[من مآسي الحياة]
مي علي صالح
أطلقت بصري متأملة في كل ما يدور في هذه الحياة فعاد إليَّ حزيناً فزعاً مما رأى، فأطلقته أخرى علَّني أجد ما ينسيه جولته الأولى فعاد إليَّ كما كان في الأولى مع يأس شديد اعتراه. لم تكن هذه النظرات والتأملات إلا في زاوية معينة من حياة البشر وما أدراك ما هذه الزاوية؟ هي في نظري سبب من أسباب تخلفنا وتقهقرنا، وأقول من الأسباب؛ لأن الضعف والتأخر لم يأتِ بسبب واحد، بل هو لأسباب مجتمعة من كل جانب من جوانب حياتنا. ولكن ما هالني هو جانب واحد ولا أريد أن أظلم الناس كلهم بأنهم واقعون في هذه المأساة؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا سمعتَ الرجل يقول: هلك الناس؛ فهو أهلكهم» ، صحيح البخاري.
المتأمل في حال بعض الناس يشعر بالأسى وبكثرة أتباع الهوى على خلاف قوله ـ تعالى ـ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: ٤٠] .
فمثلاً لنشاهد حياتهم بالنظر إلى الأسرة التي هي أساس المجتمع؛ فمنها تتخرج العقول ورجال التاريخ، ومنها كذلك تُمْلأ السجون. إذا تأملت يوماً أسرة عربية فستذهل من حقيقة أن هناك كائنات تعيش بهذه الطريقة. فمن منطلق الأسرة سنستعرض ما تحويه من بعض المشكلات المسببة لتخلفنا، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
١ - انعدام الهدف:
وهو أول هذه المعضلات، ويظهر في أسباب الرغبة في الزواج منذ البداية؛ فرغبة بعضهم في الزواج لا تعدو أن تكون لإشباع غريزة جنسية أو رغبة في الاستقرار، أو هروباً من كلام الناس وأسئلتهم، أو حباً في الحصول على ولد. وهذه الأمور ليست بالمحرمة أو الممنوعة، ولكن وضعها كهدف تنطلق الحياة باتجاهه هو الخطأ والدمار عينه، وقد قال ابن القيم: (للقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع لها: ثلاثة سافلة، وثلاثة عالية. فالسافلة: دنيا تتزين له، ونفس تحدثه، وعدو يوسوس له. فهذه مواطن الأرواح السافلة التي لا تزال تجول فيها. والثلاثة العالية: علم يتبين له، وعقل يرشده، وإله يعبده.
والقلوب جوالة في هذه المواطن) .
فمن كان كما ذكرنا تاركاً أهداف الآخرة ولقاء الله فأي دنيا ستعمر من تحت يديه، وأي جيل سينشأ وهو في تحركاته كالآلة يؤدي ما عليه من واجبات سواء كان - الزوج أو الزوجة - غير واضع في ذهنه ما إذا كان هذا العمل الآلي متقناً أو لوجه الله أو بنية خالصة؛ فبهذه الأمور ينال الأجر وهو لا يدري. ولكن بعض الناس يحرمون أنفسهم حتى من الأجر في أعمالهم الدنيوية فتصبح حياتهم دنيوية بحتة، فصار كمن عشق الدنيا فنظَرَتْ إلى قدرها عنده فصيرته من خدامها وعبيدها وأذلته، ومن أعرض عنها نظرتْ إلى كبر قدره فخدمته وذلت له. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن أكثر ما أخاف عليكم ما يُخرِج الله لكم من بركات الأرض» فقيل: ما بركات الأرض؟ قال: «زهرة الدنيا» .
فعلاقة الإنسان بالدنيا كما قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: (للإنسان في الدنيا حظ وله في إصلاحها شغل؛ فهما علاقتان: الأولى: علاقة مع القلب، وهو حبه لها وحظه منها وانصراف همه إليها.
أما العلاقة الثانية: مع البدن، وهو اشتغاله بإصلاحها. ولو عرف الإنسان نفسه وعرف ربه وعرف حكمة الدنيا وسرها لعلم أن الدنيا لم تخلق إلا لبقاء البدن؛ فإنه لا يبقى إلا بمطعم ومشرب وملبس ومسكن، ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور واقتصروا عليها لم تستغرقهم أشغال الدنيا وإنما استغرقتهم بجهلهم بالدنيا وحكمتها) .
فالمقصود أن لا يترك الدنيا بالكلية، ولكن يأخذ منها قدر الزاد. وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل، فيحقق بذلك التوازن والعدل في أمر الدنيا واضعاً نصب عينيه هدفاً يعيش لأجله يكون سبباً في دخوله الجنة.
٢ - سوء التربية:
فلننقل بصرنا الآن إلى جانب آخر من جوانب المآسي الأسرية وهو تربية الأولاد، وهذا موضوع يطول ومكانه وتفاصيله في كتب الدين والمآثر وعلوم النفس، ولكن نذكر هنا جزءاً بسيطاً مما تفشى في مجتمعنا. فهناك أولاد يولدون في هذه الحياة، فلا يجدون أمامهم إلا أسوأ الأمثلة من سوء تعامل بين الأبوين مع بعضهما إلى طريقة كلامهما وتفكيرهما. فتحزن اشد الحزن عندما ترى أبوين تافهين رُزِقا بأطفال، فتتأمل هذا المشهد متخيلاً: كيف سيكون الأطفال في كنف أبوين كهذين إلا أن يتغمد الله الأولاد برحمته ويهديهم إلى الصواب؟ فالطفل بجوهره خلق قابلاً للخير والشر، وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» .
وعن أبي حفص البيكندي، وكان من علماء سمرقند، أنه أتاه رجل فقال: (إن ابني ضربني وأوجعني. قال: سبحان الله! الابن يضرب أباه؟ قال: نعم! ضربني وأوجعني. فقال: هل علمته الأدب والعلم؟ قال: لا. قال: فهل علمته القرآن؟ قال: لا. قال: فأي العمل يعمل؟ قال: الزراعة. قال: هل علمتَ لأي شيء ضربك؟ قال: لا. قال: فلعله حين أصبح وتوجه إلى الزرع وهو راكب على الحمارِ، والثيرانُ بين يديه، والكلبُ من خلفه وهو لا يحسن القرآن فتغنى، وتعرَّضتَ له في ذلك الوقت فظن أنك بقرة؛ فاحمدِ الله حيث لم يكسر رأسك) .
والله! إن القلب ليتفطر لرؤية ولد بين أبوين جاهلين أكثر من رؤية اليتيم المسكين؛ فجاهل الأبوين ناهيك عن جهلهما بالدين وادعائهما أنهما يربيان أبناءهما أحسن تربية وهي تسير في الاتجاه المعاكس للشرع والسنن؛ ففي الوقت نفسه يربى بينهم كالبهائم تأكل وترعى وتنام؛ فلا مبدأ غُرِسَ، ولا أخلاق نُمِّيت ولا روح غُذِّيت. فإذا كان الولد صالحاً كان أجره لوالده. فإن كان الوالد لا يعلِّمه القرآن والعلم، ويعلمه طريقة الفسق فإن وزره يكون على أبيه من غير أن ينقص من وزر ولده شيء. قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» .
٣ - المداومة على المزاح والإفراط في الضحك:
فلننتقل بأبصارنا إلى آفة أخرى يعتبرها البعض روح الحياة وانتعاشها، بل هي لديهم الحياة وبدونها فليكن الطوفان ألا وهي آفة المزاح وكثرة الضحك. قال الحسن البصري: (يا عجباً من ضاحك ومن ورائه النار، ومن مسرور ومن ورائه الموت) . فإن قلت: المزاح مطيبة وفيه انبساط وطيب قلب فلِمَ يُنهى عنه؟ قلنا كما قال أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ: (فاعلم أن المنهي عنه الإفراط فيه أو المداومة عليه، أما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل، واللعب مباح ولكن المواظبة عليه مذمومة. وأما الإفراط فيه فإنه يورث كثرة الضحك، وكثرة الضحك تميت القلب وتورث الضغينة في بعض الأحوال وتسقط المهابة والوقار) . فهذا سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- يمزح وهو حاملُ هَمِّ الأمة، ولا يخفى علينا المواقف التي تخبرنا بمزاحه ولكنه قال: «إني لأمزح، ولا أقول إلا حقاً» .
فنعيب على أهل زماننا كثرة المزاح والضحك بسبب وبدون سبب حتى أصبحت المجالس والاجتماعات ما هي إلا مركز لاستعراض الأشخاص لقدراتهم في إضحاك الآخرين وإظهار روحه المرحة، وأن له حضوراً في المجلس مع أن هذا الحضور وعدمه سواء عند أصحاب العقول؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ويل لمن يكذب ليضحك به الناس، ويل له، ويل له ـ ثلاث مرات» . فكفى بهذه الكلمات لنا رادعاً حتى نقلل من المزاح الذي بكثرته نكاد نجزم أنه لن يخلو من الكذب والمبالغات؛ فإن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها من حوله فيسخط الله بها فيصيبه السخط فيعم من حوله.
واعلم أن أكثر الناس ضحكاً في الدنيا أكثرهم بكاء في الآخرة. فالمسلم يحزن لرؤية مجتمعه غارقاً في التفاهات، همه الترويح عن نفسه وتتبع النكات والمهازل محتجين بان ما يمر عليهم في يومهم من شقاء وعمل يحتاج بعده إلى الترويح عن النفس حتى إننا نرى الآن في شبكة الإنترنت مواقع فُتحت خصيصاً لتبادل النكات والقصص الهزلية والمواقف السخيفة، وأكاد أجزم أن مثل هذه المواقع تضم أكبر عدد من المشاركين والأعضاء مما يعكس ثقافة عالمنا العربي. حتى في ما يسمى بالمنتديات التي يغرك بعضها وتشعر بأنك وجدت ضالتك في البحث عن منتديات هادفة تروي ظمأك وتعطُّشك للحصول على العلم أو تبادل الحوارات الجادة. فبعد تصفح كامل لها تجد أن قسم المنوعات أو الترفيه أو أياً كان اسمه، دائماً له قصب السبق في المشاركات الهائلة والنشاطات المتناهية؛ فما كان اسم المنتدى وتصنيفه إلا غطاء ما يلبث أن يُزال، فتظهر المعلومات الضحلة والاتجاهات الحقيقية لأصحابه ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: (من كثر ضحكه قلَّت هيبته، ومن مزح استُخف به) .
فالميزان في ذلك أن تمزح ولا تقول إلا حقاً، ولا تؤذي قلباً، ولا تفرط فيه، فمن الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة يواظب عليها. فخراب القلب من الأمن والغفلة، وعمارته من الخشية والذكر.
شاب الصبا، والتصابي بعدُ لم يشبِ وضاع وقتك بين اللهو واللعبِ
وشمس عمرك قد حان الغروب لها والفيء في الأفقِ الشرقيِّ لم يغبِ
فهنئوا أبصاركم بالعودة سالمة بعدما رأت وعاينت؛ فهذا غيض من فيض عسى الله أن يرحمنا ويهدينا.
فلا أملك في النهاية إلا أن اختم بهذا القول لابن القيم ـ رحمه الله ـ قال فيه: (لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ عرض لهم من ذلك فساد في فِطَرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى رُبِّي فيها الصغير، وهرم عليها الكبير فلم يروها منكراً. فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن، والنفس مكان العقل، والهوى مكان الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف؛ والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل. فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور، وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك لأضدادها، وكان أهلها هم المشار إليهم) «الفوائد لابن القيم» .