للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فكر

أضواء على مشاريع

دراسة التراث والعقل العربي

محمد بن حامد الأحمري

بدأ غير المسلمين دراسة التراث الإسلامي منذ ما يزيد عن قرن ونصف

وامتدت هذه الدراسات لتغطي مساحة واسعة في العلوم الإسلامية لا تدع شيئاً إلا

كان لها فيه رأي. تلد الدراسة انطلقت من المنهج النقدي للفكر اليوناني وللكنيسة

الأوربية. وتعاملت مع العلوم الإسلامية بالأسلوب نفسه.

ونحن لا نطالب هؤلاء الدارسين بما يفوق طاقتهم وانغلاق ثقافتهم،

والانغلاق المنهجي هو أبرز مقومات الفكر الغربي، إذ القاعدة عندهم أن فكر العالم

وتاريخه هو تاريخ أوربا موسعاً وذلك ما تشهد به كل المدارس النقدية والمذهبية

هناك، ولا يفسر هذا القول بأنهم جهلة بما عند غيرهم، هذا مالا نتحدث عنه هنا،

إنما المراد أن كل علم أو ثقافة خضعت للأسلوب النقدي الأوربي المعد مسبقاً

للأجواء الوثنية وعصور الظلام كما يسمونها سنضرب هنا مثالين سريعين لهذه

القضية حتى يمكننا أن نتجاوز إلى ما نريد:

١- المستشرق فون كريمر عندما درس التاريخ الإسلامي كان يعيش فترة

انتعاش القوميات الأوربية، ويشاهد القومية الألمانية في بنائها ومجابهتها للآخرين

فتناول التاريخ الإسلامي، وفسره تفسيراً قومياً يناسب المسار الذي يعانيه الكاتب،

وهكذا رأى أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وقيام الدولة المسلمة إنما كان

حاجة قومية عربية.

٢ -المثال الآخر الكاتب الفرنسى الماركسي مكسيم رودنسون وهو كاتب

معاصر لم يزل يخبط ويخلط وتتبعه الإمعات في العالم الإسلامي يصدر كل يوم

دراسة ماركسية للتاريخ الإسلامي، وهكذا تجد روح اليسار الفرنسي أو الأمريكي

في دراسته العلوم الإسلامية.

دراسة أحمد أمين:

وعندما ندرس هذه الموجات في بلادنا الإسلامية تواجهنا دراسات حديثة

للتراث الإسلامي كان أولها إنتاج أحمد أمين في مشروع واسع وجاد اهتم بالنواحي

العقلية والثقافية لدى المسلمين، وهذا المشروع نشاً في أحضان المنهج الاستشراقي

إذ اتفق ثلاثة من أساتذة كلية الآداب في القاهرة أحمد أمين وعبد الحميد العبادي

وطه حسين على أن يقوم الأول بدراسة الحياة العقلية، وأن يدرس العبادي الحياة

السياسية، وطه حسين الحياة الأدبية ومشروع أحمد أمين جزء من كتاب كبير يضم

هذه الأقسام الثلاثة وقد قراً الثلاثة مشروع هذا العمل وأقروه.

وأحمد أمين شيخ أزهري تمكن من علوم الشريعة واللغة العربية، ثم درس

ودرّس في مدرسة القضاء الشرعي، واتصل بمديرها عاطف بك بركات، وكان

صاحب تعليم أزهري وغربي في انجلترا، وأيضاً كان ملتزماً بتوجه عقلي صريح

يقول أحمد أمين: (فقد كنت إلى هذا العهد أحكم العواطف لا العقل، لم ولا أسمح

لنفسي بالجدل العقلي في مثل هذه الموضوعات فالدين فوق العقل، فإذا جاء فيه ما

فوق العقل آمنا به، لأن علم الله فوق علمنا، والله أعلم بما يصلحنا ويغيرنا)

(وعاطف بك بركات يأبى إلا تحكيم العقل والبحث عما لا نفهم حتى نفهم،

وكان له غرام بالبحث وصبر على الجدل وكان من أثر هذا الجدل الديني أنى

أعملت عقلي في تفاصيل الدين وجزئياته) ويقول في موضع آخر: (وقد أثر في

أثراً كبيراً - يعني أستاذه عاطف - من ناحية تحكيم العقل في الدين) .

هذه النظرة العقلية الغربية التي لم تكن محدودة عنده أفسدت عليه جوانب

خطيرة في كتبه، إذ اضطر إلى مسايرة المعتزلة، وإلى الطعن في الحديث وكذا

أفسد عليه تقديسه لمناهج المستشرقين وقد صرح بحبها واحترامها واستفادته منهج

البحث منها، ولا يعيبه هنا أن استعار منهج البحث ولكن الذي حدث له هو نقل

الأفكار والنظريات والبحث لها عن شواهد فيما يدرسه.

ومن الغريب أنه وهو يدرس هذه القضايا يقول في فجر الإسلام: (مسلكنا في

سائر ما يروى من الحوادث التاريخية وما يروى من أحاديث أن نمتحنها من

ناحيتين: من ناحية السند، ومن ناحية المتن) وفى التطبيق يساوي بين ما يلي:

كتب الحديث، وكتاب التسلية والكذب الواسع (الأغاني) وكتب المستشرقين حتى

لا تكاد تخلص من (نولدكه) و (براون) و (دي ساسي) وغيرهم.

خلاصة ما وقع لأحمد أمين التورط ما بين العقلانية الحديثة والاعتزال

والمستشرقين وعدم التمييز في المصادر، وعلى الرغم من كل هذه العيوب فعمله لم

يكن مسبوقاً بشيء يفيد منه ويجنبه تلك العيوب وهو خير من كثير ممن جاءوا بعده

ودرسوا القضايا نفسها، ولا يفارقك الإحساس بوجود روحه الإسلامية وثقافته

الشرعية فيما كتب مما يدعو للتعاطف والتقدير ولعله أحسن النية ولكنه كان ضحية

لموجة التحديث والعقلنة وبداية المشاريع العلمانية التي لم يدرك أبعادها.

أما المشاريع الأخرى في دراسة التراث فمن أهمها الدراسة الشيوعية والتي

يعد أبرز أفرادها د. حسين مروة في كتابه النزعات المادية في الفلسفة العربية

الإسلامية، والدكتور طيب تزيني، وقريباً من هذا مشروع محمد عابد الجابري في

كتبه (تكوين العقل العربي) و (بنية العقل العربي) و (نحن والتراث) والذي لا

يساير المنهج الماركسي تماماً في تقليديته ولكن يستفيد من اليسار الفرنسي ويراوغ

مع عدم وضوح في مدرسته الفكرية وهو في النهاية تلميذ وفّي ومقلد لـ (ميشيل

فوكوه) من رواد الفلسفة البنيوية الكبار.

المدرسة الماركسية:

المدرسة الماركسية في دراسة التراث هي أكثر إنتاجاً وأكثر تقليدية وجفافاً،

كما إنها لا تقدم شيئاً يستحق الاهتمام أو الجدة، لم؟ لأن الماركسيين في العالم

يعتقدون أن فلاسفتهم الأوائل قد قاموا بعملية التفكير والتقرير، وفرغوا منها فما

على هؤلاء سوى البحث عن الشواهد والتطبيق، وكان أول روادهم بندلي جوزي

في كتابه (من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام) والذي يشيد فيه بالإسماعيلية

ومحافظتهم على مطلبهم الأكبر المثالي ومذهبهم الاشتراكي، ويتباكى جوزي على

فقدان التعاليم الاشتراكية للقرامطة وعلى نسيانهم لها.

ويدأب هؤلاء على الرفع من شأن المنحرفين والمنحلين والساقين بل والذين

خانوا بلادهم وقومهم، فبندلي جوزي يمجد بابك الخرمي ويشيد باشتراكيته في

الوقت الذي يذكر في معاهداته مع امبراطور الروم ضد المسلمين، ويتمنى لو قامت

الدولة الشيوعية لبابك على أنقاض دولة المعتصم العباسي، ويصف هذا المضبوع

أفكار بابك وطموحاته أنه لو نجح لأقام (دولة جديدة أساسها العدل والإخاء والمساواة) ، هكذا أي عدو للإسلام سيكون عندهم خيراً وأولى حتى لو دمر دمار الزنج وثورتهم.

وثورة الزنج في رأي هؤلاء من أعظم الثورات في العالم: ثورة العمال

والبروليتاريا، الثورة التي يشيب لهولها الولدان لما فعل الزنج من قتل لكل الناس

للعلماء والأطفال والنساء واستباحة البصرة واستعباد أهلها هي عند أصحاب هذه

الدراسات الماركسية قمة التقدمية والاشتراكية.

اليسار الإسلامي:

أما أعمال د. حسن حنفي وما يسمى باليسار الإسلامي فقد لخص في مقدمته

لكتاب الحكومة الإسلامية نزعته الثورية على ما فيها من سخرية ونقد لمذهب أهل

السنة، وهو في حماسته لقضايا المنهج الثوري ينسى مواقع الاتفاق والاختلاف مع

هذه الفرق.

وفى كتابه التراث والتجديد الذي يرى أنه أشبه بمقدمة ابن خلدون بالنسبة

لكتابه تاريخ العرب والبربر ولكنه هذه المرة عن النهضة وليس عن الانهيار.

نظرات الرجل النقدية وسخريته من الواقع والتراث تصل إلى حد غير مؤدب

في كثير مما يتناول بالبحث وهو يرى نفسه ثائرا إسلاميا ولكن من منطلقات يدرك

هو تماما أنها غير إسلامية، وإلا فما جدوى الاحتقار لما لدى المسلمين، وهل

الاحتقار هو الحل؟ ومن يراجع بعض ما كتب يجد المنطلقات الطبقية فيما يكتب،

وثوريته تجعله لا يتأدب أحياناً حتى مع لفظ الجلالة، كما أن الجوانب الإيمانية

والروحية لا تكاد توجد في هذه المعالجة غير الإسلامية وبخاصة أن حنفي فيما

يصرح ويكتب يرى أنه يحمل الحل الوحيد النادر! ولو تأمل بضاعته لعلم أنها

غريبة كل الغرابة عن روح هذه الأمة.