المسلمون والعالم
مجاهدو الشيشان
يقدمون دروساً جديدة
بقلم: مبارك سالم
حين تتعرض رقعة جغرافية محدودة لهذا النوع الشرس من القتال، فإن المرء
يتساءل: لماذا لم تحظ هذه البقعة الساخنة باهتمام وحرارة تماثل حرارة القضية،
ونيران القتال، واشتعال طرفي الجبهة، لا أبالغ إن قلت: إن حرب الشيشان هي
أعنف حرب عصابات شهدها العالم منذ الحرب العظمى، وإن كميات الرصاص
والنيران التي تعرضت لها جروزني في أقل من سنتين تفوق تلك التي تعرضت لها
برلين في حصارها وسراييفو في حربها الأهلية.. بحسبة بسيطة: ينال كل مواطن
يقطن جروزني ما يعادل ٨٠٠ طلقة، ونصف قنبلة جوية، وثلاث وربع قنابل
أرضية ... إنه جحيم قررنا بطوعنا أن نغمض أعيننا عنه، ونكتفي بمتابعته
بصورة سطحية) .. هكذا تكلم مراسل التلفزيون الألماني وهو يعلق على (مفاجأة)
اقتحام جروزني من قبل المجاهدين الشيشان في يوم صيفي صاعق، شهد صعودهم
السريع وانقضاضهم المدهش على الجنود الروس المرعوبين، الذين تدفع بهم
قيادتهم نحو معركة ... بلا قضية ...
الإعلام الدولي وطرق المعلومات السريعة أضحت اليوم دون حاجة إلى أدلة
ترسم الواقع (الافتراضي) كما يقرر أباطرة المحطات الفضائية والإذاعات
والوكالات المتعددة المواقع، ونصيب الشيشان وقضيتهم انحسر في الفترة الأخيرة
على حصر الموضوع في كونه (موضوعاً انتخابيّاً) ، يلعب به مرشح البيت الأبيض
لمنصب الكرملين ... لم يفت الفريق الأمريكي الذي رسم لبوريس يلتسين حملته
الانتخابية وصورته المفترضة في أن (يلعب) بأرواح شعب كامل وقضية ضاربة
بجذورها في عروق وصدور الشيشانيين بأسلوب أمريكي سينمائي.. تتحرك
عدسات التصوير قبيل ساعات من التصويت على منصب الرئاسة الروسي لتلاحق
زعامات الشيشان التي تتنقل بين الكرملين وقصر الضيافة، وتسلط الأضواء على
(صانع السلام) المخمور الذي يَعِد أمة اضطهدت عبر قرون بأنه الذي سيحيل جبالها
إلى قمم آمنة، وسهولها إلى ملاعب للطير ... ! ! ثم يطير (طائر السلام) الثقيل
إلى الشيشان في حركة تمثيلية ليعد الجموع المسحوقة بنيرانه بأنه جاد في عرضه
ومبادرته ... وما أن ينتصر (الرجل المريض) ، وتضمن واشنطن عودته إلى
الكرملين حتى تُنقض الوعود، وتبدأ الآلة الروسية المتوحشة عادتها المألوفة
وهوايتها القديمة في سحق (المتمردين والمرتزقة) وبمباركة دولية شاملة وكاملة..
حتى (ألكسندر ليبيد) مستشار الرئيس الروسي للشؤون الأمنية الذي ارتقى إلى القمة
بانتقاده المر ليلتسين ولجرائم الروس في الشيشان انضم إلى فريق الكواسر البشرية
التي لا ترى بأساً في سحق آدمية شعب الشيشان والقضاء على حريته وإرادته.
وبعد أن تمت التمثيلية (السمجة) واتضح للمراهنين على يلتسين أنه ممسك
بمقاليد السلطة، أبعدوا عدساتهم وأضواءهم عن الشيشان وقضيتها، وأدخلوها في
(ثلاجة القضايا) التي يشربون منها ما يريدون حسب الظروف.. ويقدمونها وجبة
سريعة كلما رأوا لذلك حاجة.
توارت قضية الشيشان بعد أن حققت أهدافها روسيّاً، وأمريكيّاً، ودوليّاً،
وأصبحت من القضايا الهامشية التي لا تثير سوى النعاس، ولا تستحق أن تضعها
الـ (سي. إن. إن) في نطاق اهتماماتها.. وتلك قسمة واضحة للنظام العالمي
الجديد الذي يتحرك هنا أو هناك وقد سبقته جلبة وضجة أُعد لها بعناية، حيث
الإعلام في خدمة السياسة، والمراسل هو الجندي الأول في الحملة العسكرية،
والتقارير الصحفية لا تختلف كثيراً عن المنشورات العسكرية وأوراق التحذير التي
تلقيها الطائرات المغيرة من الجو..
التزوير الإعلامي الغربي لصالح يلتسين:
وسائل الإعلام الغربية خصوصاً تعاملت مع الشيشان بازدراء شديد وتجاهل
فاضح، وهذا ما يؤكده المراقب الروسي (يوري زاراكوفيش) ، الذي أشار إلى
إحدى المهازل المضحكة التي أفرزتها انتخابات الرئاسة الروسية، قائلاً: (هل
تصدقون أن التزوير الفاجع وصل إلى مرحلة أن دائرة الشيشان الانتخابية أعطت
٨٠% من أصواتها للجزار يلتسين الذي كان يسرق من أبنائها ونسائها وشيوخها
النومة الهنيئة؟ ! ، وبالرغم من ذلك: فلا حديث أو متابعة دولية لهذه الفضيحة؛
لأن المعنيين هم الشيشان البغيضون! ! ..) .
هؤلاء.. بدورهم فوجئوا بعد ثلاثة أيام من انتخاب يلتسين الذي وقع اتفاقية
للسلام مع المقاومة الشيشانية بتحذير روسي (للعصابات الإجرامية) بأن تسلم
سلاحها ورجالها.. وبتعالٍ شديد وجه الجنرال الروسي (فتيسلاف تيخاميروف)
إنذاره، متجاهلاً اتفاقيات السلام السرابية، وقام بتغطية هذا النقض الواضح بحجة
وجود أسرى روس لدى الشيشان، ويصف (رسلان حسب الله توف) حليف روسيا
السابق والناطق باسم البرلمان الروسي فعلة الدب الروسي بقوله: مع إنذار
(تيخاميروف) المفاجئ هذا تبخرت الآمال في تحقيق ما سبق الاتفاق عليه في
الكرملين، وما تم توقيعه في (نازران) من اتفاقيات، مثلما سبق وأن تبخرت الآمال
في خطط يلتسين لإقرار السلام بالشيشان.
بانتهاء المهلة المحددة لتسليم الأسلحة والرهائن المحتجزين: كانت أوامر
الجنرال تيخاميروف قد صدرت فعلاً لقواته بالبدء في أكبر عملية تمشيط للبلاد،
طوقت جنوب وشرق البلاد واستخدمت فيها الأسلحة والمدفعية الثقيلة، معززة
بغطاء جوي حوّل سماء مناطق القصف إلى جحيم حقيقي ... واستمر القصف حتى
الثالثة صباح التاسع من يوليو.
ومع بزوغ فجر اليوم نفسه، وفي الخامسة صباحاً بعد هدوء استمر ساعتين
عاودت قوات الجيش الروسي طلعاتها وهجومها البري، في محاولة للسيطرة على
قرية جيخي على بعد حوالي ثلاثين كيلو متراً من غرب جروزني والملاصقة لحي
أروس مارتان، على الطريق المؤدي لجيخي اصطدمت حاملات الجنود الروس
وعرباتهم المصفحة بمتاريس قوات المقاومة، حيث صدرت الأوامر للروس من
جنرالاتهم بالتقهقر، على أن يتقدم بدلاً منهم سرب الطائرات الروسية المروحية
والطائرات الحربية ليبدأ من جديد قصف جوي عنيف للقرية وقصف سكانها العزل.
قال الجنرال (شامانوف) قائد قوات وزارة الدفاع الروسي في الشيشان:
(هدفنا من العملية كان مجرد التحقق من هويات مواطني القرية (! !) ، وهو ما لم
تسمح لنا به قوات المقاومة، فاضطررنا للتعامل معها) ، ولم يكن هذا التفسير
الهزلي للعملية بجديد، فقد سبق وكان حجة لعشرات العمليات العسكرية المتوحشة،
التي راح ضحيتها آلاف مؤلفة.
ولم تمض أيام حتى غرقت قرى الشيشان في بحر من الدم والدموع والجثث،
وخصت قوات يلتسين الديمقراطية المدنيين بجزء كبير من قذائفها وحممها؛ مما
اضطر الرئيس الروسي لعزل تيخاميروف وتعيين قائد جديد هو (قسطنطين
كوليكوفسكي) .. لكن هذا التغيير في الوجوه لم يصاحبه تغيير في السياسات أو
الوسائل الوحشية لآلة الحرب الروسية.. أيقن الشيشان أن الحل بأيديهم.. ولذا:
فاجؤوا العالم بهجومهم الصاعق بعد شهر من نقض روسيا لاتفاقها معهم..
مفاجآت الشيشان الجديدة:
رفضوا أن يكونوا مجرد (إعلان انتخابي) أو (وسيلة لوصول يلتسين لسدة
الرئاسة) ، وظهرت المفاجآت المصاحبة للهجوم: من الإعلان عن وجود جوهر
دوداييف حيّاً، وظهور القائد العسكري سلمان دادوييف على شاشات التلفاز.. إذن:
قلب الشيشانيون المشهد رأساً على عقب، وأكدوا عدة نقاط مهمة لا بد للشعوب
المسلمة من تذكرها واستلهامها في المعركة الدولية الشاملة ضدهم:
-أن الوحدة على الهدف والمبدأ أمر مكلف يحتاج إلى تضحيات كبيرة وعمل
ضخم وكلام قليل، وأن الاختلاف على الوسائل والتفاصيل لا يجب أن يقف أمام
القضية الكبرى التي يتفق الجميع على خطوطها العريضة، فبالرغم من شراسة
العدو وغلبته العددية والقتالية ومعرفته التفصيلية بنواحي الضعف ونقاط الاختلاف
بين قادة الفصائل الشيشانية.. إلا أن المقاومة الشيشانية حافظت على حد معقول من
الوحدة والتجانس التي أفضت إلى فشل الروس في شق صفوفهم وتفريق وحدة
كلمتهم، لقد استند الشيشانيون إلى تاريخهم العريق في الصراع مع روسيا، والذي
اتسم بوعي عالٍ من مسلمي الشيشان بقضيتهم، كما اتسم بوضوح أهدافهم واتفاقهم
على حد أدنى من المطالب.
-أثبت الشيشان أن العملاء كالأحذية، لا يذكرون إلا من قبل التندر عليهم،
فمن منكم يعرف اسم قائد الحكومة العميلة لموسكو، الذي يشبه كثيراً الزعامات
الكرتونية المفروضة على شعوبها، تارة باسم السلطة الوطنية، وأخرى باسم الثورة، وثالثة تحت عنوان الخلاص أو الإنقاذ الشعبي! ! .
-رسم الشيشان مساراً آخر لتأكيد عدالة قضيتهم، وأكدوا للجميع أن التفاوض
مضيعة للوقت، وأن الواقع هو الذي يحدد مسارات هذه المفاوضات، كما كشفوا
للعالم أن قوة عظمى كروسيا لا يمكن أن تحفظ العهد أو الوعد، وأن القضية العادلة
تنتصر على الباطل مهما كثر خيله ورجله.
-نسف الشيشان نظريات جاهزة تستخدم دوماً لتثبيط الهمم وتهيئة الجو
للتنازل يتلوه تنازل.. من هذه المقولات التي توظف بالباطل رغم أن في بعضها
حقّاً: أن القضايا الحارة لا بد أن تخضع للموقف الدولي وحساباته، وأن قرب
ساحة المعركة من العدو الروسي يؤثر سلبيّاً على القضية.. كما أكدوا للمسلمين:
أنه حتى في حالة خذلان إخوانهم لهم، فإنهم قادرون على التوكل على الله، وحمل
أرواحهم على راحاتهم.
-ضرب الشيشان في قتالهم الأخير مثالاً جديداً لم يألفه المسلمون في صراعهم
الجهادي المعاصر: حين ابتعدوا عن التهويل، بل حاولو أن يظهروا بمظهر
المتواضع البعيد عن التهويل والمبالغة، واتضح هذا جليّاً في إعلانهم عن نيتهم
الانسحاب من جروزني بعد احتلالها، وضربوا لهذا الانسحاب موعداً لا يتجاوز
اليومين، لكن الأحداث أثبتت أنهم خططوا للاستيلاء على جروزني وأركان لفترة
طويلة، هذا ما لم تتعود عليه قيادات أخرى تصر في كل مرة على المبالغة
والتهويل من قدرتها، مما يصيب الجماهير بالإحباط.
-ومن الدروس الشاخصة: ابتعاد الشيشان عن صناعة الرمز والأسطورة
الشخصية، فقضيتهم لم ترتبط منذ انفجارها بشخص أو اثنين أو عشرة، صحيح
أن للزعامات الشخصية دوراً بارزاً في شحذ الهمم والالتفاف حول راية القضية،
لكن العالم اليوم يلتف أيضاً حول البرنامج كما يلتف حول الزعامة، بل ربما أتت
الزعامة في مرتبة بعيدة عن البرنامج ... شتان بين الشيشان وقياداتهم وبعض تلك
القيادات المفضوحة في الساحة، التي تختزل قضية شعب بل أمة بتاريخها
ومقدساتها وعدالة قضيتها.. في شخص (أراجوز سياسي) أو زعيم من زعامات
الفقاقيع الصابونية..! ! .
-ولعل من الأرصدة المهمة التي انتزعها رجال الشيشان الأبطال: ذلك المجد
الذي شهد لهم به عدوهم.. هذا (ألكسندر ليبيد) الجنرال الروسي ورئيس مجلس
الأمن القومي يصرح بعد زيارته الخاطفة للشيشان بأنه: يعجب أشد الإعجاب
بصلابة وإيمان المقاتلين الشيشان، مقابل الانهيار المروع في معنويات وأداء ثاني
أضخم جيش في العالم، الذي انهار أمام بزوغ فجر الحلم الشيشاني ...
والسؤال: هل يشرق صبح الشيشان وينعمون بالحرية والاستقلال، كما سعوا
وحاربوا لهذا الهدف منذ قرون..؟ .
لعل هذا السؤال يجد بعض حروف إجابته في كلمات (الإمام شامل) قائد
الشيشان الراحل، الذي خاطبهم قائلاً: (أيها الجبليون: علينا أن نحارب، لا وقت
لدينا لتأليف الأغنيات وإنشائها، ولا لرواية القصص، فلنجعل الأعداء يغنون فينا
الأغنيات، وستعلمهم سيوفنا كيف يفعلون ذلك ... امسحوا دموعكم واشحذوا
سيوفكم) .
ويبدو أن يلتسين وليبيد هما أول من نظم الأغنيات للشيشان، كما توقع قائدهم
المجاهد بذلك! !
فهل من معتبر؟