامية استناداً
إلى نظرية المستنقع والبعوض الصهيونية التي تقول إن من غير الممكن قتل
البعوض بشكل منفرد، بل لا بد من تجفيف المستنقع. والبعوض حسب رأيهم هو
الإرهاب. أما المستنقع فهو الظاهرة الإسلامية برمتها؛ لأنها ظاهرة تنتج الحركات
المسيّسة؛ بينما تنتج الحركات المذكورة أخرى متطرفة وصولاً إلى الإرهاب.
إن جوهر المخطط هو تركيع الأمة وليس استهداف الدين، لكن حقيقة أن هذا
الدين هو الأساس الذي تستند إليه مقاومة الأمة يجعله هدفاً للمطاردة، وهو الأمر
الذي يفرض المواجهة على الأمة. وهنا تحضر ثقافة المقاومة كعنصر متميز في
إدارة الصراع.
ما جرى خلال السنوات الماضية هو أن فلسطين قد صنعت ثقافة المقاومة،
وكان الإسلاميون هم سادتها. ومن فلسطين توسعت الظاهرة في وعي الأمة. لكن
الإنجاز كان واضحاً هناك؛ فقد أراد الصهاينة تركيع الشعب الفلسطيني وفرض
التسوية المذلة عليه، فما كان من الرجال سوى التصدي في ظروف بالغة السوء من
حيث ميزان القوى والمدد والإسناد، لكنهم نجحوا في كسر المعادلة وإحداث شكل
من أشكال توازن الرعب مع الأعداء. وها هو شارون يعلن نية الخروج من قطاع
غزة بعد أن عجز عن تحقيق وعوده بشطب المقاومة وفرض الحل الذي يريد على
الشعب الفلسطيني والوضع العربي.
ما جرى في فلسطين خلال السنوات الأربع الماضية كان انتصاراً حقيقياً،
لكن تأثيره فيما جرى في العراق كان أكثر أهمية؛ فقد أراد الصهاينة بعد إخفاقهم
في تركيع الشعب الفلسطيني والأمة أن يجعلوا من العراق محطة لإعادة تشكيل
خريطة المنطقة، وعندما احتلوا بغداد استبشر شارون وبشّر شعبه بالإنجاز
التاريخي الذي سيتوِّجه ملكاً على الشرق الأوسط، لكن ثقافة المقاومة التي صنعت
في فلسطين كانت له بالمرصاد هناك أيضاً؛ حيث حوّلت الانتصار التاريخي السهل
إلى ورطة. كان شيء من ذلك قد بدأ في أفغانستان؛ فالهزيمة لم تؤد إلى غياب
الجهاد والمجاهدين؛ فقد عادوا إلى التجمع من جديد وبدؤوا معركة استنزاف ضد
العدو والمتعاونين معه؛ وها هو الموقف هناك يبشر بورطة أخرى للولايات المتحدة.
من المؤكد أن المقاومة العراقية هي التي وقفت حاجزاً دون تمدد السوط
الأمريكي إلى مختلف دول المنطقة. وقد تابع العالم أجمع كيف استدار المسؤولون
الأمريكيون بعد أيام من سقوط بغداد نحو سوريا لتهديدها، ثم بدأ الحديث عن
مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يريد أنظمة مشرذمة تابعة لا مكان فيها للغة
الوحدة أو التضامن، ولا مكان فيها لهوية إسلامية جامعة.
لم توقف المقاومة العراقية تمدد السوط الأمريكي نحو العواصم العربية
الأخرى فقط، بل تجاوزت ذلك نحو تحويل العراق نفسه إلى محطة استنزاف للقوة
الأمريكية مالياً وبشرياً. وها هو عضو الكونغرس الأمريكي على مدى ٢٢ عاماً
(بول فندلي) يقول في مقال له في مجلة واشنطن ريبورت: «أعتقد أن قرار
الرئيس جورج بوش بشن الحرب على العراق سيمثل الغلطة الأعظم والأبهظ ثمناً
في التاريخ الأمريكي» .
لقد تجاوزت الولايات المتحدة بغزوها للعراق مختلف الأعراف الدولية، فيما
جاء الغزو بحد ذاته تعبيراً عن غرور القوة الذي أصاب هذه الإمبراطورية التي لا
خلاف على أنها الإمبراطورية الأكثر قوة في التاريخ البشري برمته.
لقد شعرت الولايات المتحدة بسبب ما بلغته من قوة أن بإمكانها مصادرة العالم
لحسابها لعقود طويلة لن تسمح لأحد في العالم بمنافستها، كما عبرت ورقة مساعد
وزير الدفاع الحالي بول وولفويتز التي نشرها عام ١٩٩٢م، إبان عمله في إدارة
جورج بوش الأب وبعد وقت قصير من الانتصار على العراق في حرب الخليج
الثانية. وهو المشروع الذي عاد وتبلور في عام ١٩٩٧م من خلال مسمى جديد هو
(مشروع قرن إمبراطوري أمريكي جديد) ساهم في صياغته عدد من غلاة
الصهاينة واليمين الأمريكي على رأسهم (وولفويتز) نفسه و (ريتشارد بيرل)
و (ديك تشيني) وآخرون من نفس الفصيلة اليمينية الصهيونية؛ فضلاً عن عدد من
تجار النفط والسلاح الذين توافقوا على أن العراق هو منطلق المشروع، وبالطبع
فقد كان اختيار العراق بسبب ثروته النفطية أولاً ثم وهو الأهم ليكون محطة
لإخضاع الوضع العربي لحساب الدولة العبرية.
كل ذلك سقط تحت وطأة ضربات المقاومة العراقية التي تعلمت من مثيلتها
الفلسطينية، وإلا فأي شعب في التاريخ هو الذي بدأ المقاومة بعد أيام من الاحتلال؟
فكيف وهو شعب كان يكنُّ كرهاً استثنائياً لنظامه وينتظر ساعة الخلاص منه؟!
إنه إنجاز تاريخي لن يدركه إلا من تخيل سيناريو النجاح الأمريكي في
العراق وتمدد الدبابة، وأقله السوط السياسي الأمريكي، نحو العواصم الأخرى،
وصولاً إلى إعادة النظر في برامجها وسياساتها على مختلف الصعد، بما في ذلك
إعادة النظر في هويتها الثقافية.
من كان بإمكانه تخيل ذلك السيناريو الرهيب هو وحده القادر على إدراك ما
أنجزته ثقافة المقاومة والاستشهاد في فلسطين والعراق، الأمر الذي يجعل تعزيز
تلك الثقافة هي المهمة التي ينبغي أن يضطلع بها أي مخلص لهذه الأمة.
* هوامش خاطئة على دفتر المقاومة:
ربما قال بعضهم إن ثمة هوامش خاطئة على دفتر المقاومة والجهاد والاستشهاد
قد ظهرت هنا وهناك من خلال أعمال خاطئة على صعيد الزمان والمكان والهدف؛
وذلك صحيح ولا شك؛ لكن ذلك لا ينبغي أن يدفع باتجاه إدانة الظاهرة، بل يجب أن
يدفع باتجاه ترشيد الخاطئ منها، مع التأكيد على أنه نتاج ظروف موضوعية تتمثل
في حجم الهجمة على الأمة، فضلاً عن بعض الممارسات الخاطئة من قِبَل بعض
الأنظمة. والحال أن حجم الإخلاص في الدفاع عن الأمة ومقدساتها الذي تختزنه
الظاهرة يجعل من السهل على علماء الأمة العاملين ترشيد مسارها وصولاً إلى
وضعه على السكة الصحيحة.
* أسئلة المستقبل:
حسب أحد الكتاب في صحيفة «الجارديان» البريطانية فإن المقاومة العراقية
تكاد تعيد صياغة ميزان القوى الدولي، وقد ورد قوله هذا بعد ستة شهور من
الاحتلال وقبل تصاعدها على النحو الذي بدا بعد عام منه. والواقع أن ذلك ليس
مبالغة في شيء؛ فقد بدأ يتضح جلياً أن العراق قد أخذ يتحوّل إلى محطة استنزاف
مالي وبشري للولايات المتحدة، وهو الأمر الذي سيترك آثاره على مستقبلها كقوة
مسيطرة في العالم.
لا يعني ذلك بالطبع أن الولايات المتحدة ستغدو قوة هامشية خلال سنوات
قليلة، لكن الثابت أن مسيرة التراجع قد بدأت. وهنا ينبغي أن نتذكر أن سُنَّة الله
عز وجل في الكون هي المدافعة، وعدم استفراد قوة واحدة بالقوة المطلقة لوقت
طويل مصداقاً لقوله تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ
وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] (البقرة: ٢٥١) .
لقد ترك استفراد الولايات المتحدة بالوضع الدولي آثاره على العالم أجمع،
وليس على الأمة العربية والإسلامية، وحين تبدأ هذه القوة في التراجع فإن معظم
أمم الكون ستتخطى الصُّعَداء، وسيكون بإمكان الأمة العربية والإسلامية أن تصيغ
مستقبلها بعيداً عن قوة الغطرسة الأمريكية، وإرادتها الإبقاء على دولنا مجرد
مصدر للمواد الخام وسوق للاستهلاك.
من هنا يتبدى للعيان حجم ما فعلته المقاومة الإسلامية الفلسطينية ومن ثم
العراقية بالأمة، وما ستفعله بالعالم أجمع. ونذكِّر هنا بأن معظم الإمبراطوريات قد
انتهت أو بدأت مسلسل نهايتها في هذه المنطقة، وهو الأمر الذي سينسحب بإذن الله
على هذه القوة الظالمة الحديثة التي لم تستهدفنا وحدنا، بل أرادت تركيع العالم
أجمع لحساب مصالحها، وازداد الأمر سوءاً عندما تحكمت بها قوة يهودية صهيونية
لها ثاراتها مع هذه الأمة على وجه الخصوص، على حين تقول ثقافتها إن كل ما
هو غير يهودي هو «غوييم» أو أغيار يجب استباحتهم لحساب شعب الله المختار.
إن ذلك كله إنما يأتي مصداقاً لكتاب الله وسنة رسوله وتاريخ الأمة، الذي أكد
على أن عزة هذه الأمة لا تكون إلا بالإسلام والجهاد، ولا تتداعى الأمم عليها
«كتداعي الأكلة إلى قصعتها» إلا عندما تركن إلى الدنيا ويصيبها الوهن الذي
هو كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «حب الدنيا وكراهية الموت» .
أما عندما يحدث العكس، ويُقبل شبابها على الاستشهاد إقبال سواهم على الحياة
فإن العزة والكرامة ستغدو على الأبواب، وهي كذلك هذه الأيام نحسّ طرقاتها مع
كل شهيد يرتقي إلى العلا، ومع كل صرخة لمسؤول أمريكي من المستنقع الذي
وقعوا فيه في العراق، أو حديث إسرائيلي عن عدم القدرة على تحطيم إرادة المقاومة
لدى الشعب الفلسطيني.
(*) كاتب ومحلل سياسي، الأردن.