للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

محاضرات إسلامية

حقيقة التطرف [*]

(الأسباب والعلاج)

الشيخ / سلمان بن فهد العودة

التطرف مصطلح صحفي - وإن كان صحيحاً من حيث اللغة - يعني أخذ

طرف الشيء لكنه ليس من المصطلحات الشرعية فهو لم يرد في القرآن الكريم ولا

في السنة النبوية وأكثر من يستخدمه العلمانيون دون أن يلتزموا بالموضوعية في

هذا الاستخدام إطلاقاً، فهم لم يحددوا أولاً ما هو التطرف؟ بل يريدون أن يبقى

لفظاً غامضاً مائعاً فضفاضاً يحاولون إضافته وإلصاقه بخصومهم سواء أكانت

خصومة سياسية أو فكرية أو شرعية أو حتى خصومة شخصية أحياناً.

وهم أيضاً لا يريدون أن يكون لهذا المصطلح معنى خاص به حتى يسهل

عليهم تقليبه كيف شاؤوا، فهم اليوم يصفون به هذه الفئة وغداً يطلقونه على تلك

الفئة الأخرى، واليوم يصفون هؤلاء بالتطرف، وغداً بالاعتدال، وفي نظر هؤلاء

يمكن أن يوظف مصطلح التطرف أحياناً في مواجهة بعض المواقف السياسية،

فالذين ينتقدون الصلح مع إسرائيل متطرفون، ومثال ذلك صنيع مجلة الوطن

العربي فهي تنبز منظمة (حماس) الإسلامية الفلسطينية بأنها منظمة متطرفة لماذا؟

لأن موقفها من قضية السلام موقف واضح وصريح، إنها ترفضه وتعتبر أن

المشاركة في مؤتمرات السلام خيانة لقضية الأمة الإسلامية وبالأمس القريب كانت

منظمة حماس عند هؤلاء وغيرهم رمزاً من رموز المقاومة الوطنية الناضجة التي

تقاوم الاحتلال الصهيوني الغاشم.

أحياناً يوظف المصطلح في مواجهة بعض المواقف السلوكية ففي نظر أولئك

العلمانيين يُعد من يلتزم بالسنة في صلاته، وفي لباسه، وفي تجنبه للمحرمات،

يعد هذا عندهم من المتطرفين وكثيراً ما تسخر الكاريكاتيرات في الصحف من

أصحاب اللحى الطويلة وأصحاب الثياب القصيرة وكأن تلك السمة عندهم هي رمز

التطرف. وترتبط هذه الصورة في ذهن السذج والبسطاء والمغفلين بالإرهاب

والتطرف والعنف وبالذين يرفضون الحوار دون أن يتحدثوا ودون أن يستخدموا

أسلوب النقاش الهادئ العلمى في الموضوع الذي يتحدثون عنه، لكننا نعرف الخلفية

التي يستبطنها هؤلاء الصحفيون وهم يتحدثون أو يرسمون، لا نعرفها من باب

ادعاء الرجم بالغيب، فالغيب لله لكن نعرفها من مواقف أخرى.

إنهم يحاولون أن يحشروا دعاة الإسلام تحت عنوان التطرف ومن ثم يحذرون

المجتمعات من خطورتهم، فجريدة عربية دولية معروفة تعتبر الجبهة الإسلامية في

الجزائر أصولية متطرفة وأهل السودان أصوليين متطرفين وأهل اليمن أصوليين

متطرفين وأهل الأردن أصوليين متطرفين وحزب النهضة في تونس أصوليين

متطرفين - والأخير من أكثر الاتجاهات الإسلامية تسامحاً في أفكاره ومصطلحاته

وفي علاقاته - أما الجماعات الإسلامية في مصر فحدث ولا حرج بل حتى

المجاهدين الأفغان صنفوا الآن ضمن المتطرفين وبالأمس كانوا شيئا آخر مختلفاً

تماماً وهذا الوصف الذي أطلقته هذه الصحيفة على الجماعات الإسلامية وعلى دعاة

الإسلام لم تصف به كل المجتمعات البشرية، حتى اليهود لم تصف مجتمعاتهم بذلك

بل وصفت مجتمعات اليهود بأن فيها صقوراً وحمائم وأن فيها معتدلين وآخرين

منادين بالسلام، ولم تصف الصرب الذين دمروا المسلمين في البوسنة والهرسك لم

تصفهم بهذا الوصف قط ولم تصف بلداً في العالم بذل، ولا الشيعة، ولا البعث ولا

غيرهم.

وخرجت علينا مطبوعات عدة تحذر من الشباب العربى المسلم العائد من

أفغانستان مع أنا لم نسمعها يوماً من الأيام تحذر من الشباب العائد من بانكوك الذي

يحمل جرثومة الإيدز، وما كانت تحذر بالأمس من الشباب العائد من موسكو يحمل

جرثومة الشيوعية والعمالة للفكر الأحمر إن هذه الصحف لا تتحدث عن فئة بعينها

ولكنها تتذرع بالحديث عن التطرف إلى شفاء غليلها والتنفيس عن أحقادها وعداوتها

لحملة رسالة الإسلام، حتى ولو كانوا معتدلين بل حتى ولو كانوا مفرطين متساهلين

وقد يوظف لفظ التطرف أحياناً في مواجهة مواقف عقائدية فمثلاً الذى يطلق على

النصارى لفظ كفار يعتبر عند بعضهم متطرفاً، والذى يتحدث عن الحكم الإسلامي

والدولة الإسلامية يعتبر متطرفاً، لماذا؟ لأن هؤلاء يقولون: الإسلام لم يطبق أبداً

حتى أيام الخلفاء الراشدين وهذا كلام فرج فوده - الذي دفع حياته ثمناً لأفكاره

العلمانية المتطرفة حقاً - يذكر في كتابه " الحقيقة الغائبة " ما معناه: إن الإسلام حلم وخيال ولم يطبق على محك الواقع يوماً من الدهر ولذلك فالذين ينادون ... بالحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية هم من المتطرفين، والذي يدعو لمخالفة المشركين في هديهم وسلوكهم وأعمالهم وأعيادهم هو من المتطرفين والذي ينادي بتصحيح عقائد المسلمين وأحوالهم وأخلاقهم على ضوء الكتاب والسنة هو من المتطرفين وهو من الذين يدعون إلى الحجر على العقول وتعطيلها.

والغريب أنه يستخدم بدلاً من لفظ التطرف لفظ الأصولية وهو في الأصل لفظ

يطلق على إحدى المجموعات النصرانية التي تلتزم بحرفية الكتاب المقدس التزاماً

صارماً والتي نشأت في ظروف وأوضاع خاصة وقد حاول هؤلاء أن يبحثوا عن

أوجه شبه بين هذه الفئة من النصارى ودعاة الإسلام أو بعضهم ثم نقلوا المصطلح

إلى الشرق وهو مصطلح أجنبي له ظروفه وملابساته الخاصة، وإن كانت الصحف

العلمانية لا تتورع عن شيء في نفث أحقادها فإنها تستخدم كل مصطلح وتعده وسيلة

أو سلاحاً لها ضد دعاة الإسلام.

- المفهوم الشرعي للتطرف: اللفظ الشرعي الصحيح في مقابل التطرف هو

لفظ الغلو وقد جاء هذا اللفظ في كتاب الله عز وجل في مواضع كثيرة قال الله عز

وجل: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ] وقال

سبحانه: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ ولا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ

ضَلُّوا مِن قَبْلُ وأَضَلُّوا كَثِيراً وضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ]

كما جاء في أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ومنها حديث ابن

عباس -رضي الله عنه- لما جمع للنبي -صلى الله عليه وسلم- جمرات أمره أن

يلقط له حصى صغاراً وقال مثل هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك

من كان قبلكم الغلو في الدين.

والحديث رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي

وصححه ابن خزيمة وابن تيمية والنووي والألباني وغيرهم، ولذلك ينبغي استخدام

المصطلحات الشرعية وتجنب المصطلحات العلمانية المحدثة التي أصبح لها جرس

ورنين في آذان مستمعيها وأصبح لها وقع في قلوبهم يصعب التخلص منه، مع أنها

ليس لها تعريف خاص يمكن فهمه ومعرفته وهذا لا يعني أيضاً أن استخدام

المصطلح الشرعي ينهي المشكلة ونحن نجد أن هناك من يرمي بالغلو أقواما ما

جاوزوا الحد ولا تعدوا الحق بمجرد مخالفته لهم في المنهج أو في الطريقة أو جهلاً

منه بما هم عليه أو حسداً من عند نفسه أو لأي سبب آخر، ومن أمثلة ذلك ما نعلمه

جميعاً عن خصوم الدعوة السلفية إن معنى إنهم يطلقون عليها لفظ الأصولية ولفظ

التطرف وغير ذلك من الألفاظ وهم ما فتئوا ينبزونها بالألقاب بدون علم ولا هدى

ولا كتاب منير.

إن معنى الغلو مجاوزة الحد، والحد هو النص الشرعى من كلام الله عز وجل

أو كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- والواجب على المسلم أن يكون وقافاً عند

حدود الله تعالى [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ] وإذا بحث

المسلم مسألة وجب عليه أن يجمع النصوص القرآنية والنبوية فيها ويؤلف بينها

على وجه لا يضرب بعضها بعضاً ولا يأخذ نصاً ويهمل غيره، أما الغلاة

فيضربون بعض النصوص ببعض أو يقتطعون نصاً يلائم غلوهم ويسكتون عما

عداه: -

الغلو نوعان:

١- غلو اعتقادي، كغلو النصارى في عيسى عليه السلام، أو غلو الرافضة

في الإمام علي والأئمة الاثنى عشر، أو غلو الخوارج أيضاً في تكفير أهل الإسلام

بالمعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها، ومن الغلو أيضاً في الاعتقاد ما أشار إليه

الشاطبي وهو الغلو في بعض الفروع بتنزيلها منزلة الأصول إذ أن المعارضة

الحاصلة بذلك للشرع مماثلة للمعارضة الحاصلة له بأمرٍ كلي.

٢- أما القسم الثاني فهو غلو عملي وهو المتعلق بالأمور العملية التفصيلية

من قول السان أو عمل الجوارح مما لا يكون فرعاً عن عقيدة فاسدة، ومن أصح

الأمثلة على ذلك رمي الجمار بالحصى الكبار مثلاً فإن النبي -صلى الله عليه

وسلم- عده غلوا كما في حديث ابن عباس السابق، وهو غلو عملي لا يترتب عليه

اعتقاد، ومثله المبالغة في العبادة كما يحدث عند بعض الفرق الصوفية التي تبالغ

في العبادة وتزيد فيها عما شرع الله عز وجل كوصال الصوم، وقيام الليل كله،

وما أشبه ذلك ولا شك أن الغلو الاعتقادي هو الأخطر لأنه النقطة التي تشعبت

عندها الفرق المختلفة في الإسلام، وظهرت عندها الأهواء، واختلفت عندها

القلوب والعقول، ثم سلت السيوف، فسالت الدماء.

أسباب الغلو:

والذين يحاربون الغلو - أو ما يسمونه التطرف - لم يكلفوا أنفسهم مشقة

البحث عن الأسباب الحقيقية التي كانت ستفرز - ولابد - نبتة خبيثة كهذه، ومن

أهمها:

أولاً: - الجهل وعدم معرفة حكم الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-

ومن ثم يندفع الإنسان وراء عاطفته، وقد يكون هذا الإنسان غيوراً معظماً للحرمات

شديد الخوف من الله عز وجل، فإذا رأى إنساناً يعصي ولو كانت معصية صغيرة

لم يطق أو يتصور أن يكون هذا الشخص مسلماً أو مغفوراً له أو من أهل الجنة

لشدة غيرته فيؤدي به ذلك إلى لون من الغلو، أو يكون عنده محبة لرجل صالح

مثلاً وأصل المحبة مشروع ولكن هذه المحبة بسبب الجهل زادت وطغت حتى

وصلت إلى درجة الغلو في هذا الإنسان ورَفْعِهِ فوق منزلته. والجهل يزول بالعلم

ولهذا كان كثير من الخوارج الأوائل يرجعون عن بدعتهم بالمناظرة بل رجع منهم

على يد عبد الله بن عباس -رضى الله عنهما- لما أرسله علي بن أبى طالب

لمناقشتهم - رجع منهم في مجلس واحد - أكثر من أربعة آلاف إنسان وفي عهد

عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد -رضي الله عنه- نوقشوا فرجع منهم ما يزيد

على ألف إنسان في مجلس واحد ولهذا فالجهل من أسهل الأسباب علاجاً لأنه

سرعان ما يزول بالعلم والتعليم، وقد يكون الجهل جهلاً بالدليل لعدم الاطلاع عليه

سواء أكان آية أو حديثاً وقد يكون جهلاً بطرق الاستنباط من هذا الدليل لعدم المعرفة

باللغة العربية أو القواعد الأصولية أو غيرها.

السبب الثاني: هو الهوى المؤدي إلى التعسف في التأويل ورد النصوص.

وقد يكون الهوى لغرض دنيوي من طلب الرئاسة مثلاً أو الشهرة أو نحوه، وقد

يكون الهوى لأن البدعة والانحراف والباطل سبق إلى عمق الإنسان وقلبه واستقر

فيه وتعمقت جذوره ورسخت، وكما قيل:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا

فيعز على الإنسان حينئذ أن يتخلى عنه، ويصعب عليه أن يقر على نفسه

بأنه كان متحمساً للباطل مناوئا للحق، فيتشبث بخطئه ويلتمس له الأدلة من هنا

وهناك، وقد يكون الهوى لأن هذا الإنسان الغالي ذو نفسية مريضة معتلة منحرفة

فهي تميل إلى الحدة والعنف والعسف في مواقفها وآرائها وتنظر دائماً إلى الجانب

السلبي، الجانب المظلم من الآخرين وقد يشعر صاحبها بالعلو والفوقية دون أن

يدرك ذلك من نفسه وقد يحس بأنه أتيح له في وقت يسير ومبكر من العلم والفهم

والإدراك ما لم يتح لغيره في أزمنة طويلة، وعند ذلك يفقد الثقة بالعلماء المعروفين

والدعاة المشهورين، ويستقل الإنسان بنفسه ورأيه فينتج عن ذلك الشذوذ في الآراء

والمواقف والتصورات والتصرفات.

السبب الثالث: - أحوال المجتمع، فمن الخطأ الكبير. أن نعتقد أن

المتطرف شجرة نبتت في الصحراء - لا - بل هو فرع عن شجرة، وهو جزء من

مجتمع عاش فيه، ولهذا المجتمع في نفسه وتفكيره وعقله أعظم الأثر، فمثلاً:

التطرف في الانحراف يؤدي إلى تطرف مقابل، سواء الانحراف الفكري أو

الانحراف العملى ولذلك فالذين يَجرّون المجتمعات الإسلامية إلى الفساد والانحلال

الخلقي هم في الحقيقة من المتسببين، في حصول الغلو وإن أعلنوا الحرب عليه

وعلى ما يسمونه بالتطرف إلا أنهم من أول المتسببين فيه، فمظاهر الرذيلة في

المدرسة والجامعة والشارع والشاطئ والمتجر والحديقة والشاشة والإذاعة وغير ذلك

إذا أقرها المجتمع وسكت عنها فإنه يجب عليه أن يستعد للتعامل مع أنماط كثيرة من

الغلو، فما بالك إذا كان دور المجتمع بكليته هو تشجيع مظاهر الانحراف ودعمها

وحمايتها وحراستها وتبنيها، سيكون الأمر ولا شك أخطر وقل مثل ذلك في

الأوضاع الثقافية والإعلامية، فمحاصرة فكرة من الأفكار مثلاً وإغلاق منافذ التعبير

والكلام أمامها في مختلف الوسائل الإعلامية هو سبب لأن تتبلور لدى هذه

المجموعة فكرة الغلو أحياناً أو على الأقل فكرة المواجهة والسعي لإثبات الذات ومن

الغريب جداً أن الإعلام العربي خاصة يتهم من يسميهم المتطرفين بأنهم لا

يتسامحون مع غيرهم أو أنهم يسعون لإسكات الأصوات الأخرى التي تخالفهم، مع

أننا نعلم أن هؤلاء الناس لا يملكون شيئاً أصلاً لا يملكون أجهزة الإعلام ولا

الصحافة ولا المنابر، بل الكثير منهم لا يملكون حق الاجتماع بعشرة أو أقل من

هذا العدد، فكيف يقال عنهم إنهم يقفلون منافذ التعبير على غيرهم؟ !

والواقع أن هذا الإعلام المهيمن هو الذي أصبح حكرا لاتجاه معين أو مذهب

خاص أو طائفة محدودة وأصبح يبخل على الآخرين ببضعة أسطر أو ببضع دقائق

فضلاً عن أن يساويهم بغيرهم في كافة الأجهزة الإعلامية، فقد صودرت الآراء

النزيهة المعتدلة فضلاً عن الآراء الغالية أو المتطرفة، ومثل هذا الوضع لابد أن

يولد آلاف الأمراض في المجتمعات.

وكذلك الأمر بالنسبة للأوضاع السياسية، فإن الكبت والتسلط والقهر لا يمكن

إلا أن يؤدي إلى قتل إنسانية الشعوب والقضاء على كرامتها وليس هذا فحسب بل

يؤدي مع الزمن إلى أن تفقد الثقة بقيادتها، ثم تعمل في الاتجاه المضاد، وتعتبر

هذه القيادات ضد مصالح الأمة وأنها عقبة في سبيل الإنجاز لابد من تجاوزها.

إنك تعجب من دول يرد في دساتيرها أن الدين هو الإسلام ثم لا تسمح للتعبير

الإسلامي بأي قناة وربما اعتبرت إعلان الأذان في التلفاز نوعاً من الاقتحام

الأصولي لأجهزة الإعلام.

كيف يمكن القضاء على الغلو؟

أولاً: - ينبغي أن يكون واضحاً الفرق بين نوعين من الغلو: - الغلو الذي

هو فعلاً غلو في الدين ومجاوزة للحد وانحراف عن سواء السبيل كغلو جماعات

التكفير والهجرة الموجودة في مصر وعلى قلة في الجزائر وفي بعض البلاد الأخرى، فهذا لا شك غلو وانحراف.

والثاني: - ما تسميه أجهزة الإعلام غربيها وشرقيها غلواً أو تطرفاً أو

أصولية أو غير ذلك، وهو في الواقع ليس شيئاً من ذلك وإنما هو دعوة إلى الله

وإلى دينه إلى تحكيم شريعته والعمل بالكتاب والسنة، فنحن نفرق بين هذا وذاك

ونقول إن الغلو موجود في كل مكان وفي كل الأديان، وقد أخبر النبي -صلى الله

عليه وسلم- الخوارج لا ينقطعون بل كلما انقرض منهم قرن ظهر قرن آخر إلى

آخر الزمان، وهاهنا أسئلة لابد أن نجيب عليها.

أولا: - هل يمكن القضاء على الغلو؟ أو حتى قل القضاء على الجماعات الإسلامية وعلى رجال الدعوة الإسلامية الغلاة منهم والمعتدلين هل يمكن القضاء عليهم بالسجن والرصاص والمقاصل والمجازر؟ كلا فهذا في النهاية اعتقاد وفكر وعلى قاعدة الإعلام نفسه فالفكر إنما يحارب بالفكر لا يحارب بالرصاصة وإنما يحارب بالحجة هذا أولاً.

وثانياً: - إننا سبق وأن قلنا إن الغلو هو نتاج الضغط والإرهاب والتعسف،

ولذا فالضغط والإرهاب والتعسف لا يزيده إلا مضاء وقوة وإصراراً وهذا العسف

هو «المسوغ» الذي يحرق صبر المعتدلين فالمعتدل يوماً بعد يوم يفقد اتزانه لأنه

يجد من شراسة الخصومة والقسوة وإغلاق المنافذ في وجه الدعوة ما يكون مسوغا

وحجة لأولئك الغلاة، فلماذا تصر بعض الحكومات على مواجهة ما تسميه بالتطرف

بل على مواجهة الإسلام والدعوة الإسلامية الصحيحة النظيفة بالإرهاب والمداهمة

والسجون والمعتقلات؟

لماذا كان جزاء مؤلف كتاب (معالم في الطريق) و (في ظلال القران) السجن

ثم الإعدام؟ هل تعلمون أن كتاب معالم في الطريق مثلاً يعلم القارئ كيفية صناعة

قنبلة يدوية؟ كلا، هل هو يعلم الإنسان كيف ينظم مسيرة في الشارع؟ كلا، هل

هو يدرب الناس على حرب الشوارع؟ كلا. إنه فقط يرسم منهجاً للدعوة، فلماذا

يكون جزاء صاحب هذا الكتاب الإعدام؟ وأين الذين يدافعون عن فرج فوده

صاحب كتاب (الحقيقة الغائبة) ؟ لماذا لم يدافعوا عن سيد قطب رحمه الله حينما

أعدم؟ [ومَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ] إننا نعلم أن في

إسرائيل أحزاباً أصولية متطرفة متشددة، فماذا فعلت إسرائيل تجاه هذه الأحزاب،

ها أنتم تسمعون أنها الآن تشارك في الحكم في خلاف مع حزب العمل الذي فاز في

الانتخابات وتصل إلى الحكم، فلماذا لا يقتدون بهم في هذا؟ كنا نقرأ ونحن صغار

أن القتل والتضييق والسجن والمداهمة لا يقضي على الدعوة بل يقويها ويرسخ

جذورها ويجمع حولها الأنصار ويكثر الأتباع، كنت وأنا صغير أشعر في دخيلة

نفسي أحياناً أن هذا الكلام نوع من ترضية النفس أو خداع الذات والتسلية الوهمية،

أما الآن فنحن نرى ما نرى في المغرب ومصر والشام بل والعراق وقد جاء يدل

على أن الصحوة حتى في العراق على قدم وساق وإن لم تكن ظاهرة للعيان بسبب

العسف والكبت ولكنها قوية جداً. لقد تحولت هذه الكلمات إلى قناعة راسخة عميقة

في مشاعرنا، وآمنا أن الدعوات لا تحارب بالقهر والعسف والملاحقة.

هل يحارب الغلو بالتجاهل؟ كلا لقد سبق أن بينت أن للغلو أسبابه التي

لابد من إزالتها ولذلك فإنه لابد من: -

أولاً: - تمكين العلماء الربانيين من القيام بواجبهم وفتح السبل لكلمتهم

والسماح بمرورها إعلامياً وتسخير إمكانات الأمة كلها لهذا الغرض، وأن يشكل

العالم الشرعى مرجعية حقيقية للجميع: الحاكم، والمحكوم، على حد سواء ولا

يجوز أن تكون المنابر الدينية حكرا على فئة من الهتافين المصفقين من أمثال

المفتين الرسميين كما في بعض البلدان.

«سئل مفتي مصر في جريدة صوت الكويت عن التطرف والنصارى وكان

من ضمن ما قال: " أما أن بعض الكتب السماوية حرفت أو بدلت أو غيرت فتلك

قضية يسأل عنها أصحابها وجميع الأديان تتفق في الأصول، لماذا يقول إن الأديان

تتفق في الأصول؟ هل هو يقصد الأصول التي عليها الأديان اليوم؟ أم الأصول

المنزلة؟ ، الأصول المنزلة هي أصول التوحيد لكن أهل الأديان اليوم من اليهود

والنصارى وغيرهم أهل شرك ووثنية، فكيف يقول إن الأصول هكذا متفقة عند

الجميع؟ !

أما إذا كان الحديث عن من يسمونه بالمتطرفين فالألسنة حداد والكلمات

كالقنابل.. لأن هذا ما يريده السلطان!

إن المناصب الرسمية الدينية أصبحت وقفا في أكثر من بلد إسلامي على فئات

معلومة ممن يجيدون فن المداهنة والتلبيس، وأصبح هؤلاء في زعم الأنظمة هم

الناطقين الرسميين باسم الإسلام والمسلمين، مع أنه لا دور لهم إلا إعلان دخول

رمضان وخروجه والهجوم على من يسمونهم المتطرفين.

ثانياً: - لابد من إيجاد القنوات العلمية والدعوية والإعلامية التي يمكن للدعاة

إلى الله عز وجل من خلالها عرض الصورة الصحيحة للإسلام، وتنقيته من الداخل

عليه، وتعريف الناس بدينهم الحق، أما مجرد الخطب الرنانة التي ينقضها الواقع

فإنها لن تغير شيئاً، حتى الاتجاهات التي يصاحبها نوع من الحدة أو الشدة يجب أن

تحاور وتناقش في الهواء الطلق وليس من وراء القضبان، وإذا لم تعرض الدعوة

الإسلامية الصحيحة الناضجة من الكتاب والسنة فإن البديل عن ذلك أمران: -

١ - شيوع المنكر الفكري والخلقي بلا نكير وهذا يؤدي إلى التطرف كما

سبق بيانه.

٢ - الدعوات المنحرفة التي ستجد آذاناً صاغية فإن الناس إذا لم يعرفوا الحق

تشاغلوا بالباطل.

ثالثاً: - لابد من تنقية أجهزة الإعلام من كل ما يخالف الإسلام عقيدة وأحكاماً

وأخلاقاً، ولابد من منع أصحاب الفكر المنحرف من التسلل إلى الإعلام، ومنع

المساس بالدين وأهله في تلك الأجهزة، إن مما يؤسف له أن الإعلام العربي يتحدث

عن الدعوة الإسلامية باسم التطرف أو الأصولية فيتخلى عن الموضوعية ويتناقض

وينحاز، فلا يعرض إلا رأياً واحداً ولا يعرض إلا جانباً واحداً من الحقيقة فمقتل

فرج فوده مثلاً يسمونه مصادرة للفكر وجريمة، مع أنني أقول: أي فكر يحمله

وماذا يقول؟ يقول: أفتخر بأنني أول من عارض تطبيق الشريعة الإسلامية يوم لم

يكن يعارض ذلك أحد، ويقول: سبق أن قلت لك يا وزير الصحة عليك أن تعالج

الوضع عن طريق زيادة المهدئات الجنسية، يعني أن من يسميهم المتطرفين أو

الشباب المتدين هم ضحايا الكبت الجنسي هل هذا حوار؟ هل هذه حجة؟ هل هذا

تعقل؟ أين الموضوعية! ! ؟

رابعاً: - ضرورة ضبط مناهج التعليم وربطها بدين هذه الأمة وتاريخها

وحاضرها ومستقبلها حتى يتخرج جيل مؤمن يعرف دينه.

تقول التقارير الأمنية: إن تكثيف المواد الدينية هو الذى يولد المتطرفين،

وتدريس التاريخ الإسلامي والجهاد يولد روح الفداء في نفوس الشباب، والواقع أن

تكثيف المواد الشرعية والإسلامية هو الذي ينتج العلم الصحيح الواقي من الانحراف

أما أولئك الذين يظنون أنهم سيحولون بين الأمة ودينها وبين الأمة ولغتها وبين الأمة

وتاريخها فهم مفرطون في الوهم، فالإسلام قادم لا محالة، وإذا كانوا يحاربون

الإسلام فليبشروا بالخيبة والخسارة والخذلان.

خامساً: - ضرورة إصلاح الأوضاع الشرعية والأخلاقية في المجتمعات

الإسلامية وحمايتها من الانحلال الخلقي، ودعم المؤسسات الإصلاحية القائمة على

حماية الآداب والأخلاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنه كما يوجد جهاز

مختص لمكافحة المخدرات يجب أن توجد أجهزة قوية ممكنة وذات صلاحية واسعة

أيضاً في مكافحة ألوان الجرائم التي لا يقرها الشرع وأول من يجب أن يساند هذه

الجهات القانون نفسه أو النظام فلا معنى لوجود جهاز مثلاً لمكافحة الرذيلة والبغاء

في بلد يسمح قانونه بالزنا ويسكت عنه.

سادساً: - ضرورة العدل وإعطاء ذوي الحقوق حقوقهم، سواء أكانت هذه

الحقوق حقوقاً مالية أو كانت حقوقاً شخصية أو سياسية أو غير ذلك، فإن

المجتمعات لا يمكن أن تقوم على الظلم أبداً، والله تعالى ينصر الدولة العادلة ولو

كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، ومن الظلم سرقة أقوات

الناس وأموالهم ومن الظلم بل من أبشع الظلم مؤاخذة الناس بما لم يفعلوا ومن الظلم

حبس الناس بالتهمة والظن ومن الظلم سرقة نتائج الانتخابات في البلاد

الإسلامية [**]

سابعاً: مناقشة الأفكار والحجج والشبهات التي يتذرع بها أهل الغلو

وتفنيدها والرد عليها وتطعيم الناس ضدها لئلا يغتروا بها، فنحن نقول فعلا في بأن

الغلو هو الآخر خطر على الإسلام كما أن التفريط خطر:

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفَيْ قصد الأمور ذميم


(*) الموضوع في الأصل محاضرة تم اختصارها وإعدادها للنشر.
(**) ومن الظلم التجسس على الناس والاطلاع على عوراتهم وأحاديثهم، وفي صحيح البخاري إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم.