المسلمون والعالم
[أي احتلال نرفض؟!]
ربيع الحافظ [*]
[email protected]
عقد في لندن قبل أسابيع مؤتمر نظمه عراقيون من اتجاهات مختلفة تحت
شعار «لا لاحتلال العراق» . المؤتمر له خصوصيتان: الأولى: هي أن
المشاركين فيه يقعون بطعومهم الفكرية خارج دائرة المذاق الأمريكي، والأخرى
أنهم تيار من اتجاهات واختصاصات شتى ليس من السهولة اجتماعهم في ظرف
عادي.
ظاهرة المؤتمر أصبحت تتكرر في أكثر من مدينة بريطانية وربما أوروبية،
وتتخذ أشكالاً مختلفة باختلاف القائمين عليها، والاعتقاد هو أن هذه الظاهرة الفتية
هي إرهاصات لولادة معارضة عراقية شريفة هذه المرة، كما يمكن اعتبارها إعادة
تنظيم مبكر لصفوف طيف سياسي عريض في مرحلة عمرها لا يتجاوز بضعة
أسابيع.
كان رفض الاحتلال قاسماً مشتركاً، وتباين الحاضرون بين منادٍ بعودة السيادة
الوطنية على الثروات، أو سلامة العلماء العراقيين، أو رفض العبث بمناهج
التعليم، أو التعويضات المالية عن التلوث، أو رفض قيام علاقات مع الكيان
الصهيوني وغيرها، وجاءت مشاركات الحضور كل على شاكلته.
الحدث كبير، ويتسع للمقال السياسي والقصيدة والخطبة والمظاهرة
والأهزوجة والدعاء والشكوى، ولكن التساؤل: ما هو الاحتلال الذي نرفضه؟ أهو
مظهر الدبابة الأمريكية في الشارع، أو طائرة الأباتشي في سماء العراق؟ هذه
المظاهر لن تدوم، وستختفي بقرار أمريكي.
أظن، وليس هذا من قبيل التشاؤم، أن الذي يسري على العراق هو ما
يسري على العلاقة بين الغالب والمغلوب؛ فهذه الحرب لم تكن حرباً بين دولتي
جوار تتداخلان في القيم والتاريخ، وإنما بين حضارتين مختلفتين، بل نِدَّيْن تنازعا
يوماً السيادة على هذا الكوكب، وأن طوراً انتقالياً من الطوفان الثقافي والاجتماعي
والاقتصادي حادث لا محالة قبل حدوث نقطة الانقلاب. ولكن مجريات هذا الطور
لا ينبغي أن تكون عامل يأس أو «بارومتر» يقاس على أساسه نجاح أو إخفاق
مشاريع مناهضة الاحتلال.
القضية أكبر من أن تعالج من طرف واحد، ولكن ثمة حقائق يتفق عليها
الجميع ستدخل مجتمعة في صياغة المرحلة القادمة، منها: أن الأمريكان لم يأتوا
لعمل خيري، وأن لهم مصالح سيحرصون على تحقيقها، وأنهم شأنهم شأن أي
محتل بحاجة إلى «غطاء وطني» ، فعلها نابليون يوم دخل مصر، والجنرال مود
في سقوط بغداد السابق، وكررها غارنر وتبعه بريمر.
يوازي هذه الحقائق تركة سياسية ثقيلة لما يزيد على ثلاثة عقود من نظام
الحزب الواحد والحجر الإعلامي، تتضح في ضعف الأداء السياسي عند الفرد
والجماعة، وتركة اجتماعية ثقيلة لأكثر من عقد من الحصار والعوز الاجتماعي،
تجعل من لقمة العيش واستتباب الأمن مطلباً أولياً عند رجل الشارع دون اعتبارات
سياسية كثيرة وهو أمر ليس من الصعب فهمه.
الشعارات وخطب المساجد والمظاهرات وأعمال المقاومة والإضرابات
ستستمر، ولكن في الطرف الآخر من المشهد السياسي ستتشكل «الحكومة
الوطنية» بمقاييس أمريكية ووزراء أمريكيين، وستنشأ الأحزاب والصحافة
والانتخابات والبرلمان، وستمهر «الحكومة الوطنية» على التحولات العميقة
المقدمة لها.
سيشهد العراقيون تغير مناهج التعليم، وإغلاق ملجأ العامرية، ومنع أنموذج
متاحف هيروشيما وناغازاكي في اليابان التي تؤسس للذاكرة الجماعية الجديدة،
وسيغلق ملف اليورانيوم، وستبتلع الشركات متعددة الجنسيات الحِرف الصغيرة
ويتحول أربابها إلى رعايا للشركة قبل الدولة، وسيكون إعلان الخطط التنموية
للحكومة كشفاً لعدد الوظائف التي ستستحدثها «بيتزا هوت» التي ستنتج «اللحم
بعجين» المحلي عوضاً عن الأفران الشعبية، وسيجعل وزير الزراعة العراقي
«دان أمستوز» المختص بإقحام الحبوب الأمريكية إلى أسواق دول العالم
النامي، سيجعل من مهد الزراعة عالة على البذور الأمريكية المحسنة التي لا تصلح
للبذر في الموسم التالي، وسينشأ جهاز أمني جديد من متواطئين عراقيين مع المحتل
على غرار الحال في فلسطين، وسيكون الذين وصفوا بضعاف النفوس الذين
حرقوا التراث والمؤسسات آذاناً وعيوناً للمحتل، وربما اختير يوم سقوط بغداد يوماً
وطنياً في العراق.
سيحدث ذلك وغيره في ظل تواري الدبابات الأمريكية التي سترصد الحدث
من وراء أسوار قواعد الحبانية ومعسكر الرشيد، وحماية الشرطة العراقية،
سيحدث ذلك ضمن هامش محسوب من التسامح، ووسط شهية شرهة للمناظرات
السياسية والسجالات الصحفية والعمل الحزبي الذي سيفرغ خزين ثلاثة عقود من
الاحتقان السياسي.
لا بد لهذا الطور «الجراحي» من عنوان، ولا زال يعلق في الذاكرة عنوان
تعلمناه ونحن صبية في المدارس وهو «العصملِّي» (أي العثماني) الذي كان
نعتاً لكل ما يراد وصفه بالتخلف ويراد إزالته، وقد قطع ذلك العنوان بالنشء
اللاحق شوطاً بعيداً على طريق إعادة رسم الانتماء، وانحسرت رقعة الانتماء
الحضاري لذلك النشء في وقت كان يشرف فيه العالم على عصر الكتل السياسية،
وتبحث فيه الشعوب عن أشباه عرى تلتحق من خلالها بكتل سياسية كبرى خشية
التيه الحضاري.
سيختار المحتل لعملية فك الاشتباك الحضاري والثقافي لشعوبنا عنواناً ذكياًً،
لن يكون هذا العنوان De-Arabification أو De-Islamification، وإنما
سيكون عنواناً سهلاً مشتقاً من مواجع الناس ومشاعرهم الملتهبة، ولن يكون إلا
thification'De-Ba، لتكون كلمة «بعثي» عنواناً للخيانة العظمى، وغاية
يسوِّغ استئصالها كل وسيلة، وتهمة لكل ناشط يعمل في الاتجاه المعاكس، مثلما أن
كلمة «نازي» هي أقذع سبة سياسية في ألمانيا اليوم لكل من تحدثه نفسه التغني
بأمجاد ألمانيا التليدة، مع إدراك الشعب الألماني أن النظام النازي لا يمكن اختصاره
في الحرب، وأنه صنع لألمانيا الكثير قبل أن ينتهي بها إلى الدمار، لكن التاريخ
يكتبه المنتصر، وقد أوجد هذا التعامل السيكولوجي مع الشعب الألماني عقدة ذنب
ونُدَباً ثقافية مزمنة، وشخصية جماعية اعتذارية لدى أجياله الحديثة، كما أوجد
خلطاً بين مفهوم أمجاد ألمانيا وعظمتها وفروسية شعبها وبين النازية.
في المرة السابقة اصطحب الملك فيصلٌ الأول ساطعَ الحصري (المفكر
القومي العربي) الذي أبدل مناهج التعليم وأدخل مفاهيم القومية لتقطع جسور العودة
الثقافية مع نظام سياسي إقليمي شرقي إسلامي متمثل بالعثمانيين، وانفك ارتباط
الأجيال اللاحقة عن محيطها الحضاري الواسع. واليوم وبعد تسعين عاماً على ذلك
المنعطف الأيديولوجي، ينتقل بنا الأمريكان نقلة أخرى في نفس الاتجاه، فيضع لنا
مؤرخ أمريكي هذه المرة مناهج تعليم تفصل الأجيال عن محيطهم العربي
والإسلامي وتقاليدهم.
ربما يشار في هذا السياق إلى أن خسارة المثقف الكردي في الانقلاب
الأيديولوجي الأول للمنطقة سبقت غيرها، وانحسر مضماره من أستاذ ونحوي
ومصلح ومفتٍ وأديب في معاهد ومنتديات حواضر الشرق: إسطنبول وبغداد
والقاهرة ودمشق، إلى ناشط محلي في كردستان، ومن فاعل رئيسي وند عنيد في
عصر نهضة الحضارة الإسلامية ومطاولتها للأمم الأخرى، إلى الانكباب على
إحياء مشروع قومي أقصاه قبل أربعة عشر قرناً دخول الأكراد في كنف الحضارة
الإسلامية وتحكم رجالاتهم بمفاصل التاريخ.
السؤال الذي يشغل بال المشارك في المؤتمرات الجديدة في ضوء ما سبق: ما
هو الاحتلال الذي نرفضه، وبأي الوسائل؟ الهوسة العراقية المعروفة تقول:
«هز لندن ضاري وبكاها» يوم أن قتل الشيخ ضاري الزوبعي الضابط
الإنكليزي ليتشمان إبان إرهاصات ثورة العشرين في الفرات الأعلى. لكن الضابط
الأمريكي المتقاعد جيه غارنر سيذهب، وسيذهب بريمر. بماذا سيهز العراقيون
واشنطن ويبكونها بعد انتقال الأمانة من بريمر إلى محمد وعبد الله؟ على من
سيتقاوى المقوار (عصا في رأسها قار) عندما ينسحب «الطوب» (المدفع)
الأمريكي؟ هل سنستمر بالشعارات، أم نكتفي بذلك الحد من الاستقلال؟
من لم يشهد ولادة النظم العربية في بداية القرن الماضي؛ فإن أمامه اليوم
مخاض حي، وإذا كان العراق سيعيد شغل مقعده في الأمم المتحدة بعد حين كدولة
مستقلة وجيوش الاحتلال لا تزال تربض على أرضه، ووزاراته يديرها أمريكيون،
وأن هذا بالاتفاق هو استقلال المغفلين؛ فالسؤال: لقد ملأنا الدنيا ردحاً من الزمن
صخباً بأناشيد وقصائد وأعياد الاستقلال، فماذا كانت حقيقة الأمر في المرة السابقة؟
بماذا يختلف استقلال دول الجوار عنا؟ لماذا هذا استقلال مغفَّلين وذاك حكم
وطني؟ وهذا طرطور والآخر صاحب جلالة إذا كانت البدايات واحدة؟ كيف
يستنخي الشارع العربي هذه الأنظمة لنصرة العراق أو فلسطين؟ هل يعقل أن
يستنجد أهل دمشق بعد نصف قرن بحاكم في بغداد من الطراز الذي نراه اليوم؟
كيف يمر على شعوبنا مسلسل من هذا النوع؟ كيف يسع أمة حية تكرار كارثة بهذا
الحجم مرتين في أقل من قرن واحد؟ قد لا يكون اجتثاث العطب من جذوره
واستبداله بالسليم هو الاختيار الحكيم دائماً، لكن العراق اليوم يقف على
(zero ground) مثل برجي نيويورك، ولا بد أن تكون إعادة البناء من
(zero ground) بمواصفات هندسية وقائية تجنبه حدوث ما حصل في
المستقبل.
ليس أسهل على مدرسة الاحتلال المعاصر من قبة برلمان، وحكومة بأغلبية
برلمانية مريحة تتفيأ ظلال أحزاب سياسية معارضة مدجنة يرخص لها عاماً
وتعاقب بالحرمان السياسي عاماً آخر، تطالب بحجب الثقة عن الحكومة بسبب
مشكلة مواسير المياه العامة المفزورة، بينما يتفرد رأس النظام بعقد الاتفاقيات
الأمنية الخارجية التي تفتح الممرات المائية والأجواء والقواعد أمام الأجنبي دون
ولو مناقشة برلمانية، حتى ولو على الطريقة التركية التي تعاقب عليها اليوم. هل
يجود علينا الأمريكان بأكثر من الذي يباركونه في دول الجوار أو يعاقبون عليه؟
«الحكومة الوطنية» حدث مفصلي في تقويم الاحتلال، فهي القنطرة التي
إن عبرها بسلام إلى الطرف الآخر فستفضي به إلى فضاء سياسي رحب هو الطور
المدني للاحتلال الذي يختفي فيه اللون الخاكي وتضفى فيه الشرعية المحلية على
الاحتلال مثلما أضفت الأمم المتحدة الشرعية الدولية عليه، وبعبارة أخرى: هو
«الاستقلال» الذي يوصل الدولة إلى المحافل الدولية كالأمم المتحدة وفتح
السفارات كباقي الجمهوريات والممالك العربية الشقيقة. وستفتح الحكومة الوطنية
الطريق أمام توظيف القضاء المدني للاقتصاص من نشطاء مناهضة الاحتلال،
وسيجعل مسمى «البعث» مرادفاً للمقاومة و «اللاوطنية» ويكون بنداً ثابتاً في
الدستور الجديد، كما هو الحال مع النازية في دستور ألمانيا، مع علم العراقيين
أن البعث انتهى بوصول صدام إلى الحكم، وحلت محله الأجهزة الأمنية، بينما
حلت خواطر القائد محل الأيديولجية.
بهذه الطريقة ظلت الحكومات العربية منذ سقوط المنطقة الأول في القرن
الماضي في واحة سياسية بعيداً عن لهيب محاسبات حقيقية مع قطاعات الشعب
الواسعة غير الممثلة في الطيف السياسي، والعراق هو الدولة الأولى من رقعة
سايكس بيكو التي تخضع لعملية جراحية أيديولوجية وديموغرافية بهذا العمق، بعد
أن تضخمت هذه الدول سكانياً ونمت علمياً ورممت على مدى تسعة عقود جانباً
مهماً من شخصيتها الثقافية التي أثقلها الطوفان الفكري الذي صاحب الاجتياح
السابق بالتشوهات.
يبقى السؤال: ما هي أدبيات المقاومة في ظل هذا الاحتلال وفي ظل
«حكومة وطنية» ؟
يقولون إن السياسة فن الممكن. ولا بد هنا من إضافة حقيقة أخرى إلى جملة
الحقائق الآنفة الذكر، وهي أن الشارع العراقي متخم بالأحزاب السياسية القديمة
منها والجديدة التي ظهرت على السطح كالفطريات، ومتعطش للصدق والأمانة،
ومفتقد لحسن السلوك والسيرة الذاتية، وهي مؤشرات في اتجاه عدة أمور: دور
شاغر، وأصحاب هذا الدور، وظرف استثنائي من غياب الاحتراف السياسي.
الناس العاديون يتحدثون في الندوات التي تبثها الفضائيات العربية من بغداد
عن مواصفات مفقودة في قائمة السياسيين الوافدين منهم على وجه الخصوص، منها:
النزاهة وعدم الارتزاق من السياسة، ولوثة العلاقة مع الأجنبي وخلو السيرة
الذاتية من جنح سياسية أو أخلاقية أو جنائية أو مالية وغيرها. رب قائل يقول:
لن يفوز أحد بسحبة «يا نصيب» الشعب هذه لاستحالة هذه المواصفات في
الوسط السياسي؛ والواقع هو أن الفائز الوحيد بـ «يا نصيب» الشعب موجود
ولكن لا علم له بنتيجة السحب، ولا يذهب لتسلم جائزته، أو أنه لا يدري كيف
يتسلمها.
هذا الصنف قوامه الناجحون الذين قلدهم المجتمع نياشين الإيثار والتضحية
والمهنية في أوقات الأزمات، ومنهم الطبيب والمهندس والتاجر والعالم والكاتب
والشاعر، هذه هي الأغلبية الصامتة التي تحملت أوزار الفاشلين والمتطفلين،
ويقلقها اليوم مشهد البلاد، لكنها تنأى بقيمها ومنازلها الاجتماعية عن لوثة دكاكين
السياسة وسماسرتها. هذه الشرائح تستحق هي وكل ما يأتي منها شجب المحتل؛
لأنها ليست المعادن التي تصنع منها أمريكا سبائكها؛ فهي تصنعها على الدوام من
شوائب المجتمعات.
إنها ظاهرة استثنائية أن يتدخل غير السياسيين لإصلاح وضع سياسي
معطوب، إلى حين استرداد المؤسسة السياسية عافيتها ثم يعود كل إلى مصالحه
كعودة الجيش إلى ثكناته بعد استتباب الأمن الذي تفسده العصابات، مع بقاء هؤلاء
عين سخط تراقب المؤسسة السياسية وتبدي مساوئها كلما ظهرت.
العراقيون - لا سيما في المنفى - ليسوا عاجزين عن إيجاد منظومة سياسية
بحثية تكون ظهيراً سياسياً لهذه الشريحة في الداخل، توازي ببحوثها وإصداراتها
وزارات «الحكومة الوطنية» المرتقبة وما ستضعه بين أيدي الشعب من تلفيقات،
وتتحول واقعياً إلى «حكومة ظل» تحيل جلسات البرلمان إلى جحيم سياسي
وتكون الطرف الحاضر الغائب فيه. هذه المنظومة ستكون لسان حال الشارع،
وستكون قناتها الفضائية أو موقعها على الإنترنت على الأقل هو الموقع الذي يقصده
الناس كلما تفوهت «الحكومة الوطنية» بكلمة أو أمضت صفقة تجارية أو أمنية
للتعرف على الحقيقة، وستكون هذه المنظومة هي حكومة المعارضة الحقيقية التي
يتطلع إليها الشارع؛ لأن همَّها ليس إسقاط الحكومة والجلوس محلها كما هو حال
المعارضة البرلمانية، وليس من المستغرب أن تتناغم برامج أحزاب أو شخصيات
سياسية في الداخل مع طروحات منظومة تحظى بثقة الشارع.
ما قام به عراقيون في بلجيكا مؤخراً من دعوة قضائية لمحاكمة «محرر
العراق» الجنرال توم فرانكس بتهم جرائم الحرب مثال عملي على الدور المشترك
بين عراقيي الداخل والمنفى، وعلى نوع المسؤولية الملقاة على المنفى، وهو واحد
من بين عشرات الملفات التي يمكن فتحها وتوثيقها ووضعها بين أيدي الشرفاء في
الداخل لإشهارها في وجه «الحكومة الوطنية» التي ستغلق خلسة الملف تلو الملف
شكراً وعرفاناً للأمريكان.
لقد أسقط سقوط بغداد الحواجز بين فئات مختلفة من المجتمع اعتمدت
الانطوائية في عملها، ودفعهم بشكل اضطراري ومفاجئ باتجاه العمل المشترك،
لكن هذا الانفتاح لاقى طرائق تفكير مختلفة ومشارب ثقافية متباينة تنفي عن هذه
الفئات صفة الفريق المتجانس المؤهل والقادر على الانطلاق بخطى عريضة.
لقد كان الانحدار مرحلياً، ولن يكون الحل فورياً، بل سيكون مرحلياً هو
الآخر؛ فالأوروبيون الذين أرادوا رتق خروقهم التاريخية لم ينطلق مشروعهم برفع
الحدود وتوحيد العملة، ولكنهم وضعوا نصب أعينهم حقيقتين اثنتين:
الأولى: رغبة جامحة في إيجاد صرح أوروبي مشترك.
والثانية: ركام من التباينات والحساسيات بين أصحاب الرغبة، أي أن
الاختلاف هو الأصل والوفاق ليس مستحيلاً، فجاءت الانطلاقة واقعية ولم تكن
عاطفية، ولم يكن الاتحاد الأوروبي في أية مرحلة من مراحله عنواناً يبحث عن
واقع، وإنما واقع يبحث عن عنوان، وهو أول نظام إداري من نوعه في العالم
ابتدأ بأوروبا مشرذمة، وانتهى بها على مشارف الدولة الواحدة، ولو بُشر أوربيو
الخمسينيات الخارجين للتو من الحرب بمعالم أوروبا الحاضرة لكان ذلك مجلبة للشك
وربما التهكم.
الأمريكان ليسوا أهل سياسة أو دهاء، وإنما أهل بارود؛ لأن البارود عنصر
أساسي في تفكيرهم وتدبير شؤون حياتهم منذ هجرتهم إلى الأرض الجديدة،
والإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس التي تنشدها أمريكا لا تكفيها وفرة البارود؛
فقد كان دهاء الإنكليز الفطري رديفاً للبندقية في بناء وإدامة إمبراطوريتهم، ولا
عجب أن يكون الأمريكان أسهل من يُغلَب سياسياً؛ فما نازلوا خصماً سياسياً إلا
وخسروا الجولة مهما صغر الخصم.
الجندي الأمريكي يدرك أنه لا يستطيع إلى الأبد التشرنق بـ «الخاكي»
والخوذة والمرابطة على رؤوس الطرقات وتلقي الضربات من فوق الأسطح والأزقة
والبساتين في الفلوجة والأعظمية وهيت والرمادي، وله في رفيقه الجندي
الإسرائيلي الذي أنهكه شبان انتفاضة فلسطين أقرب مثال.
شارون بحاجة إلى حكومة أبو مازن للإجهاز على الانتفاضة، وبوش
بحاجة إلى حكومة أبي رغال لتفادي انتفاضة تلوح ملامحها، وإن تعذر تشكيل
حكومة فمجلس عشائر أو طوائف أو عفاريت. المهم واجهة تحقق المطلوب.
الفلسطينيون فهموا اللعبة، والعراقيون قادرون على خلع أسنان «الحكومة الوطنية»
وقطع الحبل السياسي الذي يخرج المحتل من البئر العراقي، وأخيراً هم قادرون
على أن لا تكون قضيتهم الاستثناء الأول لقاعدة الإخفاق في (ألبوم) السياسة
الأمريكية.
ما لم توضع العصي في دولاب المركب الأمريكي، وتُلقى المسامير أمام
عجلات النظام السياسي التافه الذي يريدونه لنا، فسيخلع الجندي الأمريكي
«الخاكي» وينعم بليالي بغداد ويتحول وجوده في بلدنا إلى نزهة.
(*) كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.