[معاناة أهل السنة في العراق إلى متى]
صلاح علي حمادي
ما يلاقيه أهل السنة في العراق هو الأكبر والأقسى بين كافة مكونات المجتمع العراقي لأسباب سنأتي على ذكرها، كل في محله. وإذا أردنا أن نصور واقع المأساة والمعاناة التي يعانيها أهل السنة في العراق فلا بد أن نضع محاور بارزة للحديث، بناءً على ما اتبعته الأحداث من مسارات متميزة، ولنبدأ منذ انتهت الدولة العراقية في التاسع من نيسان عام ٢٠٠٣م، بناء على محورين أساسيين هما: المحور الأمني، ومحور الخدمات.
(١) المحور الأمني:
إن الحديث عن المحور الأمني لمعاناة أهل السنة يأخذ بنظر الاعتبار مجمل الحالة الأمنية لأهل السنة في العراق منذ بدء الاحتلال، دون النظر إلى الوقائع الفردية التي حدثت وتحدث حتى اليوم، ذلك أن هذا المحور بني أساساً على مواقف جماعية لا فردية لطرفي النزاع (السنة والشيعة) في التجربة العراقية هذه. ويمكن تصنيف المحور الأمني لمعاناة أهل السنة في العراق إلى محورين ثانويين متلازمين؛ ولكنهما في الوقت نفسه متميزان عن بعضهما كما يلي:
(أ) المحور الأمني الناجم عن دخول قوات الاحتلال إلى العراق.
(ب) المحور الأمني الناجم عن ممارسات الحكومة وأجهزتها الأمنية والميليشيات المسلحة.
(أ) المحور الأمني الناجم عن دخول قوات الاحتلال إلى العراق:
مع دخول قوات الاحتلال للعراق وإسقاط العاصمة بغداد في التاسع من نيسان عام ٢٠٠٣م، برزت حالة من التحدي واضحة المعالم غير خافية على أي متتبع للواقع العراقي، وهي أن الولايات المتحدة وحلفاءها إنما يسيرون في هذا المخطط وفقاً لعقيدة أعلن عنها الرئيس الأمريكي، حينما وصف حملته هذه بأنها (حرب صليبية جديدة) ؛ لذلك كان على هذه العقيدة أن تحدد أعداءها في العراق قبل احتلاله ـ ولا نريد أن نتشعب في الحديث عن حقيقة العداء بين النظام العراقي السابق والولايات المتحدة وحلفائها ـ فالحملة الصليبية التي قادها بوش ضد العراق إنما استهدفت ذوي العقيدة الإسلامية الحقة فقط، بعد أن خاضت ضدهم حرباً ضروساً في أفغانستان عام ٢٠٠١م وفشلت في القضاء على وجود تلك القوة المتمسكة بعقيدتها الإسلامية، رغم الإمكانيات والجهود الهائلة التي بذلت في تلكم الحرب.
لقد بحثت الولايات المتحدة عن ساحة تخوض فيها حرباً تعوض بها هزيمتها في أفغانستان، فوجدت ضالتها في نظام علماني (مارق) يُسخّر إمكانات بلده النفطي للحصول على أسلحة متقدمة، ولعل هذا أحد أهم أخطاء المحافظين الجدد الذين تسلموا السلطة في الولايات المتحدة، فأعدوا العدة وجمعوا حلفاءهم وجاءوا إلى العراق.
مع الأيام الأولى لاحتلال العراق انتفضت قوى عديدة معلنة بدء المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وبنظرة خاطفة إلى الخارطة الجغرافية لبدء عمليات المقاومة في العراق يتضح لنا أن الغالبية العظمى من العمليات المسلحة إنما كانت تتم في المناطق (السنية) من أرض العراق، مثل: الخالدية، وبيجي، والرمادي، والموصل، وسامراء، والضلوعية، والفلوجة، وبعقوبة، وراوة (ولن نتحدث عن بغداد الآن) . على أن بعض المناطق الأخرى في العراق قد شهدت بوادر مقاومة مسلحة للاحتلال ما لبثت أن خمدت شيئاً فشيئاً. وعليه فإن عقيدة معينة هي التي دفعت هؤلاء المقاومين لذلك، وهي بشكل مبدئي عقيدة ترفض احتلال الوطن، واستباحة دار المسلمين وبيضتهم، وانتهاك حرماتهم، وهذه أسس لا يمكن التفريط بها تحت أية ذريعة وفقاً لعقيدة أهل السنة.
يتميز العراق بأنه مهد لمدارس فقهية متعددة انتهجت سنة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ومنهج السلف الصالح في التمسك والحفاظ وإحياء هذه السنة المطهرة، حتى ضمت أرض العراق رفاة أكابر علماء السنة جنباً إلى جنب مع الأئمة من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين تمسكوا أيضاً بتلكم السنة وذلكم المنهج القويم.
إن مدونات التوراة التي بين يدي اليهود اليوم تصرح أن الجيش الذي سيبيد (إسرائيل) إنما يأتي من بين آشور وبابل، واليهود آمنوا بذلك؛ فعملوا على مر التاريخ على تأليب القوى العظمى لاحتلال وادي الرافدين، أو بلاد ما بين النهرين (العراق لاحقاً) ، فكيف الحال بالصهاينة الذين زادوا على أكاذيب أسلافهم الكثير، فيما يتعلق بزوال ملكهم (الإلهي) على يد القادمين من شرق (إسرائيل) ؟!
لقد حمل أهل السنة في العراق لواء المقاومة المسلحة إيماناً منهم أن الله لا يرضى منهم أن تستحل دارهم، وتنتهك حرماتهم، ويتسلط الكافر على رقابهم؛ فكانت ثورتهم ضد المحتل أول خطوات إفشال المخطط الأمريكي ـ الصهيوني في العراق، والذي بشروا به جنودهم حينما أوهموهم أن العراقيين (كل العراقيين) سيستقبلونهم بالورود. فما كان من الأمريكيين بعد أن استتب لهم الأمر في شمال العراق وجنوبه إلا أن يبدؤوا حملتهم لـ (تطهير) العراق من الجماعات المسلحة المتمردة غرب البلاد وشمال غربها، ثم شرق البلاد. فكان أن أنشأت القيادة الأمريكية غرفة عمليات متكاملة لمقاتلة المسلحين فيما عرف بعدئذٍ بالمثلث السني، وهم بذلك قد أعلنوا صراحة أن المقاومة العراقية إنما ترفعها وتنوء بحملها (طائفة) ذات عقيدة ومنهج محدد في العراق.
لقد تمثلت معاناة أهل السنة، وفق المحور الأمني الناتج عن الاحتلال، بتدمير مدنهم، واعتقال عشرات الآلاف من الشباب والرجال والنساء حتى امتلأت المعتقلات الأمريكية بهم؛ بل وضاقت عليهم. وفي غضون عامين فقط من الاحتلال كان مجموع ما تم تدميره من المدن (السنية) في العراق أكثر من عشرين مدينة (الفلوجة، الخالدية، بعقوبة، راوة، حديثة، بيجي، سامراء، الضلوعية، القائم، بلد، الدور، الموصل، تكريت، تلعفر، الرمادي، بهرز، الخالص، الحويجة، أبو غريب، اللطيفية، اليوسفية، المحمودية، المدائن، ... إلخ) ؛ بل إن هذه المدن لا زالت تعاني من سلسلة من المعارك الشرسة بين فصائل المقاومة العراقية وقوات الاحتلال. فإذا كان الوازع الوطني هو وحده الذي يحث أبناء هذه المدن على مقاومة الاحتلال، وبالتالي يحث قوات الاحتلال على استهدافها وتدميرها؛ فهل أبناء باقي المدن العراقية أقل وطنية وحباً لوطنهم من أبناء هذه المدن؟! أم إنها العقيدة التي يحملونها في قلوبهم، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة؟
إن الصورة التي يرسمها الأمريكيون وحلفاؤهم في أذهانهم عن مدى خطورة هذه (الطائفة) في العراق تتمثل في خشيتهم من أن يؤول الأمر في العراق إليهم فيعيدوا تجربة طالبان (حسب زعمهم) ، وهنا تتجلى الصورة واضحة، فطالبان، والشيشان، والبوسنة والهرسك، والصومال، وفلسطين، كلها شواهد على تصدي أهل السنة لقوى شيوعية أو صليبية أو صهيونية، كانت مساهمة غير أهل السنة فيها محدودة للغاية، ما لبثت أن أنجبت صراعات طائفية وعقائدية فيما بعد.
إن معركة قوات الاحتلال ضد أهل السنة في العراق لها وجهان متضادان أساسيان: هما الواجب العقائدي الذي يفرضه الإسلام على أهل السنة لمقاومة الاحتلال، والواجب العقائدي الذي تفرضه الصهيونية والصليبية الجديدة لاستهداف أهل السنة في العراق. وهنا أجدني مضطراً للقول: إنه حتى لو قعد أهل السنة عن مقاومة الاحتلال منذ بداية دخوله العراق، لما تخلى الاحتلال عن تنفيذ مخططه الهادف لاستئصال شوكة أهل السنة دون غيرهم، بعد أن أصبح العراق معقلاً للمفكرين والدعاة المسلمين حتى في ظل النظام البعثي العلماني السابق.
إن مخطط الاستئصال هذا ليس عاطفياً ولا عبثياً، وإنما ينم عن قراءة مستفيضة لواقع حال المجتمع العراقي الذي تغير كثيراً عن حاله في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، ومع انقضاء الثمانينيات وبدء تجربة الحصار الاقتصادي، كان العراق بمجمله، وأهل السنة فيه خاصة، قد أصبحوا يمثلون عمقاً استراتيجياً كبيراً للمقاومة الفلسطينية، والقضايا العربية، وحركات التحرر العالمية، ناهيك عمَّا تمخضت عنه الصحوة الدينية في العراق إبّان الثمانينيات، ومن ثم في التسعينيات من اهتمام بقضايا العالم الإسلامي، حتى أخذت جامعات العراق تستقطب اهتمام الباحثين وطلبة العلم الشرعي من مختلف أرجاء العالم الإسلامي، وأخذت حلقات الدعوة والإفتاء والفكر الإسلامي الهادف تظهر على القناة الفضائية العراقية، ويحمل لواءها شخصيات (سنية) معروفة على مستوى العالمين العربي والإسلامي. لذا لم تكن القوى الصهيونية والصليبية نائمة عمَّا يجري في العراق من صحوة دينية يقودها أبناء السنة فيه.
وعليه؛ فإن معركة أهل السنة ضد الاحتلال لم تأتِ تحصيل حاصل لدخول قوات أجنبية إلى العراق، وإنما سبقها إعداد فكري من قِبل قوى الاحتلال خانها فيه تصور، أو وهم، مفاده أن العراقيين سيقبلون بالاحتلال من أجل الخلاص من نظام صدام حسين، وأن العلمانية وفكر البعث قد تمكنتا من المجتمع السني، ولن تنهض فيه عقيدة الجهاد الإسلامي الصحيحة ضمن منهج أهل السنة والجماعة التي ما جاء الاحتلال إلى العراق إلا للقضاء عليها فيه، وإذا بهم يكتشفون أن عقيدة أهل السنة في العراق لا ترتبط بصدام حسين أو حزب البعث البتة؛ وإنما ترتبط، أولاً وآخراً، بما يمليه عليهم دينهم، فتحمّلوا معاناة كبيرة تمثلت في المعارك الطاحنة التي خاضوها ضد قوات الاحتلال، وما نجم عن ذلك من خراب ودمار منكر لمدنهم وقراهم وحواضرهم.
(ب) المحور الأمني الناجم عن ممارسات الحكومات المتعاقبة وأجهزتها الأمنية والميليشيات المسلحة:
متزامناً مع سابقه، ظهر على الساحة محور أمني آخر نجم عن تشكيل الحكومات (العميلة) المتتالية (علاوي، الجعفري، ثم المالكي) والطريقة التي تعاملت بها هذه الحكومات غير الشرعية مع واقع أهل السنة في العراق بعد أن اطمأن كلٌّ على مصالحه (ولو نظرياً) ولم يبقَ خارجاً عن سرب العمالة والتبعية للاحتلال إلا أهل السنة؛ وحتى إن انضمت شخصيات تنتمي لأهل السنة إلى العملية (السياسية) في ظل الاحتلال في محاولة واهية لإضفاء شرعية مفقودة على البناء السياسي الجديد في العراق المحتل. ومن أجل ألاَّ تحيد هذه الحكومات (العميلة) عن خطى السادة (وأعني قوات الاحتلال) فقد بادروا إلى (الثأر) ، والاقتصاص غير العادل من أهل السنة ومدنهم وتجمعاتهم ووجودهم المادي والمعنوي، فقامت قوات الحرس الحكومي وقوات وزارة الداخلية بشن هجمات لا تعد ولا تحصى على ما يمكنها أن تصل إليه من مدنيين: أفراداً وجماعات، حتى مرت على بغداد والمدن العراقية (السنية) سنون وهي تشيّع كل يوم عشرات من أبنائها الذين قتلتهم قوات وزارة الداخلية وألويتها جهاراً نهاراً تارة، وغدراً وغيلة تارة أخرى؛ على مرأى ومسمع من قوات الاحتلال، والحكومة العميلة، وقوات الحرس الحكومي. كما دأبت الميليشيات المسلحة المرتبطة بالحكومة وأجهزتها (وعلى رأسها منظمة بدر) على تنفيذ الاغتيالات والاعتقالات التي تنتهي بالقتل أيضاً.
وفي مرحلة لاحقة، بدأت الميليشيات المسلحة غير المرتبطة بالحكومة والمسماة (جيش المهدي) بأداء الدور ذاته الذي لعبته منظمة بدر في اغتيال أهل السنة وتصفيتهم أفراداً وجماعات، وزادت عليه أن نفذت مذابح جماعية غاية في الوحشية ضد أهل السنة في أحياء بغداد، وديالى، والبصرة، وحيثما كان لها موطئ قدم، بعد أن عجزت هذه الميليشيات المسلحة على تنفيذ عملياتها في مدن أهل السنة؛ التي شهدت، ولا تزال تشهد، معارك ضد قوات الاحتلال غالباً، والحرس الحكومي أحياناً.
لقد وصلت معاناة أهل السنة من الدور الذي مارسته وتمارسه قوات الحكومة والميليشيات المسلحة إلى حد ألاّ يستطيع أهل السنة دخول مناطق معينة من بغداد، أو الانتقال إلى محافظات أخرى؛ خشية قتلهم أو اعتقالهم؛ مما قطّع البلد إلى أوصال تفصلها نقاط التفتيش المشبوهة غالباً، وواقع كهذا فرض طبعاً أن يتم تهجير أهل السنة من باقي مدن العراق، قابلته هجرة غير أهل السنة من مدن أهل السنة، بعد أن أخذت جهات حكومية بالاصطياد في مياه الطائفية العكرة؛ متخذة من وجود غير أهل السنة في مدن أهل السنة وسيلة لإثارة الفتنة، ومن رحيلهم وسيلة لإثارة الفتنة أيضاً!
إن الدلائل كثيرة على أدوار حكومية دنيئة لاستغلال وجود غير أهل السنة في مدن أهل السنة لتأسيس مكاتب للمنظمات والميليشيات الطائفية المسلحة في تلك المدن، والواقع يفرض عدم المبادرة بمثل تلك المحاولات لمنع إثارة الفتنة التي لا تخدم سوى الاحتلال وعملاءه. ومع بداية رحيل غير أهل السنة عن مدن أهل السنة، فقد عمدت الجهات الحكومية نفسها إلى تصوير الحالة على أنها تهجير طائفي مقصود، وعلى أجهزة الحكومة وقواتها أن تتخذ تدابير (أمنية) معينة إزاء هذا التهجير.
(٢) محور الخدمات:
لا يمكن فصل محور الخدمات والنواحي الاجتماعية عن المحور الأمني مطلقاً؛ لأنه نجم عنه أساساً، ثم أصبح محوراً قائماً بذاته حتى مع تشكيل حكومة يقال عنها: إنها (حكومة وطنية) ؛ والتي من المفترض أن تتحمل أعباء الخدمات وتوفيرها لمواطني البلد الذي تحكمه.
لقد افتقر العراق بأكمله للخدمات والبنية التحتية مع بداية احتلاله من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، ثم بدأت بعض (الأقاليم) بالحصول على الخدمات بشكل تدريجي. فالمنطقة الشمالية كانت الأسرع من وجهة نظر الاحتلال للاستقرار، والمباشرة بمشاريع التنمية والبناء، وإعادة الإعمار، ثم تبعتها محافظات الجنوب (حسب زعم الحكومة ووسائل إعلامها) بإعادة الإعمار، وبناء المشاريع الاستثمارية، حتى دفعت القائمين عليها للتبشير بإعلان قيام فيدرالية الجنوب التي تماثل فيدرالية الشمال، ولكنها لا تضم طبعاً مدن أهل السنة (المتوترة) . لقد كشفت وقائع كثيرة عن مبادرات متتابعة لقوات الاحتلال لتسوية الأوضاع في مناطق (المثلث السني) بعد أن وجد الاحتلال نفسه عاجزاً عن بسط سيطرته العسكرية على تلك المناطق، فعمد إلى التفاوض بقصد تسليم إدارتها لمجالس محلية؛ إلا أن أصابع خفية كانت تمتد لتمنع المحتل من المضيِّ بمبادراته تلك. ومع أن أهل السنة لم يعوِّلوا على مبادرات الاحتلال مطلقاً؛ لأنها إنما طرحت لتخدم مصالح الاحتلال دون غيرهم؛ إلا أن تلكم المبادرات مثلت في وجه من وجوهها هزيمة لمشروع الاحتلال وعملائه في العراق، ولن نغفل أبداً إجراءات الاحتلال بادئ ذي بدء في منع الاستقرار عن مدن أهل السنة وتقويض أمن أهلها كما أسلفنا. وعليه، فإن تعمد منع حالة الاستقرار عن مدن أهل السنة هو أمر متعمد وغير عشوائي مطلقاً.
ويمكن تقسيم محور الخدمات إلى محاور ثانوية عديدة تبعاً للقطاعات المتضمنة في هذا المحور الأساس كما يلي:
أـ محور الوظائف:
أدت أول تجربة سياسية خاضها الاحتلال في العراق متمثلة في مجلس الحكم الانتقالي إلى إظهار العراق بمظهر طائفي مرفوض؛ تحت ذريعة التنوع الطائفي والقومي والديني للمجتمع العراقي! ومع أول حكومة شكلها الاحتلال عمد إلى تكريس المحاصصة الطائفية؛ مما نجم عنه استئثار أحزاب وقوى معينة بإدارة الوزارات والمؤسسات الواقعة في (حصتها) من أجهزة الدولة، وهنا لا بد أن نذكر صراحة أن الوزراء من غير أهل السنة بسطوا سيطرتهم التامة على وزاراتهم، بينما لم يستطع الوزراء من أهل السنة الذين جيء بهم من أجل (شرعنة) الحكومة في بسط سيطرتهم على وزاراتهم؛ بسبب وجودهم الشكلي أساساًً وسلطة (المستشارين) القادمين مع قوات الاحتلال (إن لم يكونوا أمريكيين أصلاً) ، وكذلك بسط نفوذ الوكلاء والمديرين العامين من غير أهل السنة على عمل تلك الوزارات، فتم منع أهل السنة من التوظيف في الكثير من الوزارات والمؤسسات، وأقصي الكثير منهم تحت ذريعة التجديد، وقانون اجتثاث البعث، وهيئة النزاهة، وغيرها من الوسائل التي أوجدها الاحتلال وعملاؤه في معركتهم ضد أهل السنة في العراق. ولم يتغير الحال مع مجيء إبراهيم الجعفري وحكومته حتى وصل الأمر أن يقوم نائب رئيس الوزراء، المشرف على قطاع النفط (أحمد الجلبي) بتسريح (١٥٠) موظفاً من موظفي وزارة النفط (معظمهم من إدارات ما قبل الاحتلال) قسراً وفقاً لقانون اجتثاث البعث. كما سُجلت العديد من الحوادث في وزارة المالية ضد الموظفين من أهل السنة من ضمنها إقصاء المديرين العامين، وقد حدث الأمر نفسه في وزارات التجارة، والكهرباء، والنقل، والاتصالات، والتعليم العالي، والبحث العلمي؛ وفي الأخيرة وصل الأمر أن تتحول إحدى الجامعات العراقية إلى مؤسسة يمنع فيها نفوذ أهل السنة حتى وفق الإطار المهني الصرف. لقد فرضت إدارات الوزارات في حكومتي (علاوي، والجعفري) استحصال موافقة الأحزاب والقوى المشكلة للحكومة عند التعيينات تحت مسمى (التزكية) أو (التوصية) على أن المتقدم للوظيفة هو من المفصولين السياسيين أو المتضررين من النظام السابق، أي أن المواطن الذي لم يتضرر شخصياً من النظام السابق، أو لم يستطع أن يثبت ذلك الضرر لا يحق له التقديم للتوظيف؛ لأنه لن يستطيع استحصال تزكية أو توصية من الأحزاب والقوى التي كانت (تعارض) النظام السابق ممن استقرت في السلطة الجديدة! وهذا حال معظم أهل السنة في العراق، وخاصة أن الأحزاب والقوى المحسوبة على أهل السنة، والتي دخلت العملية السياسية في ظل الاحتلال، قد أخفقت في إثبات معارضتها للنظام السابق وتضررها منه، فضلاً عن أن تزكياتها وتوصياتها لنيل الوظائف كان مردودها عكسياً.
ب ـ محور الخدمات العامة:
سنطرح فيما يلي فرضية، وسنثبت صحتها سريعاً إن شاء الله.
إن جدية المحاولات للسيطرة على الوزارات ذات الطابع الخدمي، والتي بذلت سلطة الاحتلال جهوداً استثنائية لتأهيلها وتشغيلها، كان لها هدف أساس؛ هو فتح الباب أمام الوزراء المنتمين إلى أحزاب وقوى معينة لاستغلال وجودهم في وزارات كهذه؛ لملء جيوبهم، وخزانات أحزابهم قبل حلول موعد الانتخابات (البرلمانية) اللاحقة؛ فقد أبرمت سلطة الاحتلال، وتحت ظلها مجلس الحكم الانتقالي ومن بعده حكومتا (علاوي، والجعفري) الكثير من العقود الحقيقية غير القابلة للتنفيذ، أو العقود الوهمية بمليارات الدولارات تحت مسميات مشاريع ضخمة، ومن أبرزها: تجهيز مواد الحصة التموينية لصالح وزارة التجارة، تأهيل مطار بغداد وموانئ البصرة وإعادة تطويرها، بناء مطار النجف الدولي لصالح وزارة النقل، تشغيل شبكات الهاتف النقال تحت إشراف وزارة الاتصالات، إعادة تأهيل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي وتأثيثها، تجهيز وزارتي الدفاع والداخلية، وتأهيل قطاع الكهرباء، وهذه القطاعات تضمنت إنفاق مليارات الدولارات دون أن يتمكن المواطن العراقي من رؤية أي من نتائج هذه العقود والمشاريع على أرض الواقع، والحجة القائمة الدائمة هي (الإرهاب) ، ولا أدري هل إبرام هذه العقود والمشاريع يتم دون استشارة متخصصين، يمكنهم القول بعدم جدوى إبرام هكذا عقود ومشاريع في ظل حالة من عدم الاستقرار، واتساع دائرة (الإرهاب) في بلد كالعراق؟! وللقارئ مقارنة واقع حال هذه القطاعات مع حجم الأموال المنفقة. بينما لم تشهد وزارات أخرى أعطيت لوزراء من أهل السنة مشاريع كهذه أو إنفاقاً كهذا، مثل: وزارات: التخطيط والتعاون الإنمائي، والصناعة والمعادن، والعلوم والتكنولوجيا، والبيئة، والعدل، مع ضرورة الإشارة إلى أن الوزارات ذات الطابع الخدمي المباشر مثل: البلديات والأشغال العامة، والصحة، والموارد المائية، والإسكان والإعمار تدار من قبل حكومة إقليم كردستان في المنطقة الشمالية، وتديرها قوى الحكومة وأحزابها في المنطقة الجنوبية، بينما لم تشهد أي تقدم يذكر لصالح المواطن العراقي في مناطق أهل السنة؛ بسبب (الإرهاب) طبعاً!
وبعد أكثر من ثلاث سنوات من الاحتلال، ساء واقع خدمات الكهرباء، والماء، والطرق والجسور، والري والزراعة، والإسكان في مناطق أهل السنة، بينما انعدم الإعمار، وماتت حقوق الإنسان، وأصبحت هذه المناطق ميداناً عملياً لوزارة المهجّرين والمهاجرين. وفي ظل حكومة المالكي، شهدت مناطق أهل السنة منع وصول الحصص التموينية ـ وهي حصة شهرية لمواد غذائية أقرها قانون مجلس الأمن (النفط مقابل الغذاء) وتعتمد عليهم الأسرة العراقية حتى الآن ـ وغالبية رواتب موظفي الدولة وتجهيزات المدارس، وفي الوقت نفسه تصرح وسائل الإعلام الأرضية والفضائية أن إقليم كردستان العراق يشهد ازدهاراً وتقدماً، وأن المواطن العراقي فيه يعيش حالة من الرفاهية، بينما تشهد محافظات الجنوب تنامياً ملحوظاً وازدهاراً متوقعاً، وإن المواطن ينعم بالأمن والاستقرار! ولو تابعنا الأخبار الاقتصادية للعراق يومياً فسنشهد المشاريع تلو المشاريع في مدن الجنوب، بينما لا ذكر لمدن أهل السنة في الأخبار الاقتصادية قط.
ج ـ محور الخدمات الصحية:
لم نكن لنتمكن من الاطلاع على واقع الخدمات الصحية في محافظات العراق الشمالية والجنوبية لولا ما تعرضه القنوات الأرضية والفضائيات العراقية؛ وخاصة العراقية، والحرية، والديار، والفرات، وبلادي، والفيحاء، وآشور، وعشتار، من خلال التقارير والتحقيقات التي تتناول أداء المستشفيات والمؤسسات والمستوصفات والمراكز والمختبرات الصحية وكيف أنها في تقدم ملحوظ ومضطرد. أما واقع الخدمات الصحية في محافظات الوسط، وخاصة المنطقة السنية، فإننا على تماس معها تقريباً. لقد افتقرت المستشفيات والمستوصفات في مناطق أهل السنة إلى التجهيزات العلاجية والدوائية بعد أن أصبحت وزارة الصحة حكراً لتيار محدد من القوى المشاركة في الحكومة (التيار الصدري) ، حتى وصل الأمر إلى تهديد وكيل وزير الصحة (وهو من أهل السنة) لترك منصبه، وقد ترك منصبه وغادر العراق فعلاً، كما جرى اختطاف مدير عام صحة ديالى (وهو من أهل السنة) داخل أروقة وزارة الصحة. كما أصبحت مستشفيات بغداد الرئيسية محظورة على أبناء أهل السنة إلا من دخول ثلاجات الطب العدلي؛ لاستلام جثث أبنائهم الذين تغتالهم أجهزة الحكومة والميليشيات المسلحة! كما تعطلت حملات تلقيح الأطفال ومكافحة الأوبئة والأمراض، وخاصة في ظل حادثة انتشار وباء إنفلونزا الطيور أواخر العام الماضي، ناهيك عمّا سببته الحملات العسكرية المتلاحقة على مناطق أهل السنة من كوارث صحية، نتيجة القتل المفرط وترك الجثث لتتفسخ على أرض المعركة، ولعل ما جرى في (سامراء، وتلعفر، وبيجي، والرمادي، وبعقوبة) يشهد على ذلك. ولدينا شريط وثائقي عن الكارثة الصحية التي حلت في مدينة الفلوجة بعد المعركة الثانية التي خاضتها قوات الاحتلال والحرس الحكومي في المدينة في تشرين الثاني/نوفمبر من عام ٢٠٠٤م. لقد تناول الإعلام العربي والعالمي ما جرى في الفلوجة بشكل مستفيض؛ إذ أدى انتشار الجثث المتفسخة وانعدام الخدمات الصحية لأسابيع، بعد انتهاء العمليات العسكرية، إلى واقع صحي قاسٍ لأبناء المدينة، مع ضرورة التأكيد أن قوات الاحتلال قد استخدمت أسلحة محظورة كالفسفور الأبيض في معاركها في مناطق أهل السنة؛ مما أسفر عن تفشي حالات مرضية داخل الوحدات المجتمعية في تلك المناطق، بينما تلجأ في عملياتها العسكرية ضد بعض رموز ميليشيا جيش المهدي في مدينة الثورة (الصدر) غالباً إلى عمليات الاغتيال عبر قصف الطائرات لسياراتهم أو بعض منازلهم، مع كامل الحيطة والحذر من المساس بالمدنيين في تلك المناطق.
د ـ محور الحالات الإنسانية:
تمخضت العمليات العسكرية لقوات الاحتلال في مدن أهل السنة وعمليات الاغتيال والتصفية الجسدية، التي قامت بها قوات الحكومة والميليشيات الطائفية المسلحة، عن واقع إنساني مأساوي؛ تمثل في فقدان كثير من العوائل لمعيليها، وتشريد الكثير منها بسبب التهجير القسري، مما أحدث تغيرات كبيرة في الواقع السكاني لمدن أهل السنة التي استقبلت العوائل المهجرة، وترتب على ذلك حالات إنسانية غاية في السوء؛ بسبب نقص المواد الغذائية والصحية، والوحدات السكنية، وحالة الشلل التام في الحركة الاقتصادية والعمالة والموارد المالية، خاصة في ظل الخطط الأمنية غير المجدية التي نفذتها وتنفذها هذه القوات والميليشيات، حتى لم تعد المساعدات والتبرعات التي قدمتها، وتقدمها الجمعيات الخيرية والإنسانية وجمعيات الإغاثة، كافيةً أمام حجم المأساة التي تشهدها مناطق أهل السنة.
هـ ـ معاناة أئمة المساجد وخطبائها وروادها:
يجب الإشارة إلى أن معاناة الأئمة والخطباء من أهل السنة في ظل واقع استثنائي للغاية في العراق قد بلغت ذروتها؛ بسبب ما تمخضت عنه تجربة الاحتلال وما تبعها من إفرازات. تمثل معاناة أئمة مساجد أهل السنة وجوامعها، ومعاناة خطبائها، محوراً يتداخل في الجوانب الأمنية والخدمية؛ إذ عانى الأئمة والخطباء في مدينة بغداد ومحافظات الجنوب من التصفية الجسدية والاغتيال غدراً، أثناء الهجمات المسلحة لقوات الاحتلال وقوات الحكومة والميليشيات الطائفية المسلحة على مساجد أهل السنة وجوامعها، رغم عظم الدور الذي اضطلعوا به ـ وما زالوا ـ تجاه المجتمع من ناحية الفتوى والعمل الشرعي، وكذلك من ناحية النصح والتوجيه والإرشاد فيما يخص تقديم الخدمات للمواطنين من: توفير المحروقات، ومواد الإغاثة، والمساعدات، ناهيك عن دور الأئمة والخطباء في مناطق أهل السنة التي استقبلت العوائل المهجرة من مناطق أخرى في إحصاء هذه العوائل وإسكانها وإغاثتها.
بل قد اعتادت وسائل الاعلام الحكومية، بتأييد من وسائل إعلام دول الاحتلال وبعض دول الجوار، اتهام أئمة المساجد والمصلين فيها باتخاذها منطلقات لعمليات إرهابية ضد مدنيين، أو إظهار بعض أئمة المساجد، من الذين تشهد لهم مدن العراق بصلاحهم وورعهم وتقواهم، وهم يقرون بكل ما من شأنه النيل من عقيدة أهل السنة ودينهم، أو بالإقرارعنوة بسفاهات أخلاقية يندى لها الجبين، بل إن حكومات الاحتلال الطائفية تتباهى باقتحام المساجد وإهانة أهلها، وشتم رموز أهل السنة الدينية وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزوجاته أمهات المؤمنين. وكثيراً ما تم تعليق صور مراجع الشيعة داخل مساجد أهل السنة من قبل قوات الأمن الحكومية؛ بل تم بناء حسينيات تابعة لتيارات طائفية متشددة مدعومة بميليشياتها جنباً إلى جنب لمساجد أهل السنة في المناطق مختلطة السكان من المذهبين؛ للتضييق عليهم، ومنعهم وصدهم عن سبيل الله.
وبعد حرق المساجد بعد أحداث سامراء وما تبعها خلت أغلب مساجد بغداد من أهلها، وهُجّر الكثير منها تماماً، وقلمّا يجد رواد صلاة الجمعة في مدينة بغداد خطيب المسجد الراتب ليخطب بهم؛ بل اعتادوا أن يعتلي المنبر من فيه جرأة من المصلين، بعد أن قُتل إمام المسجد وخطيبه، وربما قتل عدة أئمة وخطباء في المسجد الواحد تباعاً، ولازال العشرات من أئمة المساجد في سجون الاحتلال، وأضعاف عددهم في سجون الحكومة ومعتقلات الميليشيات.
بينما تم اقتناص المصلين في بعض مناطق بغداد الواحد تلو الآخر ليلاً عند صلاة الفجر أو العشاء، أو نهاراً علناً وعلى مرآى ومسمع من الناس، أو تم اختطافهم والتمثيل بهم أبشع تمثيل وأشنعه، أو اعتقالهم رسمياً ومن ثم تسليمهم لمعتقلات الميليشيات للعبث بهم قبل تصفيتهم، أو توجيه التهم الملفقة لهم ومحاكمتهم وسجنهم بتهم مخلة بالشرف والدين، وتشويه سمعتهم عبر وسائل الإعلام والملصقات في الشوارع والأماكن العامة.
إضافة إلى صعوبة تسلم بعض أئمة المساجد وخطبائها مرتباتهم من وزارة الأوقاف ومديرياتها؛ بسبب السيطرة التامة للميليشيات عليها، وخطورة الدخول والخروج منها وإليها بالنسبة لأهل السنة؛ مما قطع علاقة الكثير من أئمة المساجد بعملهم لاستحالة التواصل بينهم وبين وزارتهم؛ كل تلك الأسباب أدت إلى تدهور كبير في واحدة من أهم الخدمات في دولة (٩٨%) من سكانها مسلمون.
إن هذه الحرب الطائفية الخبيثة التي يتعرض لها أهل السنة من قبل قوات الاحتلال والحكومات الشيعية المتعاقبة وميليشياتها أدت إلى تدهور أحوال أهل السنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخلفت آثاراً سلبية صحية ونفسية لا حدود لها، وليس هناك أي إحصاءات رسمية أو غير رسمية لضحايا التعذيب والمعوقين أو المصابين بعاهات من جرائه، ويمكن تصور الكارثة الاجتماعية للأعداد المهولة من الأرامل والأيتام، فضلاً عن أحوال المهجرين، والفقر المدقع الذي تعج به مدن أهل السنة، بعد أن ازدحمت عليهم بالمهجرين القادمين من كل أنحاء العراق، خاصة مع انعدام الخدمات أو نقصها بشدة في مناطقهم، ومنع وصول الحصة التموينية الغذائية إليهم، وانقطاعهم عن التحاكم إلى القضاء العراقي، أو اللجوء إلى مراكز الشرطة؛ بل انقطاعهم عن كل دوائر الدولة بما في ذلك المستشفيات، أو الحصول على جثث أبنائهم المغدورين من مستشفى الطب العدلي؛ خشية الوقوع بين يدي عصابات الموت الطائفية التي تتمثل بقوات الجيش والشرطة والأمن ...
ولا حول ولا قوة إلا بالله.