للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التعصب الممقوت وآثاره على العمل الاسلامي]

وصفي عاشور أبو زيد

ظهرت القضية الإسلامية المباركة بعد أن تهددت شخصية الشعوب الإسلامية، وتبددت قِيَمُها وموازينها بفعل الجمود في الداخل، ومخططات التغريب من الخارج، التي تهدف إلى ضرب الفكرة الإسلامية، وإبعاد الأمة عن شريعة ربها. ولكن الفطرة التي فطر الله الناس عليها قد تضعف أو تلين أو تتوارى خلف السُتُر المختلفة والعديدة، ولكنها لا تختفي ولا تنمحي أبداً؛ لأن عامل الفطرة أقوى من كل العوامل الأخرى الطارئة والضعيفة مهما تعددت وتنوعت، فشاء الله للأمة العربية الإسلامية ـ بظهورها ـ أن تتجدد بعد أن بليت، وأن تقوى بعد أن ضعفت، وأن تظهر فيها بوادر النصر بعد أن تجرعت مرارة الهزائم المتتالية على يد المستعمرين والمنهزمين ردحاً طويلاً من الزمان.

وبقدر هذه النعمة التي يستبشر بها دعاة الإسلام اليوم ورجاله في كل مكان ظهرت أمراض خطيرة بين أبناء هذه الصحوة المباركة تأكل من جسدها الناهض، وتهشم كيانها الصاعد؛ فبقدر ما تتقدم إلى الأمام تتقهقر إلى الخلف بفعل هذه الأمراض القاتلة، ومن أجل ذلك اهتم ثلة من علماء الأمة ومن أخلص دعاتها بترشيد مسيرة العمل الإسلامي في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ على بصيرة، وتقويم ونقد الحركات الإسلامية العاملة على الساحة، ومن أبرزهم: الشيخ أبو الحسن الندوي، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ سلمان بن فهد العودة، والشيخ محمد أحمد الراشد، والشيخ محمد الغزالي، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور عوض القرني، والأستاذ عمر عبيد حسنة، والأستاذ فتحي يكن، وغيرهم كثير.

وإذا كان للقضية أعداء من خارجها، فهذا من سنن الله الجارية في خلقه وفي كونه التي تقتضيها سنة التدافع بين الحق والباطل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: ٢٥١] ، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: ٣١] ، لكن أن يكون عدو الصحوة من داخلها، فيتصارع أبناؤها، ويتعصبون ضد أنفسهم، ويصبح بأسهم بينهم شديداً؛ فهذا ما يغمر النفس حسرات، ويقطع القلب زفرات.

ومن أخطر الأمراض التي تهدد وجود القضية الإسلامية وتعوق مسيرتها: مرض التعصب الممقوت (١) الذي يمكن تعريفه بأنه: «عدم قبول الحق عند ظهور دليله» (٢) . وهو ما يعني في المحصلة الأخيرة تأخير امتداد صحوة الإسلام، وتزهيد الناس في الالتزام، فيكون بذلك الحالقة التي تحلق العلاقات والأواصر بين المسلمين العاملين في هذا السبيل المبارك، وربما تحلق الدين. ويقول العلاَّمة الشوكاني ـ في حسرة ـ مبيناً خطره في مقام من المقامات: «هاهنا تُسكب العبرات، ويُناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا لسُنَّة ولا لقرآن، ولا لبيان من الله ولا لبرهان، بل لمَّا غلت مراجل العصبية في الدين، وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب بالقِيعة، فيا لله وللمسلمين من هذه الفاقرة التي هي من أعظم فواقر الدين، والرزية التي ما رزئ بمثلها سبيل المؤمنين» (٣) .

واعتبره الشوكاني رزية وفاقرة على اعتبار أنه مفهوم يشتمل على بعض العناصر السلبية والخطيرة؛ ومنها:

١ - أنه حكم يفتقد للموضوعية، ويتسم بالتعميم أو التسطيح المخل.

٢ - أنه يقوم على أساس مجموعة من القوالب النمطية والتصنيفات الجاهزة والانطلاق من خلفية معينة.

٣ - ينشأ في ظل سياق ثقافي واجتماعي تغيب فيه الشورى والحرية، ويدفع للمجاراة بدرجة أو بأخرى.

وهذا ما يستوجب وقفة متأنية أمام هذا المرض الخطير لنرصد مظاهره، ونبين آثاره وأسبابه، ونرسم الطريق لعلاجه، وما يلي من مظاهر وآثار وأسباب وعلاج ليس هو الكلمة النهائية، بل ربما رأى غيري أن يضيف إليها أكثر منها.

أولاً: المظاهر:

وللتعصب الممقوت الذى ابتُلي به بعض العاملين في ساحة العمل الإسلامي مظاهر متعددة، ويعتبر رصدها نتاج خبرة نتجت عن مشاهدة هذا الواقع ومعايشته فترة غير قليلة من الزمان ـ وربما كان هناك من المظاهر أكثر من هذا عند التأمل والتدبرـ ومنها:

١ - أن الذي يعمل في دعوة أو مع حزب أو جماعة يرى أنه هو الذي على الحق، وأن غيره على الباطل، مهما كان بينهم من كثرة في نقاط الاتفاق، ومهما كان بينهم من قلة في نقاط الاختلاف. قال ابن القيم في قوله ـ تعالى ـ: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: ٥٣] : جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون، ورؤوس أموالهم التي بها يتاجرون» (٤) .

٢ - أن الذي يسلك سبيل الدعوة الفردية مع آحاد المسلمين يفاجئه أصحاب اتجاهات أخرى يخطفون منه هذا المدعو، ويتقاتلون عليه بحجة أن الطرف الآخر سوف يضله ويغويه بما عليه هو من غواية وضلال، وتكون النتيجة أن يترك المدعو هذا الميدان تماماً؛ لما يراه من فرقة واختلاف بين هؤلاء الدعاة.

٣ - تحويل المساجد ـ بيوت التوحيد والعبادة والتجمع والتصافي والتوحُّد بين المسلمين ـ إلى ساحات شجار وتراشق بين فصائل الصحوة المختلفة بسبب قضايا فرعية خلافية، لم ينته الخلاف فيها سابقاً، ولن ينتهي الخلاف فيها لاحقاً. ويصف الصنعاني مظاهر ذلك قائلاً: «لم تكن الخلافات والنزاعات بين المقلدين مقتصرة على الآراء الفقهية فقط، بل بلغ بهم التعصب إلى الحروب الطاحنة فيما بينهم، يروي لنا التاريخ الشيء الكثير من ذلك. قال ياقوت الحموي وهو بصدد ذكر مدينة أصبهان: «وقد فشا الخراب في هذا الوقت وقبله في نواحيها لكثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين؛ فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها، لا يأخذهم في ذلك إلٌّ ولا ذمة، ومع ذلك فقد قلَّ أن تدوم بها دولة سلطان أو يقيم بها فيصلح فاسدها، وكذلك الأمر في رساتيقها وقراها التي كل واحدة منها كالمدينة» . ا. هـ. وهذا غيض من فيض مما وقع بين أتباع المذاهب الذي يندى له جبين التعصب، أعاذنا الله جميعاً من هذا الداء العضال الذي أصاب الأمة الإسلامية المتلاحمة ففرقها» (٥) .

٤ - ومن المظاهر أيضاً أن ينتصر المسلم لجماعته أو حزبه أو دعوته أو مذهبه ومدرسته بالحق والباطل؛ فهي الحق على طول الخط حتى لو فعلت المنكرات البينات، وينتصر من غيرها دائماً حتى لو نصرت المحكمات الواضحات.

٥ - إن بعض المسلمين يرى مدرسته التي ينتمي إليها مقدسة، ورجالها ملائكة معصومين، وتاريخها كله خالياً من الأخطاء مبرأً من العيوب، ولا يذكر لها إلا الحسنات والميزات حتى لو أتت أفعالاً تسببت في تأخر الإسلام وصحوته حيناً من الدهر، في حين يرى غيره من المدارس والجماعات مدخول العقيدة، سيئ المنهج، مُجرَّح الرجال، أسود التاريخ، ضيق الأفق، ضحل الفهم، متحلل الفكر، ولا يذكر لها إلا السيئات والعيوب حتى لو كان لها في انتشار الإسلام أيادٍ بيضاء، وما أحسن ما قاله العلامة الشوكاني في تفسيره عن المتعصب: «والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق غفلةً منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقِّي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع؛ فإنه صار بها باب الحق مرتجّاً، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله ـ سبحانه ـ والهداية منه» (١) .

٦ - أن هذا الفريق لا يعجبه علماء الفريق الآخر حتى لو صدع بالحق؛ بينما إذا تبين خطأ علمائه هو التمس لهم العذر وهوَّن من ضلالهم في القول والفتوى؛ فعلماؤه مبرؤون حتى لو ضلوا وأضلوا، وعلماء غيره مدانون حتى لو كان لهم الفضل في رفع كلمة الإسلام زمناً ما، ونسي هؤلاء وأولئك هيبة العلماء، وأن القضايا العلمية الكبيرة لا شأن للصغار بها، وأن لحوم العلماء مسمومة، وهذا المظهر للأسف ربما وجدناه عند بعض العلماء أصحاب الاتجاهات والانتماءات المختلفة.

٧ - ومن المظاهر أيضاً أنه ربما تعاون أبناء فصيل معين من الدعاة وتحالفوا مع عدو خارجي من أعداء الإسلام لضرب فصيل آخر مسلم عامل في الساحة، ليعملوا سوياً على إذهاب ريحه، وإنهاء وجوده؛ حتى يخلو لهم الجو، وتفرغ لهم الساحة؛ ليمارسوا دعوتهم في جوٍّ آمن من التراشق والمضايقات، خالٍ من التنافس والمشاحنات. نسأل الله العافية.

ثانياً: الآثار:

ومن البدهي أن يكون لهذه المظاهر آثار مدمرة على كل المستويات سواء على مستوى الدعوة الخاص، أو مستوى الإسلام العام، ومن أبرز هذه الآثار ما يلي:

١ - تأخر وتخلف الحركات بهذا التعصب؛ لأنه ـ وقد رآها أصحابها معصومة فوق النقد والمراجعة ـ سوف يقفز الزمان عليها ويتخطاها بأزمان ليرتاد آفاقاً غيرها بما مات فيها من نقد ذاتي يحيي الحركات والدعوات، ويقوي ضعفها ويشد على أيديها.

٢ - الكراهية والتدابر والتحاسد والتباغض الذي سيسري بين أبناء الدعوة الإسلامية من جراء هذه المراشقات، ونتيجة تلك الاختلافات الفرعية، وهو أمر يوقِع في مخالفة مع نصوص متفق عليها مثل ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» (٢) .

٣ - إيقاع الوهن والتفكك في جسد الدعوة الإسلامية، وربما تعدى ذلك إلى عموم المسلمين، وهو ما يوقع أيضاً في مخالفة نصوص صريحة متفق عليها ليس أبرزها ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (٣) .

٤ - تزهيد الناس في الالتزام بالإسلام، أو مع هذه المدارس والمذاهب للعمل للإسلام؛ لما يرونه من تراشق وتشاحن، هذا يحارب ذاك وينشر عنه الافتراءات والأكاذيب ويكيد له، وذاك يتهم هذا ويتمنى له الخطأ ويُسمِّع به، فيقف الجمهور المسلم في حيرة: أيهم على صواب، وأيهم على خطأ، ولماذا كل هذا، وفي صالح من؟ وربما تعدى هذا الزهد إلى الإسلام ذاته فيتشكك الناس في الإسلام؛ فهل منهج الإسلام السمح وشريعته الغراء وتشريعه الوسطي يفرِّخ هذا التعادي والتحاقد، ويولِّد هذا التنافر والتباغض؟

٥ - الانكفاء على قضايا الداخل الذاتية الصغرى، وإهمال القضايا المصيرية الكبرى التي تتعلق بواقع الأمة ومستقبلها؛ لأن فصائل الصحوة مشغولة بكيفية انتصار بعضها على بعض، ناسين أو متناسين الأخطار المحدقة بالأمة التي توجب عليهم أن يتكاتفوا لينتصروا عليها، وما أكثرها.

٦ - طمع الأمم في أمة الإسلام؛ لأنها أصبحت أمة ضعيفة الجسد مترهلة البنيان ليست جسداً قوياً، ولا بنياناً مرصوصاً، ومن ثَم فالدائرة تدور عليها؛ لأن السنن الإلهية الجارية لا تحابي أحداً؛ فالأمة القوية التي تأخذ بأسباب القوة والنصر والوحدة ينصرها الله ولو كانت كافرة فاجرة، والأمة الضعيفة التي تهمل أسباب القوة والنصر يخذلها الله ولو كانت مؤمنة تقية.

٧ - ومن الآثار الخطيرة التي تدخل على آخرة المسلم بالخراب والبوار هو كسب السيئات التي يجنيها المسلم من وقوعه في عرض أخيه الذي ينتمي إلى غير مذهبه وجماعته بالهمز واللمز، والغيبة والنميمة، والسخرية والاستهزاء، وأكله للحوم العلماء في الطوائف الأخرى، وغير ذلك من أبواب السيئات.

ثالثاً: الأسباب:

لا شك أن خلف كل دخان ناراً، ولكل داء دواء؛ فإذا تم تشخيص الداء والوقوف على أسبابه سهل علينا وصف الدواء، فوضع اليد على الأسباب هي نصف طريق العلاج كما يقولون، ومن أهم أسباب هذا التعصب الممقوت ما يلي:

١ - اتباع الهوى والإعجاب بالرأي: وهو من أسباب التعصب القوية؛ فمن لم يتبع الكتاب والسنة، وأُعجب برأيه فلن يتبع الحق مهما ظهر بدليله؛ كيف وقد قال ـ تعالى ـ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: ٤٣ - ٤٤] .

وروى الترمذي بسنده عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: ١٠٥] قال: أما واللهِ لقد سألتَ عنها خبيراً، سألتُ عنها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر؛ حتى إذا رأيتَ شُحّاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنياً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام؛ فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم» . قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة قيل: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: «بل أجر خمسين منكم» (١) .

فطبيعة متبع هواه والمعجب برأيه إذا علم أن رأيه خطأ ألاَّ يتنازل عنه ولا يعترف بالحق بل يتمسك بخطئه، ويزداد عناداً وإصراراً عليه، وإذا علم أن رأي غيره صواب فلا يعترف به حتى لو كان واضحاً وضوح الصبح لذي عينين، وقديماً قال الشاعر:

يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضحُ

٢ - تحقيق مآرب شخصية ومصالح دنيوية، وهذا السبب يقتصر على الذين يلتحقون بالحركات العاملة لتحقيق مآرب شخصية، ومصالح نفعية، وأهداف دنيوية، كالطبيب الذي يريد أن يوسع دائرة مرضاه، والمحامي الذي يريد أن يكسب ثقة الناس حتى يتشاكوا إليه، والعالم الذي يريد أن يوسع دائرة شهرته ليجد لإنتاجه وكتبه وخطبه مريدين وقراءً ومستمعين، وهكذا ... فهذا الشخص لن ينظر إلى الحق والباطل، ولا إلى الخطأ والصواب، إنما هو ينصر الاتجاه الذي انتمى إليه ويتعصب له من أجل تحقيق مآربه ومصالحه بصرف النظر عن قضية الحق والباطل، وبعيداً عن تصحيح المسار والنقد الذاتي والتقويم النفسي؛ لأن هذا ليس هو أكبر همه، وربما أبدى اهتمامه بذلك أحياناً ليبين مدى تفانيه في العمل، وإرادته الخير لما انتمى إليه من مذهب، ولكن هذا كله لا يلبث أن يظهر مع العقبات، وسرعان ما يزول مع الابتلاءات التي يمتحن بها أهل الدعوات: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: ١٧] .

٣ - الجهل بمذاهب الفقهاء، وهذه طامة كبرى، ومصيبة عظمى وسبب أكبر من أسباب التعصب الممقوت، وهو سبب رئيس من أسباب التناحر والتباغض والتنافر والتدابر بين أبناء الصحوة الإسلامية؛ إذ إن عدم الاطلاع على مذاهب الفقهاء وآرائهم في مسألةٍ ما يؤدي إلى التعصب لمذهب بعينه؛ لأنه لا يعلم سواه، ومن ثَم ينظر لمن يخالفه على أنه جاهلٌ لا علم له، وعلى أنه مخالف للسنة والهدي النبوي، في حين أنه لو اطلع على المذاهب الأخرى لعلم أنها قضية خلافية يسعهم فيها ما وسع الأئمة الكبار من قبلهم، ولعل هذا النوع من الجهل هو أهم أسباب المشاحنات والمشادات في المساجد التي تمتلئ عندنا ـ نحن المسلمين ـ بالاختلاف نتيجة الجهل المطبق بالأحكام الفقهية الفرعية العملية.

٤ - اتباع الأشخاص والهيئات، وعدم الإذعان للحق بدليله؛ فمن يتبع حزباً أو جماعة أو دعوة أو مؤسسة ويرى أنها لا تخطئ في العمل، أو تضل في الرأي يتعصب لها تعصباً شديداً، ويحمل حملة لا هوادة فيها على من يحاول نقدها أو تصحيح وتقويم مسارها حتى لو كان من أبنائها، وكذلك إذا وثق في علم عالم، ورجاحة عقله، وفقهه للنص الشرعي وإدراكه للواقع العملي؛ فإنه يرى أنه لا ينطق عن الهوى، ولا يفتي إلا بالحق، ولا يقول إلا الصدق، لا يقع منه زلل في القول أو العمل، ولا يصدر عنه خطأ في الفتوى أو الحكم، ولا يُظن به خطل في الرأي أو التصور، ومن ثم لا يجري عليه ما يجري على البشر، في حين أنه لم توجد ـ على امتداد التاريخ ـ هيئة أو مؤسسة أو جماعة إلا ولها أخطاؤها وإخفاقاتها، ولم ولن يوجد عالم إلا وله زلاته وكبواته، ويأبى الله إلا أن تكون العصمة له ولكتابه ورسوله.

ولهذا وصف ابن قيم الجوزية أهل العلم والعدل والقسط بكونهم: «زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحداناً، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إخراج المتعصب عن زمرة العلماء إليه ولا يسألونه عما قال برهاناً» (١) .

رابعاً: معالم على طريق العلاج:

لم يَعُد خافياً ـ بعد ذكر المظاهر والآثار والأسباب ـ على كل ذي نظر عميق وفهم دقيق، ملامح طريق العلاج وأهم معالمه؛ فبالإضافة إلى تلافي الأسباب السابقة نحاول التعرف على نقاط العلاج، والتي من أبرزها:

١ - الفهم السليم لطبيعة العمل في فصائل الدعوة الإسلامية، وهي أن كل الفصائل والحركات ـ التي يجوز العمل من خلالها ـ مكملة لبعضها، ومتعاونة ومتضافرة فيما بينها، وليست متنافرة ولا مختلفة، الكل يبغي نصرة الإسلام، وإعلاء كلمته ورفع رايته، ومن ثَم فلا يضير أن تقوم دعوة من الدعوات أو حركة من الحركات تهتم بالعمل الخيري، وأخرى تهتم بجمع الناس في المساجد وحشدهم لفعل الخير، وأخرى تهتم بالعمل العام، وأخرى تذكِّر بقضايا الأمة الكبرى، وأخرى تهتم بالعمل الاقتصادي أو السياسي، وهكذا ... فلا تنكر هذه على تلك، ولا تنقم تلك من هذه،؛ لأنهم فهموا أنهم متعاونون على نصرة الإسلام وجمع كلمة المسلمين، فلن يعيب بعضهم على بعض التقصير في جانب دون جانب.

والفهم نعمة عظيمة بها تُحل كثير من المشكلات، وتزال العديد من العقبات، فلا غرو أن امتن الله بها على سليمان حين قال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: ٧٩] ، وكان من وصية عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ: «الفهمَ الفهمَ فيما أُدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة» .

وما أحسن ما قاله ابن القيم ـ رحمه الله ـ تحت عنوان: «الفهم الصحيح نعمة» ، قال: «صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أُمِرْنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادتَه اتباعُ الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى» (٢) . مع التسليم بوجوب التزام جميع أبناء الصحوة ـ مع اهتمام كل فصيل بعمل معين أو جانب ما ـ أصولَ الإسلام وفرائضه إلا لضرورة، والتفريق بين الأصول والفروع، والفرائض والنوافل، وفقه النسب بينها، واتفاقهم على معنى ومفهوم ذلك كله.

٢ - التجرد في الوصول إلى الحق والعمل به، وإخلاص النية وضبطها ما أمكن، وهو ما سوف يقطع الطريق على الشيطان وأهواء النفس أن تضل أو أن تطغى، ما دام بغيتها الوصول إلى الحق بدليله، والانغماس في العمل بعيداً عن النقاشات الحادة والجدال الذي لا يأتي بخير.

وما دام العاملون يتميزون بالإخلاص والتجرد في طلب الحق فلن يتردد أحدهم في اتباعه متى ظهر حتى لو كان على لسان غيره من الاتجاهات أو الحركات، ولعلنا نتذكر كلام الإمام أبي حنيفة في هذا الصدد؛ إذ كان يقول عند الإفتاء: «هذا رأي النعمان بن ثابت ـ يعني نفسه ـ وهو أحسن ما قدرت عليه؛ فمن جاء بأحسن منه فهو أوْلى بالصواب» . ونقل عن الإمام الشافعي أنه قال: «ما ناظرت أحداً إلا قلت: اللهم أجْرِ الحق على قلبه ولسانه؛ فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته» (٣) . وكان يقول: «ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ» . وكان عبد الله بن أحمد بن حنبل يحكي عن أبيه أنه قال: قال الشافعي: «أنتم أعلم بالحديث والرجال مني؛ فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفياً أو بصرياً أو شامياً حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً» (١) .

٣ - ضرورة الاطلاع على الخلاف الفقهي، وهي واحدة من أهم معالم طريق العلاج لهذه الآفة الخطيرة؛ فما أكثر المصارعات التي تحدث وسببها أن أحد الأطراف أو أغلبها لا يكون عالماً بأن القضية خلافية. وعبارة: «ضرورة الاطلاع على الخلاف الفقهي» مقصودة عمداً؛ لأنها فعلاً ضرورة من الضرورات، والتي بدون الاستجابة لها لن يكون هناك كبير اتفاق بين أبناء الدعوة، وسيظل العراك مشتعلاً، والشجار محتدماً، ووجه الصواب خافياً ما لم يتفقه العاملون في دينهم، ويتعمقوا في مصادر الشريعة ومواردها، وما لم يطلعوا على الخلاف الفقهي من مصادره المعتبرة بحججه وبراهينه، مثل كتب الفقه المقارن وكتب الأصول والقواعد، وهذا ما جعل رجلاً مثل ابن القيم يقول: «ومن له قدم راسخ في الشريعة ومعرفة بمصادرها ومواردها، وكان الإنصاف أحب إليه من التعصب والهوى، والعلم والحجة آثر عنده من التقليد لم يكد يخفى عليه وجه الصواب» (٢) .

٤ ـ أهمية الاحترام المتبادل ومراعاة أدب الخلاف، وهو مَعْلَم ينبثق عن سابقه مباشرة، ويترتب عليه؛ فإذا تم الاطلاع على الخلاف الفقهي وجب الاطلاع على أدب الخلاف، وسيرة الفقهاء القدماء والمعاصرين الذين اختلفوا في الرأي مع بعضهم، وسيرة السلف الصالح، بل سيرة الصحابة أنفسهم، ولم يكن ذلك سبباً ـ أبداً ـ في إضعاف الحب بينهم، أو النيل من تقدير بعضهم لبعض، ولعلنا نحفظ العبارة التي رويت عن الأئمة الأربعة تقريباً: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» . ومعنى «رأيي صواب» : أي لذلك قلت به وإلا فلا، ما دام يغلب عليه الظن بالصواب. ومعنى «ورأي غيري خطأ» ، أي وإلا لقلت به ما دام يغلب عليه الظن بالخطأ؛ لأنه ليس هناك قطع بأفضلية أحد على أحد، وكل يؤخذ من قوله ويرد عليه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا أحد في الإسلام يجيب المسلمين كلهم بجواب عام أن فلاناً أفضل من فلان فيقبل منه هذا الجواب؛ لأنه من المعلوم أن كل طائفة ترجح متبوعها، فلا تقبل جواب من يجيب بما يخالفها فيه، كما أن من يرجح قولاً أو عملاً لا يقبل قول من يفتي بخلاف ذلك، لكن إن كان الرجل مقلداً فليكن مقلداً لمن يترجح عنده أنه أوْلى بالحق؛ فإن كان مجتهداً اجتهد واتبع ما يترجح عنده أنه الحق، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وقد قال ـ تعالى ـ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: ١٦] ، لكن عليه أن لا يتبع هواه، ولا يتكلم بغير علم، قال ـ تعالى ـ: {هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ} [آل عمران: ٦٦] ، وقال ـ تعالى ـ: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: ٦] ، وما من إمام إلا له مسائل يترجح فيها قوله على قول غيره، ولا يَعرف هذا التفاضل إلا من خاض في تفاصيل العلم (٣) .

فانظر كيف كان عند كل واحد منهم احتمال بخطأ رأيه، وصواب رأي غيره، وهذا فيه من رحابة الصدر وسعة الأفق ما يمحو التعصب، ويهيئ المسلم لاتباع الحق والانصياع له متى ظهر بدليله، وهو من عظيم أخلاق العلماء وطلاب العلم، فضلاً عن العاملين في ساحة العمل الإسلامي.

وختاماً: تجدر الإشارة إلى أن هناك الكثير من أبناء الدعوة الإسلامية في مختلف فصائلها يدركون أبعاد العمل الإسلامي ومراميه، فاقهين للقضايا الخلافية مطلعين على آراء الفقهاء، فاهمين طبيعة العمل ضمن فصائل الصحوة المتعددة، متخلقين بأخلاق الإسلام من آداب للخلاف، واحترام لآراء الغير، واستعداد لقبول الرأي الآخر متى كان حقاً.

ولما كان للعملة دائماً وجهها الآخر، وكان التغلب على التعصب الممقوت وآثاره هو مسؤولية جميع التيارات داخل أبناء الدعوة الإسلامية؛ فإن العلماء والفقهاء والدعاة المنتمين لهذه التيارات ـ وغير المنتمين بوجه ما ـ مدعوون لأنْ يؤمنوا بأن حماية الدعوة وتحقيق أهدافها رهن بتفعيل القيم الإسلامية سالفة الذكر، إضافة إلى قيم الشورى والعمل الجماعي، وأن يقتنعوا بأن تضمينها في المناهج التربوية يعد من الوسائل الناجعة في مغالبة التخلف والجمود والظلم لأمتنا.


(*) باحث في العلوم الشرعية، كلية دار العلوم، القاهرة.
(١) أركز هنا على وصف التعصب بـ «الممقوت» ؛ لأن هناك تعصباً محموداً، وهو التعصب للعقيدة وأصول الإسلام وكلياته الكبرى ومقاصده العظمى، أما التعصب المذموم أو الممقوت فهو ما نحن بصدد الحديث عنه.
(٢) قواعد الفقه للبركتي: ٢٣١، طبع دار الصدف ببلشرز. كراتشي. طبعة أولى، ١٤٠٧هـ.
(٣) السيل الجرار: ٤/ ٥٨٤، دار الكتب العلمية. بيروت. طبعة أولى، ١٤٠٥هـ.
(٤) إعلام الموقعين: ١/٧، دار الجيل. بيروت، ١٩٧٣م.
(٥) إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد: ٢٢- ٢٣، الدار السلفية. الكويت. طبعة أولى ١٤٠٥هـ، وانظر معجم البلدان للحموي: ١/٢٠٩، دار الفكر. بيروت. بدون تاريخ.
(١) فتح القدير: ٢/٢٤٣، دار الفكر. بيروت. بدون تاريخ.
(٢) صحيح البخاري: كتاب الأدب. باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر وقوله ـ تعالى ـ ومن شر حاسد إذا حسد. وصحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، واللفظ له.
(٣) صحيح البخاري: كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم. وصحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب. باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، واللفظ له.
(١) سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن عن رسول الله، باب ومن سورة المائدة، وقال: «هذا حديث حسن غريب» .
(١) إعلام الموقعين، ١/٦ ـ ٧.
(٢) إعلام الموقعين: ١/٨٧.
(٣) إرشاد النقاد: ١٤.
(١) إيقاظ همم أولي الأبصار، لصالح بن نوح العمري: ١٠٢، دار المعرفة. بيروت، ١٣٩٨هـ.
(٢) إعلام الموقعين: ٤/٣٢.
(٣) مجموع الفتاوى: ٢٠/٢٩٣.