قديم جديد
فلنتعصب [*] ..! !
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
- رحمه الله -
قال صاحب سر (م) باشا:
جاءني يوماً صحفي إنجليزي من هؤلاء الكتاب المتعصبين الذين تطلقهم
إنجلترا كما تطلق مدافعها؛ غير أن هذه للبارود والرصاص والقنابل، وأولئك
للكذب والتهم والمغالطات؛ وهو أُذُنٌ وعينٌ ولسانٌ وقلم لجريدة إنجليزية كبيرة
معروفة بثقل وطأتها على الشرق والإسلام؛ تُصلح بإفساد، وتداوي الحمى
بالطاعون، وتعمل في نهضة الشرقيين واستقلالهم ما يشبه قطع ثدي الأم وهو في
شفتي رضيعها المسكين.
(..)
قال: ونظرت إلى الصحفي الإنجليزي نظرةً أكشفُهُ بها فإذا أول الفرق بينه
وبين أمثاله عندنا شعوره أن بلاده قد ربته (للخارج) فهو عند نفسه كأنه إنجليزي
مرتين؛ ويأتي من ذلك إحساسه بعزة المالك وقوة المستعمر، فلا يكون حيث يكون
إلا في صراحة الأمر النافذ أو غموض الحيلة المبهمة؛ ويستحكم بهذا وذاك طبعه
العملي، فهو بغريزته مقاتل من مقاتلة الفكر، يلتمس ميدانه بين القوى المتضاربة،
لا يبالي أن يكون فيه الموت ما دام فيه العمل؛ وبهذا كله تراه نافذ البصيرة قائماً
على سواء الطريق، لأن الإنجليزي الباطن فيه يوجِّه الإنجليزي الظاهر منه
ويُسانده، وفي أعماق الاثنين تجد إنجلترا وليس غير إنجلترا.
ثم تفرَّست في الرجل أريد كُنهه وحقيقته فإذا له نفسٌ مفتوحةٌ مقفلة معاً كغرف
الدار الواحدة، يُفتح بعضها لما فيه كيما يُرى، ويقفل بعضها على ما فيه كي لا
يُرى. وله وجه عملي يكاد يحاسبك على نظراتك إليه، تدور في هذا الوجه عينان
قد اعتادتا وزن الأشياء والمعاني، يتلألأ في هاتين العينين شعاع النفس القوية
الممرنة قد نفت الثقةُ بها نصفَ هموم الحياة عن صاحبها، تُمِدُّ هذه النفس طبيعة
مؤمنة بأن أكبر سرورها في أعمالها، فواجبها في الحياة أن تعمل كل ما يَحسنُ بها
وكل ما يُحسنُ منها.
(..)
قال صاحب السر: واستأذنت له على الباشا فسهَّل ورحب؛ ثم هممت
بالانصراف عنهما ولكن الإنجليزي قال: يا باشا! إنه قد تمكن في روعي أن
صاحب سرك هذا متعصب ديني، وقد علمت أنه ابن فلان القاضي الشرعي
فطربوشه ابن العمامة؛ ولقد كان ينظر إليَّ وكأنه يتأمل من أين يذبحني..
فضحك الباشا وقال لي: يا فلان! إن هذا الكاتب من تلاميذ برنارد شو، فهو
كأستاذه يجعل لكل حقيقة ذَنَباً كذيل الهرّ ثم يمسكها منه فإذا هي تعضّ وتتلوى..
والتفت بعد ذلك إلى الإنجليزي ثم قال له: جاءني كتابك فإذا كنت تريد رأيي
فيما تسميه التعصب الديني عند المسلمين فعجيبٌ أن تضعوا أنتم الغلطة ثم تسألونا
نحن فيها. إنك لتعلم أن هذا التعصب الكذب الذي أكثرتم الكلام فيه إنما هو لفظ من
ألفاظ السياسة الأوربية أرسلتموه إلينا ليقاتل لفظ التعصب الحقيق؛ ومن قبل هذا
اخترعتم لفظ (الأقليات) وأجريتموها في لغتكم السياسية لتجعلوا بها لتعصبنا الوطني
شكلاً آخر غير شكله فتفسدوه علينا بهذه المادة المفسدة؛ وبذلك تضربون اليد اليمنى
من غير أن تلمسوها إذ تضربونها بشل اليد اليسرى.
إن الإسلام في نفسه عدو شديد على التعصب الذي تفهمونه، فهو يقول لأهله
في كتابه العزيز: [كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ
والأَقْرَبِينَ] .
فإذا كان العدل في هذا الدين عدلاً صارماً، وحقاً محضاً، لا يميز بشيء البتة، لا ذات النفس التي فيها اشتهاءُ الدم، ولا أصلها من الأبوين الذين جاءت منهما
وراثة الدم، ولا أطرافها من الأقربين الذين يلتفُّون حول نسب الدم - إذا كان هذا
فأين في هذا العدل محل الظلم؟
(..)
أتريد مني التعصب في الإسلام؟ إنه بعينه كتعصب كل إنجليزي للأسطول،
فهو تشابك المسلمين في أرجاء الأرض قاطبة وأخذهم بأسباب القوة إلى آخر
الاستطاعة لدفع ظلم القوة بآخر ما في الاستطاعة..
وهو بذلك يعمل عملين: استكمال الوجود الإسلامى والدفاع عن كماله.
وإذا أنت ترجمت هذا إلى معناه السياسي كان معناه إصرار جميع المسلمين
على نوع الحياة وكرامتها لا على استمرار الحياة ووجودها فقط.
(..)
إن التعصب في حقيقته هو إعلان الأمة أنها في طاعة الشريعة الكاملة، وأن
لها الروح الحادة لا البليدة، وأن أساسها في السياسة الاحترام الذاتي لا تقبل غيره،
وأن أفكارها الاجتماعية حقائق ثابتة لا أشكال نظرية، وأن مبدأها هو الحق ولا
شيء غير الحق.
(..)
(*) نقلاً عن مجلة الرسالة، العدد ١٦٥، ١٤جمادى الآخرة ١٣٥٥هـ، ٣١ أغسطس ١٩٦٣، السنة الرابعة.