للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[ملامح المرحلة الاستراتيجية الجديدة في السودان]

طلعت رميح

أنباء «إنجازات» المفاوضات بين الحكومة السودانية وحركة التمرد..

ومترتبات هذه الاتفاقات من تغييرات على صعيد الأوضاع الداخلية حضارياً

وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وعلى مستوى هيكل وفلسفة الدولة السودانية،

أصبحت تطرح التساؤل عن مستقبل السودان، كما يثير التساؤل أيضاً إعلان حزب

المؤتمر الشعبي رفضه لنتائج تلك المفاوضات حتى قبل الوصول إلى اتفاقات نهائية،

وهو ما يترتب عليه انقسام كبير في الحركة السياسية في الشمال عموماً

والإسلامية خصوصاً، وكذلك تصاعد الأحداث في دارفور، بعد سكون الصراع

المسلح في الجنوب والشرق، كل ذلك يثير التساؤلات، كما تثيرها تلك الاتصالات

الرسمية الأمريكية السودانية التي كان آخرها اتصالان: أحدهما من الرئيس بوش،

والثاني من كولن باول وزير الخارجية الأمريكي، مع الرئيس السوداني ثم

تطورات ونتائج اجتماعات محور (اليمن - إثيوبيا - السودان) التي انتهت قمته

الأخيرة على مستوى الرؤساء بهجوم سياسي «كاسح» على الرئيس الأريتري

أسياسي أفورقي وكذلك التطورات في العلاقات المصرية السودانية التي تتسارع إلى

مستوى أعلى مما كانت عليه من قبل تصاعد الخلافات والقطيعة على مستوى

السياسة والاقتصاد.. هذه كلها عناوين عامة رئيسية متكاثرة خلال المرحلة الأخيرة

من أزمة السودان باتت تجعل التساؤل ملحا: هل دخل السودان مرحلة استراتيجية

جديدة على كافة الأصعدة؟

ثمة مؤشرات متعددة على ذلك. فمن ناحية هناك مؤشرات على تغيير في

استراتيجية حكم الإنقاذ.. فبديلاً لشعارات الاستقلال السياسي والحضاري..

والحرب الجهادية في الجنوب، والإصرار على إنهاء التمرد بالقوة المسلحة

والارتباط بالحركات الإسلامية الذي شهد تاسيس المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي

بقيادة الدكتور الترابي ليكون شكلاً منظماً للعلاقات بين الحركات السياسية والمقاومة

والجهادية.. وغيره من الشعارات التي رفعتها ثورة الإنقاذ بعد وصولها للسلطة في

عام ١٩٨٩م.. صارت هناك شعارات جديدة حول توزيع الثروة والسلطة،

وجيشين وبنكين، للشمال والجنوب ووقف نزيف الدم في الجنوب، واعتبار السلام

خياراً استراتيجياً، كما انتهت الأمور إلى القبول بإشراف الولايات المتحدة على

المفاوضات مع التمرد وسط حديث رسمي متكاثر ومتواتر حول الحملة الدولية

لـ «مكافحة الإرهاب» ومن ناحية أخرى وفي المقابل أي في جانب التمرد، ثمة

مؤشرات حول تغيير في استراتيجية حركة التمرد «لتحرير السودان» تحرير

السودان وليس تحرير الجنوب من الصراع العسكري وبناء دولة علمانية في

السودان وطرد العرب «الجلابة» حسب أوصاف جارانج من الجنوب،

والتحلص من الاستعمار العربي.. إلى المشاركة في حكم السودان وتقاسم السلطة

والثروة مع الشماليين أو المشاركة في الحكم المركزي.. وقيام وفد من حركة التمرد

بزيارة الخرطوم.. إلخ.

هذه التطورات والتغييرات على جانبي طرفي الصراع أو في استراتيجيتي

طرفي الصراع باتت معلنة وفي تعزيز وتأكيد مستمر؛ مما يطرح التساؤل مرة

أخرى: هل نشهد سوداناً جديداً مختلفاً حتى عما كان قبل ثورة الإنقاذ من جراء

تراجع طرفي الصراع كل منهما عن استراتيجيته؟ وما هي ملامح هذا السودان

الجديد أو المختلف؟ وهل تتشكل في داخله تحالفات بين قوى سياسية ترفض

الاتفاقات ضد كل من الحكم الراهن وحركة جارانج في المرحلة المقبلة بعد اتفاقهما؟

أم أن ما نراه ليس سوى مرحلة مؤقتة تسير فيها الأوضاع نحو الانفصال السلمي

للجنوب لا أكثر ولا أقل.. أي أن ما جرى ويجري لن ينتج عنه في النهاية سوى

تجهيز الأرض إلى مرحلة تقسيم السودان..؟!

* استراتيجيتا الصراع ومراحلهما:

قبل وصول الإنقاذ إلى السلطة كانت الدولة السودانية قد شارفت على الانهيار

تحت ضربات التمرد في الجنوب، الذي كان قد وصل إلى مرحلة من القوة

العسكرية باتت تهدد العاصمة السودانية ذاتها إضافة إلى وجود أعداد كبيرة من

مواطني الجنوب داخل العاصمة وهو ما دعا قيادة الجيش السوداني إلى توجيه

إنذارات إلى قيادة الحكم وقتها.. وبعد وصول الإنقاذ للسلطة اعتمد الحكم الجديد

استراتيجية جديدة تقوم على استعادة الهوية الإسلامية للسودان.. فقام بتعبئة الجهود

في مواجهة تمرد الجنوب انطلاقاً من شعارات جهادية.. كما طرح قبولاً بالحكم

الفيدرالي للسودان، وشكلت على هذا الأساس حكومة مركزية وحكومات في الأقاليم

(الولايات) المختلفة بناء على نتائج وتوصيات عدة مؤتمرات وطنية لقادة شماليين

وجنوبيين انتهت إلى وضع تصور جديد للحكم في السودان..

وفي الوقت نفسه نشط الحكم في محاولاته لتفكيك قوى التمرد من خلال عقد

اتفاقات مع بعض القوى المنشقه على «الحركة الشعبية لتحرير السودان» أهمها

الاتفاق الموقع بين حكومة الإنقاذ بقيادة الرئيس البشير ونحو ٦ فصائل سودانية عام

١٩٩٦م أبرزهم فصيل جناح الناصر بقيادة رياك مشار كان ضمن مقرراته القبول

بحق تقرير المصير خلال ٤ سنوات. وقد حقق الحكم خلال تلك المرحلة العديد من

الإنجازات سواء على مستوى بناء أجهزة الدولة السودانية، أو على مستوى أسلمة

فلسفة الحكم والمجتمع.. كما مد الحكم يد التعاون إلى الحركات الإسلامية خارج

السودان من خلال المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي الذي عقد عدة دورات شارك

فيها ممثلو الحركات الجهادية والمقاومة السياسية.. وحقق الحكم إنجازات هامة على

المستوى العسكري؛ إذ تمكنت القوات المسلحة السودانية من دحر قوات التمرد

ودفعها للتقهقر وحصرها في جيوب ضيقة في الجنوب اقتصرت تقريباً على منطقة

توريت في أقصى الجنوب. كانت علاقات السودان مع دول المحيط في بداية هذه

المرحلة علاقات متميزة وخاصة العلاقات مع مصر.. كما ساهمت بعض

المتغيرات الإقليمية في إضعاف حركة التمرد خاصة أحداث انهيار نظام منجستو في

أديس أبابا، والصراع الداخلي الذي نتج عنه تدهور أوضاع التمرد عسكرياً

ولوجستياً. وقد كان نظام منجستو هو أبرز الحلفاء والداعمين للتمرد.. غير أن

هذه المرحلة ورغم ما تحقق فيها من إنجازات انتهت إلى نتائج مختلفة في أوضاع

المحيط الإقليمي للسودان. وعلى صعيد الأوضاع الداخلية سرعان ما غيرت

المعادلات التي تحققت فيها هذه الإنجازات. على صعيد العلاقات السودانية مع

المحيط العربي والإقليمي فقد تدهورت على نحو حاد علاقات السودان مع كل من

مصر وأوغندا وإثيوبيا وإريتريا، وعلى صعيد الأوضاع الداخلية تمكن التمرد من

عقد تحالف مع أحزاب الاتحادي الديموقراطي والأمة وغيرهما تحت مسمى:

التجمع الوطني الديموقراطي.. ونتيجة للحصار الخارجي المتصاعد والعزلة

الداخلية المشددة.. تدهورت الأوضاع داخل الحكم نفسه ووقع الانقسام داخل نواة

الحركة الإسلامية؛ حيث تم إقصاء الدكتور الترابي من موقعه كرئيس لمجلس

الشعب السوداني؛ كما حدث انقسام داخل الحزب الحاكم الذي انقسم إلى حزبين..

فتداخلت كل هذه العوامل لتهيئ وضعاً جديداً تصاعدت فيه قوة حركة التمرد،

وتراجعت فيها قوة الدولة السودانية ... كان الحكم معزولاً في الداخل ومختلفاً عليه

بين أهل الشمال، ومنقسماً على نفسه. وصار في الخارج معزولاً بصفة كاملة في

المحيط الإقليمي، فتمكن التمرد من كسب مساحات سياسية في المحيط الجغرافي

وفيما بين القوى السياسية الشمالية ... وتواصل الصراع بين استراتيجيتي الحكومة

والتمرد إلى أن عادت التطورات للتشابك والتفاعل من جديد.. لتصل بجميع

الأطراف إلى طاولة التفاوض.. لنصل إلى التطورات والنتائج التي وصلنا إليها

اليوم.

* ضرورات قهرية للتفاوض:

قبل بدء المفاوضات كانت الأوضاع بالنسبة لطرفي التفاوض ترسمها عدة

ملامح، أصبحت تمثل في مجموعها وضعاً قهرياً على جميع الأطراف دفعها

للتفاوض، أو لنقل إن هذه الظروف جعلت التفاوض هو الحل الوحيد أمام جميع

الأطراف الدولية والإقليمية إضافة للأطراف المباشرة في الصراع بطبيعة الحال

والتي يمكن رصدها في التالي:

الملمح الأول: متعلق بالأطراف الدولية؛ حيث كانت الولايات المتحدة

وبريطانيا قد عقدتا تحالفهما لإحياء ظاهرة الاستعمار القديم من جديد؛ خاصة في

المناطق العربية والإسلامية التي تمثل الحلقة الأضعف في الوضع الدولي الراهن..

والذي استهدف ضمن ما استهدف السيطرة على مصادر النفط.. وإذا كانت العراق

هي الدولة المرشحة أولاً للعدوان العسكري والاحتلال والاستيلاء على بترولها، فإن

السودان كانت بدورها هي الحلقة الأضعف التالية، والتي كانت جاهزة للتدخل في

شؤونها دون عناء الاحتلال والتدخل العسكري والحرب المباشرة في تلك المرحلة

لوجود قوة التمرد المرتبطة بالمشروع الغربي والتي تحمل السلاح كما أنها الدولة

الأكثر تأهلاً لنشر المسيحية في الجنوب، أو هي الدولة الأكثر نموذجية لممارسة

حرب الحضارات والتفكيك الداخلي لدولة إسلامية.. وهذه أولويات بالنسبة لليمين

الجديد المسيطر للولايات المتحدة.

والملمح الثاني: يتعلق بالأطراف على الصعيد الإقليمي. وإذا بدأنا بمصر

وليبيا فقد كانت الدولتان قد بدأتا التعاطي بإيجابية مع خطوة الحكم في السودان

بالإطاحة بالدكتور الترابي ومن معه، فعملتا بسرعة على حماية النظام ودعمه،

وطرحتا المبادرة المصرية التي أدخلت البلدين على خط استعادة القوى الشمالية التي

انضمت إلى تمرد الجنوب ضمن التجمع الوطني الديموقراطي.. ضمن قلق

الدولتين من التدخل الأمريكي لدعم تمرد الجنوب، وهو الأمر الذي كان يشي

باحتمالات انفصال الجنوب وتفكيك السودان كله.. وهو أمر له تأثيرات خطيرة

على الأمن القومي العربي والمصري والليبي بصفه خاصة.. وفي المحيط الإقليمي

أيضاً كانت كل من إريتريا وإثيوبيا في حاجة إلى وقت لالتقاط الأنفاس في ضوء

وقائع الحرب بينهما.. كانت الدولتان جاهزتين لمفاوضات بين الحكومة السودانية

وقوات التمرد في الجنوب. إريتريا لأنها لم تعد قادرة على تطوير خطتها للضغط

على السودان من خلال دعم العمل المسلح على الجبهة الشرقية في السودان سواء

لإنهاكها في الحرب مع إثيوبيا، أو لأنها أصبحت في حاجة إما إلى تقليل فعالية

الضغط السوداني الذي كان متحمساً لتطويق إريتريا بتحالف مع كل من إثيوبيا

واليمن، أو لأنها لم تعد قادرة على تطوير مشروعها الأصلي في اقتطاع جزء من

شرق السودان المليء بالأرض الزراعية والمياه وكلاهما مفتقد لديها. أما من ناحية

إثيوبيا فقد كانت هي الأخرى راغبة في حدوث حالة تفاوضية بين الحكومة

السودانية وحركة التمرد، بهدف الاقتراب من الحكومة السودانية من أجل تطويق

إريتريا وعزلها في المحيط الإقليمي حيث لا نصير لها في ذلك في المحيط الإقليمي

سوى السودان واليمن على الطرف الآخر من البحر الأحمر بعد انهيار الصومال.

وعلى صعيد أوغندا فقد كانت بدورها في أمسِّ الحاجة إلى تفاوض بين التمرد

والحكم في السودان لتقايض على جيش الرب الناشط من جنوب السودان من خلال

المفاوضات استغلالاً لحاجة حكومة السودان إلى موقف أوغندي غير معادٍ أو هي أي

أوغندا رأت في التفاوض فرصة لتضمن هدوء حدودها الشمالية على الأقل أو

لتصاعد قدرتها على السيطرة عليها إذا ما توقفت العمليات في جنوب السودان

وخاصة أن الرئيس الأوغندي يوري موسوفيني كان يخوض معركة انتخابية

ضارية.

وأما طرفا النزاع المباشرين وهما الحكومة والتمرد فقد كانا بدورهما في أمس

الحاجة للحوار والتفاوض.. بغض النظر عن نتائج التفاوض. من ناحية الحكم

السوداني فقد كان يعاني من عزلة إقليمية مشددة بسبب خلافاته مع كل دول الجوار،

كما كان متعرضاً لأخطر حالة انقسام بين أهل الشمال بعدما انحازت أحزاب الأمة

والاتحادي وغيرهما من الأحزاب الشمالية إلى جانب حركة جارانج مشكِّلة معها

تحالفاً سياسياً وعسكرياً فيما سمي بالتجمع الوطني الديمقراطي.. كما كان الحكم في

السودان يعاني أيضاً من انقسام داخل نواة الحركة الإسلامية التي وصلت للسلطة

عبر انقلاب عسكري في يونيو ١٩٨٩م. كان الخلاف الداخلي شديد الوطأة والتأثير

على وضع الحكم بالنظر إلى أن الترابي ومن معه كان في جانب، وكان نائبه علي

عثمان محمد طه هو والدكتور غازي صلاح الدين والدكتور مصطفى عثمان وأمين

حسن عمر وغيرهم قد انحازوا لصف الفريق عمر البشير وهؤلاء هم بالدقة قادة

الحكم.. وهو ما جعل الحكم في مواجهة هي الأصعب بعدما انقسمت القيادة إلى

شطرين متعارضين متنافسين.. وكان الأخطر في نتائج ذلك هو الضرر الذي لحق

بسمعة الحركة الإسلامية في الشارع السوداني وأصاب أهليتها في تولي الحكم

إصابة مباشرة، وهو ما أضعف تأثير شعار الجهاد ضد التمرد في الجنوب داخل

الشارع السوداني، وهو الشعار الذي جرى تبنيه منذ بدء القتال في الجنوب إثر

الاستيلاء على الحكم، وكان ذا تأثير حاسم في الانتصارات التي تحققت ضد التمرد

في بداية تولي حكم الإنقاذ وقت أن كانت قوات التمرد تهدد العاصمة السودانية.

كانت الأوضاع ضاغطة بشدة على الحكم في السودان في الداخل، وكان

الحكم في أمسِّ الحاجة إلى إعادة تأسيس شرعيته من جديد في الداخل أو هو على

الأقل بات في حاجة إلى استعادة ثقة الشارع فيه.. وعلى الصعيد العسكري فقد

كانت أوضاع الجيش السوداني على جبهات القتال قد أصيبت بالضعف والتشتت

بعدما نجحت قوى المعارضة والتمرد في فتح جبهة للصراع العسكري في الشرق

من جانب الحدود الإريترية وهو ما ساهم في تشتيت قوة الجيش السوداني وعدم

قدرته على حسم المعركة على أي من الجبهتين.. وهنا جاء الضغط الأمريكي

والبريطاني والحملة الغربية الشاملة لتجعل من التفاوض أمراً لا مفر منه ولا مهرب..

لكن وعلى الرغم من كل ذلك فإن الحكم في المقابل كان ما يزال ممسكاً ببعض

الأوراق، منها أنه كان يتمتع باختراق داخل صفوف حركة التمرد من خلال

الاتفاقيات التي عقدها مع الفصائل الجنوبية الستة وأهم عناصرها (رياك مشار)

و (كاربينو) ، وإذا كان الأول يتمتع بوضع عسكري وقبلي متميز باعتباره من قبيلة

أخرى غير قبيلة الدينكا التي ينحدر منها جارانج؛ فإن كاربينو يمثل رمزية هامة

بالنظر إلى أنه واحد من أهم العناصر الجنوبية سمعة وتأثيراً باعتباره أحد كبار

المؤسسين لحركة التمرد تاريخياً.. كما كانت الحكومة السودانية قد نجحت في

تطوير النشاط الاقتصادي في مجال استخراج البترول وتصديره وهو الأمر الذي

حسَّن وضعها التفاوضي دولياً، وحسن من أوضاعها الاقتصادية أيضاً.. وطرح

عليها فكرة تهدئة الأوضاع العسكرية لكي تتمكن من زيادة حجم المستخرج من

بترولها، وخاصة بعد تهديدات التمرد بالاعتداء على الشركات العاملة في حقول

النفط، والاعتداء على طرق تصديره.

على الجانب الآخر المشارك في المفاوضات، فإن حركة التمرد كانت قد

قويت بانضمام الأحزاب الشمالية إليها واتفاقها معها على ميثاق سياسي يقوم على

إعطاء التمرد حق تقرير المصير في جنوب السودان وفق ميثاق عام ١٩٩٦م. كما

كانت نجحت في عقد اتفاق سياسي مع حزب المؤتمر الشعبي بقيادة د. حسن

الترابي بما مثل ضغطاً قوياً على الحكم في السودان، وكذلك كانت الحركة قد

نجحت في الدخول على خارطة السياسة الأمريكية كتابع مباشر لها في مواجهتها

للحكم في السودان، وكذلك بريطانيا، وفي القلب من كل ذلك كانت قد وطدت

أواصر التعاون مع الأعصاب المؤثرة في الكنيسة الغربية، وهو ما حشد قوة ضغط

هائلة على الحكم في الشمال، هذا بالإضافة إلى ما أشرنا إليه من فتح جبهة الشرق

تحت شرعية من شماليين لتكون المرة الأولى التي يقاتل فيها شمالي إلى جانب

التمرد الجنوبي ... ورغم عوامل القوة هذه إلا أن حركة التمرد كانت تعاني بالمقابل

من مشكلة خطيرة بسبب الحرب الإريترية الإثيوبية، حيث كانت قوات التمرد

تعتمد في الانتقال والحركة والدعم اللوجيستيكي لقواتها في الشرق على الانتقال من

جنوب السودان إلى شرقه عبر الأراضي الإريترية الإثيوبية.. فجاءت الحرب

الإريترية الإثيوبية لتضعف قدرتها على الحركة بين الجبهتين مما جعل هذه القوات

غير قادرة سوى على تثبيت القوات السودانية على هذه الجبهة حتى لا تنتقل

للتركيز في جبهة الجنوب، دون أن تكون قوات التمرد قادرة على فعالية الهجوم

السابق. كما أثرت تلك الحرب على اهتمام إريتريا بدور الحركة في الضغط على

السودان بحكم حاجة إريتريا لتهدئة الوضع الحدودي بعدما استغل السودان فرصة

الحرب الإريترية الإثيوبية ليهدد بحرب مع إريتريا.. كما وضعت تلك الحرب

الحركة في مأزق لا يمكنها الانحياز فيه إلى طرف من طرفي الحرب، وبما أعطى

الحكومة السودانية فرصة لتحسين علاقاتها مع إثيوبيا والعمل على حصار وتطويق

إريتريا حيث تلاقت تلك الرغبة مع اليمن كذلك، ومن ثم أعلن تحالف سياسي طوق

إريتريا وطوق معها حركة التمرد.. وعلى صعيد التمرد في الجنوب كانت الحركة

تعاني من الصراعات الجنوبية الجنوبية بوجود اتفاقات بين الحكومة السودانية

وفصائل جنوبية جعلت قوات جنوبية تتقاتل لصالح الحكم السوداني.

في نهاية المطاف كان الجميع في حاجة للتفاوض؛ حيث وصلت مشاريع

الجميع وخططهم إلى مأزق.. الحكم في السودان. وفق الأوضاع الداخلية والإقليمية

والدولية وصل مشروع الحسم العسكري للمعركة مع التمرد إلى طريق مسدود؛

بينما كان المتوفر من أوراق في يديه هي أوراق سياسية واقتصادية.. وحركة

التمرد توقفت عوامل القوة العسكرية في الشرق والجنوب عن التطور إلا باتجاه

تدخل عسكري أمريكي مباشر وهو تطور له عواقبه الخطيرة على الوضع في

الجنوب مثل الشمال؛ إذ هو يغير استراتيجية حركة التمرد القائمة على أنها جزء

من الشعب السوداني، كما يعطي الفرصة الكاملة للحكم في السودان للخروج من

مأزقه الداخلي والإقليمي باعتبار ذلك عدواناً خارجياً. وقبل هذا وبعده فإن هذا

التدخل العسكري الأمريكي غير مطروح أمريكياً في هذا الوقت.. وكان المتوفر في

يد التمرد هي أوراق الضغط الخارجي خاصة الضغط الأمريكي. وكان الحال كذلك

بالنسبة للأطراف الإقليمية والدولية التي كانت المفاوضات وحدها هي الطريق الذي

يحقق مصالحها على الأقل في هذا الوقت.

* السودان إلى أين؟

بدأت المفاوضات بين طرفي الصراع في ظل هذه الخريطة بأبعادها العربية

والإقليمية والدولية.. والتي جرت وقائعها بين شد وجذب وتأزم وانفراج؛ وكانت

محصلتها الأهم هي اعتراف بإخفاق استراتيجيتي طرفي الصراع.. وأن الوضع

الدولي يعزز فرص التمرد في هزيمة الاستراتيجية الحكومية.. وأن لا خيار أمام

هذه الحكومة في ظل أوضاعها ومفاهيمها سوى القبول بتلك النتائج.

وبإلقاء نظرة على ما تحقق للأطراف نجد أن جميع الأطراف كسبت من

عملية التفاوض ذاتها قبل أن تكسب من نتائجها النهائية. وإذا بدأنا بما حققته

الولايات المتحدة نجدها تقف على رأس الذين استفادوا حتى الآن من خلال إدخال

الطرفين إلى حلبة التفاوض، ومن خلال إلهاب ظهر الحكم في السودان؛ حيث هي

وضعت أقدامها قوية في هذا الجزء من العالم الذي لم يكن لها فيه وجود من قبل،

كما أنها باتت ضامنة مكاناً لشركاتها في السيطرة على البترول السوداني بحكم الدور

الذي يأخذه الجنوب الآن وفق الاتفاق في ثروة السودان وبحكم الانصياع الحكومي

السوداني تحت ضغوطها.. كما أنها باتت الأقرب إلى حزام وسط إفريقيا التي تعمل

على استبدال الوجود الفرنسي فيه بقوتها وهيمنتها إلخ؛ وهي أمور لا تكتمل فائدتها

إلا إذا تم توقيع الاتفاق..

ومن ناحية الأطراف الإقليمية فلعل أكبر الخاسرين حتى الآن هو إريتريا

حيث لم يتراجع السودان عن مناورته في إقامة التحالف مع إثيوبيا واليمن.. في

الوقت الذي لم يتم الانتهاء حتى الآن من المشكلات مع إثيوبيا.. وإذا انتقلنا إلى

بقية المحيط الإقليمي نجد أن ثمة استفادات بدرجات متفاوتة للجميع: إثيوبيا وجدت

ظروف المفاوضات فرصة لحصار غريمتها إريتريا في الإقليم.. ونجحت في عقد

تحالف إثيوبي سوداني يمني يطوق إريتريا.. وأوغندا باتت مرتكزاً أقوى للمشروع

الأمريكي ومتعاوناً وحليفاً، واستفادت هدوءاً أكثر من ضعف عمليات جيش الرب

الذي تأثرت أوضاعه كثيراً بحكم الموقف السوداني.. كما استفادت مصر بدرجة

متفاوتة أيضاً؛ حيث هي رسخت فكرة المصالح المصرية في السودان، واستعادت

دورها كاملاً في الشمال، وانتهت مشاكلها حول حلايب وغيرها، وعاد تأثيرها

الثقافي والاقتصادي في الشمال كما بدأت تعود لعلاقات أقوى مع الجنوب.. طرفا

التفاوض كان لكل منهما مكاسبه، وإن كان طرف التمرد هو الحاصد الأكبر

للمكاسب؛ حيث هو تمكن من إحراز عدة نجاحات أولها أنه استعاد السيطرة على

كل فصائل التمرد التي سبق أن اتفقت مع الحكم في الشمال تحت ضغط خوفها من

أن تخرج تماماً خارج اللعبة، كما نجح التمرد في استغلال فترة التفاوض ووقف

إطلاق النار ليمد نفوذه إلى دارفور لفتح جبهة جديدة على الحكم والجيش السوداني،

وربما كان نجاحه الأهم هو في مجال الوضع الخارجي والدولي للتمرد، حيث

حصل جارانج على اعتراف عربي ودولي لم يكن يحلم به؛ فقد أصبح ضيفاً مقبولاً

على الجامعة العربية وزائراً متكرراً إلى مصر، وزائراً للأمم المتحدة ولدول العالم

الغربي.

الحكم في السودان ورغم أنه كان الخاسر الأكبر، إلا أن لم يخلُ الأمر حتى

الآن من تحقيق قدر من المكاسب، أولها: فك الحصار والعزلة الإقليمية التي

ضُربت حوله باستعادة العلاقات مع مصر، وإثيوبيا، وحصار الدور الإريتري

وتقييده، وتحييد الدور الأوغندي ولو مؤقتاً. وفي الشأن الداخلي تمكن الحكم من

سحب البساط من تحت أقدام المعارضة الشمالية، وخاصة أن هذه التطورات قد

ترافقت مع حدوث تشققات داخل هذه الأحزاب نفسها، وكذلك فقد حصل على مهلة

من الوقت قل فيها الضغط من أجل الديمقراطية الداخلية انتظاراً للتطورات وفق

الاتفاقيات.. كما أنه واصل تطوير حقول البترول.

* سيناريوهات المرحلة القادمة:

الأوضاع السابقة على التفاوض.. والنتائج المتحققة خلال عملية التفاوض لا

شك أنها تولد بدورها قوة ضغط على أطراف التفاوض والاتفاق.. وهو ما يوفر

غطاء سياسياً لتنفيذ الاتفاقات، غير أن ثمة عوامل مضادة لهذه الضواغط والمصالح

لا شك أنها ستكون في الطرف الآخر من الاتفاقات.. أولها أن الاتفاق يجري

بضغوط أمريكية على الحكومة السودانية، وهو إذا كان اليوم عاملاً من عوامل

الضغط على الاتفاق فإنه قد يكون في حالة تغير في وضع الإدارة الأمريكية الحالية

أو في حال انهماك الولايات المتحدة في نزاعات أخرى، عاملاً يدفع الطرف

الأضعف اليوم راغباً في إعادة تعديل الاتفاق الذي سيستمر اتفاقاً انتقالياً لمدة

٦ سنوات متصلة، وهي فترة كافية لحدوث انقلابات على هذا الصعيد. وهناك من

ناحية ثانية قوى في المحيط الإقليمي لن ترضى للسودان أن ينعم ولو بهدوء مرحلي

حتى ولو كان جارانج في السلطة، فهي لم تكن تتدخل من قبل مساندة للتمرد لأنها

كانت ترى أن المتمردين على حق؛ وإنما تنفيذاً لأجندة تخص مصالحها أو مصالح

أطراف خارجية أخرى. وهناك أيضاً قوى في داخل السودان ترى أن الاتفاق يأتي

فاقداً الشرعية، وقد أعلن الدكتور حسن الترابي الذي أثبتت كل الأحداث السابقة أنه

صاحب خبرة وتجربة في الحكم على التطورات المستقبلية في السودان «أن كل ما

ستتمخض عنه المفاوضات الجارية بين الحكومة المركزية والحركة الشعبية لتحرير

السودان لن يكون له قيمة؛ لأن الشرعية الشعبية منزوعة عنها بعد أن أقصيت كل

القوى السياسية الفاعلة على الساحة» .. وهناك على الطرف الآخر من قيادات

الجنوب من يرى أن الاتفاق ليس سوى مرحلة تمهيدية لانفصال سلمي بين الجنوب

والشمال، حيث قال (يوتا ملوال) وزير الثقافة والإعلام في عهد الرئيس جعفر

النميري: «معظم الجنوبيين يقفون إلى جانب الانفصال، ولكنهم يختلفون حول

التفاصيل.. وإن اتفاق السلام المرتقب يهدف إلى ترتيب انفصال الجنوب بشكل

سلمي ومتفق عليه. وأضاف: نحن مع الانفصال وليس للجنوبيين في الوقت

الراهن خيار غيره» .

نحن إذن أمام مرحلة تغيير كبيرة في تاريخ السودان.. فإما إلى انفصال

الجنوب ليصبح السودان سودانين.. وإما إلى تشكيل سودان يحكم فيه جارانج من

داخل حكم الإنقاذ في مواجهة جبهات معارضة أخرى، وهو ما يعني توافر فرص

جديدة لاندلاع الحروب.. وإما أن ينجح الاتفاق في إيجاد حالة جديدة في السودان

تقوم على فكرة الاندماج القومي، والتصالح حول هوية أخرى للسودان ليكون

الإسلاميون وحدهم في المعارضة إلى وقت يعلمه الله.