للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[اضطهاد القبيلة المسلمة العملاقة في غرب إفريقيا]

أبو بكر عبد القادر سيسي

cisse١٣@yahoo.com

لعله لم يغب عن بال أحد تلك المذابح والدمار الذي لحق بالمسلمين وممتلكاتهم

في ليبيريا مع بداية العقد الماضي على يد المتمردين الصليبيين والوثنيين، وما أن

تم انتخاب أحمد تيجان كبا رئيساً لسيراليون حتى خرج عليه كفرة فجرة بدعم مادي

وعسكري من أقرانهم في ليبيريا المجاورة، فقاموا بأبشع جرائم الوحشية ضد

المسلمين، وفي حين لم تنته تلك الحرب من وضع أوزارها رأينا وقوف حكومة

ساحل العاج النصرانية في وجه الحسن وتارا ومنعه من حقه (السياسي) في

الترشح في الانتخابات الرئاسية العاجية، وتحول ذلك من مجرد لعبة سياسية إلى

سلسلة من المجازر وإبادة للمسلمين وثرواتهم.. إنها مسلسل لمسرحية واحدة

موضوعها: «اضطهاد قبيلة المانْدِن المسلمة» ، أكبر مجتمع بشري في غربي

إفريقيا.

* من هم الماندن؟

الماندن أو الماندنكو إحدى أكبر وأهم قبائل إفريقيا الغربية، يدين جميع

أفرادها بالإسلام، وينتشرون منذ القديم على ضفتي نهر النيجر وما حوله من حزام

الصحراء الكبرى شمالاً وشرقاً، إلى ضفاف المحيط الأطلنطي غرباً وجنوباً، وهذه

المنطقة موزعة اليوم بين كل من: غينيا، ومالي، وساحل العاج، وغامبيا،

وسيراليون، وليبيريا، والسنغال، وغانا، وبوركينا فاسو، والنيجر، ويطلق

على لغتهم «أنكو» . وقد أدى اتساع رقعة المنطقة التي يقطنونها إلى انقسام لغتهم

إلى أربع لهجات رئيسية: ماندنكا، بمبارا، مندنكو، جولا. وتتفرع عن كل لهجة

رئيسية بضع لهجات فرعية، ولكنها تدل على مسمى واحد وعلى شعب واحد؛ إذ

لا يوجد أي عائق لغوي بينهم في تخاطبهم رغم اتساع رقعة بلادهم، وليس أدل

على ذلك من أنه لا توجد ترجمة بينهم في محافلهم وعند تجمعهم في أي مكان في

العالم إلا ما ندر.

* عددهم:

يصعب تعدادهم لثلاثة أسباب:

الأول: كون أُنكو لغة الماندن من اللغات السائدة للتخاطب بين مختلف

المجتمعات في غرب إفريقيا، فلا يمكن قياس عدد قبيلة الماندن بعدد الناطقين

بلغتهم، كما لا يمكن قياس عدد الفرنسيين بعدد الناطقين بالفرنسية.

الثاني: عدم توفر إحصائيات حديثة.

الثالث: وجود التضارب بين المصادر القديمة.

فقد أصدرت المجموعة الاقتصادية الأوروبية تقريراً حول قبيلة الماندن ونفوذ

لغتهم (في يناير / فبراير عام ١٩٨٨م برقم ١١٩) نقلاً عن صندوق النقد الدولي

حسب الجدول التالي:

وبعد صدور هذا التقرير الأوروبي قامت اللجنة العلمية لتطوير اللغة

«أنكو» بإصدار بيان تنديدي جاء فيه:

ولهذا رأينا من الخير أن نعرض للقراء الكرام الحقائق الواضحة التي نراها

مناسبة لواقع هذه البلاد الإفريقية. وحقائق هذا الجدول كما يلي:

وقد ختمت اللجنة هذا البيان بتحذير: «.. يجب على كل دارس باحث أن

يأخذ التقارير الدولية بحذر تام؛ لأنها تعمد إلى تقليل نسبة المسلمين في كل دول

العالم. ومعلوم بديهة أن تقليل نسبة المسلمين في أفريقيا الغربية معناه مباشرة تقليل

نسبة الناطقين باللغة» أنكو «لأن بين هذه اللغة وبين الإسلام التلازم الشرطي

المنعكس في أفريقيا الغربية» .

ولو حاولنا الجمع بين هذين التقريرين والأخذ بعين الاعتبار النظرية

الديمغرافية التي تقول إن معدل الزيادة السنوية لقبيلة الماندن ٥,٢%، وتدل على

أنها - القبيلة - تتضاعف في كل ستة وعشرين سنة، لوصلنا إلى القول إن هذه

القبيلة بأبنائها في حدود خمس وعشرين مليون نسمة. والله أعلم.

* الماندن عبر التاريخ:

يتمتع المجتمع الماندنكي بتاريخ طويل وعريق في غربي إفريقيا، ومن

خصائصهم الاجتماعية حفظ روايات تراثهم الحضاري التاريخي، والتحسر على

كيانهم الأول.

فقد قامت دولتهم الأولى قبل الإسلام: «مملكة الماندن» وتعرف في

المراجع العربية بمملكة مالي أو إمبراطورية مالي، ويعتبر عام (١٠٥٠م /

٤٤٢هـ) منعطفاً تاريخياً هاماً بالنسبة لهذه الدولة؛ ففيه تحولت عن الوثنية

إلى دولة إسلامية بشعبها وحكامها ودستورها، بسبب دعوة التجار العرب،

ومن هذا التاريخ إلى القرن السادس عشر عرفت المملكة استقراراً وازدهاراً

مرموقاً بحضارتها الإسلامية، كما استطاعت خلالها توطيد صلتها بالمشرق

الإسلامي عبر حج ملوكها في المواكب العارمة، فيصور لنا اليوم الماندن تلك الحقبة

بـ «العصر الذهبي» أو «القرون العظمى» .

في هذه الأثناء كانت أوروبا تجهل كل شيء عن هذه المملكة إلا ما عرفته عن

طريق المؤلفات العربية، فاهتدوا بهذه المؤلفات حتى وصلوا سواحل السنغال

وغينيا (اليوم) وكان زعمهم أنهم يبحثون عن بعض إخوانهم المسيحيين المفقودين

تارةً، وعن أمور تافهة تارة أخرى، ثم بدؤوا التجارة على الساحل، واتخذوا

مراكز هناك، ثم أقاموا في بعض الجزر والأراضي الساحلية، وخلالها أيقنوا أن

الدخول صعب، والتزموا بالبقاء على الساحل دون القيام بمغامرات في الداخل.

وبعدما كشفوا الدنيا الجديدة (أمريكا في عام ١٤٩٢م) شرعوا في النخاسة وعملية

النهب والسلب واختطاف الأطفال والشباب والفتيات، فأصبحت مراكزهم موانئ

تساق إليها أفواج الرقيق من كل جهة وأدوات الموت موجهة إليهم، لنقلهم وبيعهم

في أمريكا؛ واستعمالهم فيها في مزارعها ومناجمها. استمرت هذه الجريمة البشعة

حتى عام ١٨٤٨م، فأدت إلى انهيار وخراب دولة الماندن، فانتشر الفقر والخوف

والرعب والحروب الداخلية، وتشتت العائلات.

سعى الماندن بعد النخاسة إلى إصلاح بطيء ومؤلم لاسترجاع كيانهم

واستقرارهم الأول، لكن أوروبا هرولت أيضاً إلى الاستعمار أو الاستدمار (حتى

يكون التعبير مناسباً للواقع) ، فتحولت المنطقة إلى ساحة حرب ضروس،

ومقاومات دموية بين القبائل الإفريقية وبين المستدمرين، خلالها قدم الشعب

الماندنكي أروع ملامح الجهاد والبطولة دفاعاً عن الأرض؛ إذ لم يهدأ للمستدمر بال

ولا حال إلا بعد هزيمة الإمام ساموري توري الذي كان يحمل أحلام الماندن في لمّ

شملهم واستعادة دولتهم، والذي كان آخر قلاع الإسلام ينقضُّ عليه المستعمر عام

١٨٩٨م.

بنهاية المقاومة المسلحة الأولى وقعت قبيلة الماندنكو في مرارتين:

الأولى: مرارة طمس الهوية الإسلامية الموحدة بالهوية الفرنكوفونية

والأنجلوفونية واللوزيفونية.

والثانية: مرارة الغربة والتشرذم؛ حيث وجدت قبيلة الماندن أبناءها ودولتها

منقسمة بين إحدى عشرة دولة سياسية، وقد أصبحوا أقليات في أغلبهم تحت إمرة

الوثنيين أو النصارى، لكن هذا لا يعني نهاية تاريخ الماندن في المنطقة.

* أسباب ودوافع اضطهاد قبيلة الماندنكو اليوم:

١ - الإسلام:

قال الله تعالى: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا]

(المائدة: ٨٢) ، وقال تعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى

تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: ١٢٠) .

الخلفية الدينية هي العنصر الأول لهذا الصراع؛ فأئمة هذا الاضطهاد وجنوده إما

نصارى أو وثنيون، والشعب المضطهد كلهم مسلمون، وأهداف الهجمات العدوانية

دائماً تبدأ بالمساجد، وقد كان المؤرخ النصراني (زوزيف كي زيربو) منصفاً

في كتابه: «تاريخ إفريقيا السوداء» L'AFRIQUE DE L'HISTOIRE)

(NOIRE فقد صرح فيه أن فرنسا بعد استيلائها على غربي أفريقيا واجهت

الفقهاء المدرسين بقمع شديد بحبسهم أو نفيهم من بلدانهم لدورهم البارز في إحياء

روح المقاومة، ونشر فكرة عدم جواز رضوخ المسلم للنصارى.

٢ - حماية المصالح الغربية:

سبق أن رأينا أن أعنف مقاومة وأطول صمود ضد الاحتلال الغربي كان من

الشعب الماندنكو، وكما أن إفقاد فرنسا ونظيراتها كثيراً من مستعمراتها، وطردها

من الاستغلال المباشر للأفارقة كان بشجاعة أحد أبناء الماندن أيضاً.

فأمام جحيم الحرب ضد المستعمرين في الجزائر (قبل الاستقلال) ، وارتفاع

الأصوات المنادية للاستقلال في غرب إفريقيا في خمسينيات القرن الميلادي

الماضي خافت فرنسا نشوب حرب جديدة ضدها في تلك المنطقة، فاقترحت دستوراً

ينص على تشكيل مجموعة تنتمي إليها فرنسا ومستعمراتها الإفريقية، ومن يقبل

الدستور من إفريقيا يتمتع باستقلال داخلي، ويشكل حكومته المحلية، لكن تنفرد

فرنسا بالسلطة المركزية في الدفاع والاقتصاد والشؤون الخارجية والتعليم العالي

والعدل، وكما نص الدستور على أن من لم يوافق على هذا القرار يحصل على

الاستقلال التام، وينفصل عن فرنسا وتنقطع عنه جميع المساعدات الفرنسية. ولذا

فقد خاف جميع الزعماء الأفارقة المناضلون لأجل الاستقلال من مغبة معارضة

الدستور الفرنسي الجديد لما صحبه من وعيد وتهديد لمن يخالفه، إلا أحمد سيكو

توري زعيم شعب غينيا كان الوحيد الذي تحمس لمعارضة الدستور واختيار

الاستقلال مهما كان، فاستطاع تعبئة شعبه ضد فرنسا ومشروعها الجديد، تحت

شعار: «نفضل فقر الحرية على غنى العبودية» .

في ٢٨/٩/١٩٥٨م أجري الاستفتاء على الدستور الفرنسي في جميع

مستعمرات فرنسا في إفريقيا، فلم تجترئ أي مستعمرة على معارضة الدستور

للخوض في الاستقلال سوى غينيا.

فبهذا أصبحت غينيا الدولة الوحيدة المستقلة عن فرنسا عام ١٩٥٨م برئاسة

أحمد سيكو توري الذي كان أول برنامجه فك قبضة فرنسا عن إفريقيا، فعامان كانا

كافيين له ليدفع المستعمرات الأخرى إلى الاستقلال، وإجلاء فرنسا من إفريقيا، بل

ذهب أبعد من ذلك؛ إذ تجاوز حاجز الفرنكوفونية إلى معسكرات الأنجلوفونية

واللوزيفونية والأنجلوسكسونية، ابتداءً من غينيا بيساو في غرب إفريقيا، ومروراً

بوسطها وبأنغولا وانتهاء في جنوب إفريقيا وهو يقدم الدعم العسكري والسياسي

لأجل تحرير الأرض والناس، داعياً الأفارقة إلى نبذ الفرنكوفونية والأنجلوفونية

واستعمال لغاتهم الإفريقية، وأجبر شعبه على ذلك، وقد كان أحد الرؤساء الثلاثة

المكلفين بملف القدس من قِبَل منظمة المؤتمر الإسلامي.

فبهذا النموذج (نموذج أحمد سيكو توري) شعر الغرب أن تهديد مصالحه في

غربي أفريقيا لا يكمن في تجمع الماندن فحسب، بل في كل رجل منهم، ومن هنا

تنبثق خلفية مساندة الغرب لأي اضطهاد ضد الماندنكو وبخاصة ما تعلق بمنعهم من

الوصول إلى السلطة.

٣ - المكانة الداخلية:

إن الوزن الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للماندن داخل الدول التي ينتمون

إليها جعل جيرانهم دائماً ينظرون إليهم نظر الحسود، ومن ثم يتربصون بهم الدوائر؛

فحرفتهم الأولى والمفضلة هي التجارة بشقيها الداخلية والخارجية ويرونها من

أفضل الحرف التي يجب مزاولتها على كل الرجال في البلاد. وحتى إحدى لهجاتهم

الفرعية ما زالت منتسبة إلى هذه الحرفة «جولا = التاجر» ، وبها حققوا تفوقاً

اقتصادياً هاماً، بين القبائل التي يجاورونها حتى في الدول التي يعتبرون فيها بأقلية؛

ففي ساحل العاج مثلاً يمتلكون ٧٠% من المباني الفخمة في المدن مع رؤوس

الأموال التجارية الداخلية، وفي ليبيريا (قبل الحرب) كانوا يسيطرون على ٨٠%

من وسائل المواصلات ورؤوس الأموال، هذا إضافة إلى عنايتهم الفائقة بالعلم

والثقافة، مما جعل بعض أبنائهم يحققون شهرة علمية ليس على مستوى القارة

فحسب بل على مستوى العالم.

وأكبر طفرة ثقافية حققوها تمثلت في أبجديتهم الجديدة والمستقلة حروف أنكو

التي اقترحت في عام ١٩٤٩م ثم قاموا بحوسبته لتواكب عجلة العصر، ومن ثم

طبعت مخطوطاتهم القديمة، وكتبت مفردات ثقافتهم التي لم تكن مكتوبة، وقاموا

بترجمة مئات الكتب من العلوم الأخرى تتصدرها ترجمة القرآن الكريم وكتب

الحديث والفقه؛ ومعجم لغة الماندنكو، هذا مع نجاحهم في تطوير الطب الإفريقي

ليصل إلى مستوى الطب الحديث عبر البحوث العلمية والتجارب المختبرية،

فافتتحت صيدليات متخصصة مرتبطة بمستشفياتها الخاصة في عواصم ومدن وقرى

أفريقيا الغربية.

وبعد هذه الإنجازات العلمية أوضح (كانتي سليمان) مخترع الحروف

الماندنكية (أنكو) قائلاً: «أريد أن أبرهن للأمة الأفريقية وليتأكدوا أن نهضتهم

ونمو أجيالهم في العلوم العصرية ليكون لهم مستقبل رائع مربوطة بلغاتهم الإفريقية

انطلاقاً من القواعد الإيمانية والعملية التي تشمل جميع جوانب الحياة والأحياء؛ لأن

الإيمان بالله قرين العمل الصالح في كتاب الله العزيز، أسأل الله تعالى أن يجعلنا

من المؤمنين العاملين بكل ما ينفع الأمة الإسلامية، حتى ينافس هذه المؤسسات

الطبية والصيدليات الأوروبية والمستشفيات التبشيرية في استقبال وعلاج مرضى

مسلمي إفريقيا الغربية وغيرهم بإذن الله تعالى» .

ولئن تعرفنا - فيما مضى - على الماندن، وعلى مكانتهم وقوتهم، والخطة

الغربية لتشتيتهم وإضعافهم في المنطقة، وأسباب ودوافع ذلك، يجدر بنا فيما يلي

التعرف على عواقب هذا التفريق بينهم، وعلى تحالف الغرب والكنائس العالمية مع

النصارى والوثنيين في المنطقة لاضطهادهم وإذلالهم في الدول التي يتوزعون بينها

اليوم.

* حلقات اضطهاد الماندن في الوقت الحاضر:

- ليبيريا.. الحلقة الأولى:

أسست ليبريا عام ١٨٤٧م عبر صفقة بين أمريكا وبريطانيا؛ حيث تم فيها

إنزال مجموعات من أرقاء أمريكا المحرَّرين من أصول إفريقية (بعد تنصيرهم

وسلخهم من هويتهم الأولى) ، واقتطعت لهم هذه الدويلة الأنجلوفونية.

ظل الحكم في ليبيريا بيد الأفارقة الأمريكان وأحياناً ينتقل إلى السكان

المحليين؛ إلا أنهم اتفقوا جميعاً على حرمان قبيلة الماندنكو من الولاية العامة

لليبيريا، واعتبارهم ضيوفاً قدموا من غينيا حيث لهم وجود مكثف هناك. ثم

تضاربت مواقفهم - أي الرؤساء - بين موال ومساند لهم في أنشطتهم الاقتصادية

والاجتماعية وبين معارض ومضطهد لهم، وكان الرئيس (صموئيل كانيادو) من

الفئة الأولى (الذي وصل إلى الحكم عام ١٩٨٠م بانقلاب عسكري، وهو من قبيلة

كران الوثنية) فقد اعترف بكيان الماندنكو في ليبيريا وأعطاهم جميع صلاحيات

المواطَنة بما فيها الحقائب الوزارية، مع توفير الحماية لهم ولممتلكاتهم، وفي

عصره شهد ليبيريا أوج ازدهارها بنفوذ قبيلة الماندنكو، ولقد أثار موقف الرئيس

(دو) من الماندنكو جنون القبائل الوثنية والنصرانية في ليبيريا.

ففي نهاية عام ١٩٨٩م شهدت ليبيريا بداية حرب أهلية قاسية أشعل نارها

شارل تايلور (أحد وزراء الرئيس دو السابقين) الذي قدم من الولايات المتحدة

وكوّن حركة تمرد من الخارج توغلت في ليبيريا عبر حدودها مع ساحل العاج،

زعم أنه جاء فقط للإطاحة بالرئيس (دو) وتحرير ليبيريا من سيطرته؛ إلا أن

الواقع خالف هذه المقولة؛ فما أن دخل ليبيريا حتى وجد بانتظاره جحافل التحالف

الصليبي الوثني التي تعفو عن كل شيء إلا المسجد والماندنكو ومن تدين بديانة

الماندنكو (الإسلام) . استطاعت حركة تايلور في وقت قياسي بسط طغيانه على

كل ليبيريا إلا العاصمة منروفيا التي حاصرها من جميع جهاتها إلا المنفذ البحري،

بعد أن دمر مساجد البلاد ومدارسها القرآنية، وقتل وشرد المسلمين الذين لجؤوا إلى

غينيا وسيراليون المجاورتين والعاصمة منروفيا، وفي طريقه إلى العاصمة منروفيا

انشق عن تايلور فئة باغية هي الأخرى بزعامة بريس جونسون، استطاع هذا

الأخير التسلل إلى العاصمة والتمركز في جزء معين منها، ومن ثم قام عناصر من

حركته باغتيال الرئيس (صموئيل دو) عام ١٩٩١م، وحينئذ شعرت قبيلة الماندن

بالخطر الحقيقي، وأن كيانها ووجودها على وشك الفناء في ليبيريا، ومن هنا

جاءت فكرة إنشاء حركة الماندنكو المسلحة للدفاع عن النفس، فتم تأسيس جيشها

بزعامة الحاج (قاسم فامويا كروما) عام ١٩٩٢م، وسموها: (الحركة المتحدة

للتحرير والديمقراطية في ليبيريا) .

حقق جيش الحاج كروما انتصارات ملموسة على التحالف الصليبي الوثني؛

حيث حرر شمالي ليبيريا منطقة تواجدهم الأصلية (أحد أجزاء مملكة الماندن

القديمة) وجعلوا عاصمتها فوياما معقلاً لهم، ثم فتحوا جبهات جنوباً وشرقاً،

وخلال تقدمهم في الجبهة الشرقية استولوا على مدينة بانغا المعقل الرئيسي لتايلور،

وفي أثناء ذلك كانت قبيلة كران تقاتل للأخذ بثأر الرئيس دو - أحد أبنائها -؛

وأمام هذه الهزيمة النكراء المرتقبة استجاب تايلور - رأس الفتنة - للمطالب الدولية

الداعية إلى الاجتماع حول طاولة المفاوضات لإنهاء الحروب. عقد مؤتمر

المصالحة الوطنية في أبوجا بنيجريا عام ١٩٩٦م التي اعتُرف فيها بكيان الماندنكو

في ليبيريا ومساواتها للقبائل الأخرى، وبموجبها ترشح الحاج كروما في انتخابات

عام ١٩٩٧م والتي فاز فيها شارل تايلور.

بعد وصول تايلور إلى السلطة حاول كسب ثقة الماندنكو به، ونفى أن يكون

له علاقة بتلك المذابح التي تعرض له الماندنكو في ليبيريا، ولكن يظل تايلور في

نظر السواد الأعظم من الماندنكو العدو الحقيقي، بل اشترط البعض هلاكه قبل أن

يرجعوا إلى أرض الوطن.

إن المسلمين الآن في ليبيريا يعانون ظروفاً مأساوية شديدة بسبب الدمار الذي

لحق بخيراتهم واستثماراتهم، وعدم الاستقرار والكساد الاقتصادي الذي تشهده ليبريا

الآن لعدم ثقة المانحين والمستثمرين الأجانب بحكم تايلور الذي قد فُرض عليه

العقوبات الاقتصادية بسبب دعمه للمتمردين في سيراليون.

- سيراليون.. الحلقة الثانية:

لقد كان سهلاً جداً على تايلور - الرئيس الحالي لليبيريا، ورئيس التمرد

سابقاً - أن يدعم حركة تمرد في سيراليون بسبب القوة والنفوذ الذي كان يتمتع به

في ليبيريا وبسبب الفساد الإداري والاقتصادي الذين كانت تشهده سيراليون. فقد قام

بإيواء وتدريب وتسليح جماعة فاجرة كافرة من سيراليونيين بزعامة فودي سانكو

تسموا بالجبهة الثورية المتحدة (RUF) وفي مارس ١٩٩٤م بدؤوا بالهجمات،

وإثارة الهلع والذعر، فأدى ذلك إلى اضطراب البلاد في كافة المجالات وبخاصة

في مجال السياسة وإدارة البلاد. استمرت هذا الفوضى حتى فبراير ١٩٩٦م،

حيث هدأ التمرد (نوعاً ما) وقبلوا بإجراء انتخابات ديمقراطية، فبرز أحمد تيجان

كبا كمرشح مثالي - فعلى الصعيد الوطني مشهور بجهوده القديمة في خدمة

سيراليون، وعلى الصعيد الدولي له شهرة وعلاقات واسعة بسبب إشغاله منصب

الموظف الدولي في منظمة الأمم المتحدة لمدة عشر سنوات - وفاز بأغلبية ساحقة

في الجولة الأولى من الانتخابات، وفي ١٦/٣/١٩٩٦م أصبح أول رئيس من قبيلة

الماندن لجمهورية سيراليون. وفي ٢٥/٥/١٩٩٦م خرج عليه بغتة مجموعة من

الجيش - وثنيون ونصارى - تسموا بالمجلس الثوري للقوات المسلحة، فأدى ذلك

إلى الإطاحة بحكومته، ففر لاجئاً برأسه إلى غينيا، ثم ألقى الانقلابيون دعوة إلى

متمردي فودي سانكو لتشكيل تحالف مناهض للرئيس المخلوع والمسلمين في

سيراليون. بهذا التحالف سيطروا على سيراليون بأكملها، ثم حولوها إلى مجازر

ومقابر ومواقد وأنقاض.. فلم تشهد الإنسانية في تاريخ التمرد المعاصر وحشية

آدمية أشنع مما ارتكبها هؤلاء الطغاة في سيراليون. وأمام هذا الهول والشناعة

المريعة تدخلت قوات حفظ السلام التابعة لدول غرب إفريقيا، فاستطاعوا تحرير

العاصمة وبعض المدن من سطوتهم، وفي ١٠/٣/١٩٩٨م عاد الرئيس كبا ليستأنف

مهامه الرئاسية الصعبة، وفي أثناء ذلك عمل المتمردون على إعادة تنظيم صفوفهم،

ثم بدؤوا الموجة الثانية يناير ١٩٩٩م حيث قتل فيها أكثر من خمسين ألف نفس،

وجُرح آخرون ناهيك عن التشريد وانتهاك الأعراض والحرمات. وفي ٧/٧/

١٩٩٩م تم التوقيع على اتفاقية بين الحكومة والمتمردين لإنهاء الحرب، والعفو

العام عن جرائم الحرب، وفي ٣٠/١١/١٩٩٩م، ودخلت قوات حفظ السلام التابعة

للأمم المتحدة بجيش قوامه أحد عشر ألف رجل تتقدمهم القوات الغربية الذين

سيتساءل السيراليونيون فيما إذا ما كانوا حضروا لحفظ السلام والأمن، أو

الاستيلاء على سيراليون وثرواتها وبخاصة الماس؟

هكذا جنى التحالف الصليبي الوثني على قبيلة الماندنكو والمسلمين في

سيراليون، ومزقوا وحدة الدولة، وعاثوا فيها فساداً، وأدخلوها في طور شبه

المستعمرة، وكذلك حدث بالنسبة لساحل العاج التي سنتناولها الآن.

- ساحل العاج.. مسرح أحداث اليوم:

يمكن برهنة أصالة الماندن في ساحل العاج، ووطنيتهم بالدرجة الأولى من

خلال الجغرافيا والتاريخ؛ فنصفها الشمالي ينتمي جغرافياً وتاريخياً إلى مملكة مالي

القديمة، وكما يتكون هذا النصف الشمالي بشرياً من بطون لقبيلة الماندن، مما

يجعل التفريق بينهم وبين البطون الماندنكية في الدول المجاورة لساحل العاج أمراً

صعباً للغاية، وهذا النصف الشمالي في التاريخ الحديث كان خاضعاً لسلطة الإمام

ساموري توري صاحب المقاومة الجهادية في المنطقة التي كان يحاول إعادة دولة

الماندن الإسلامية، وفيها رمى آخر سهامه؛ حيث أُسر عام ١٨٩٨م ومن ثَمَّ نفي

إلى إحدى جزر غابون في وسط إفريقيا، وعند رحيل الاستدمار الفرنسي (عام

١٩٦٠م) تجاهل الأغلبية المسلمة ووزنهم الجغرافي والتاريخي والاقتصادي

والاجتماعي، وسلّم إدارة البلاد إلى الذين آمنوا بالنصرانية ورضوا بالاستعمار.

هكذا استلم العميل هوفي بوانيه رئاسة ساحل العاج من المستدمرين الفرنسيين

دون أدنى مقاومة، بل طالب بالبقاء الفرنسي العسكري في ساحل العاج، ولا تزال

هذه القاعدة الفرنسية موجودة في ساحل العاج حتى اليوم. حلف الرئيس بوانيه أمام

الفاتيكان على تنصير المسلمين قاطبة في ساحل العاج، ثم أخفق في ذلك إخفاقاً

ذريعاً، بعد أن أهدر ثروة البلاد في بناء إحدى كُبريات كنائس العالم في ساحل

العاج. ومع كل هذا يمكن القول إن الرئيس بوانيه كان من الرجال الذين يتعظون

بالأيام وبالأحداث؛ فقد علّمته هذه الأيام والأحداث الماضية أن يكون موالياً

للمسلمين، رافعاً الضغوط عنهم، ومراعياً لحقوقهم الوطنية إن كان يتطلع إلى

سعادة للبلاد، وكرامة نفسه. وهذا ما فعله فعلاً، وفي هذا الخصوص لم يكتف

بتمويل المشاريع الإسلامية مثل بناء المساجد، ونفقات رحلات الحج والعمرة للأئمة

بل شرع في تعلم الإسلام، لكن شاء الله أن يموت على نصرانيته، وفي عهده

حصلت موجات من هجرة بعض سكان الدول المجاورة إلى ساحل العاج بما فيهم

بعض المجموعات الماندنكية. وقبل وفاته بثلاث سنوات استدعى الحسن وتارا الذي

كان يعمل نائباً لرئيس صندوق النقد الدولي، وعينه رئيساً للوزراء مع كافة

صلاحيات الرئيس تقريباً؛ نظراً لشيخوخته ومرضه. أثارت مواقف الرئيس

العجوز في آخر عمره حفيظة المحافظين النصارى في ساحل العاج، وغضب

الفاتيكان، وخافت فرنسا على مصالحها في ساحل العاج. ومن هنا بدأت تعبئة

شخصية نصرانية أخرى وهو هانري كونان بيديه، رئيس البرلمان المخول من قبل

الدستور لخلافة رئيس الدولة في حال وفاته، فلم يكن صعباً لبيديه استلام الرئاسة

بعد وفاة الرئيس العجوز عام ١٩٩٣م، وسط تأييد داخلي وخارجي، لكن المعضلة

أمام الرئيس الجديد: كيف سيتغلب على الحسن وتارا في الانتخابات المقبلة؟ فهو

- أي وتارا - يتمتع بأصوات الأغلبية المسلمة إضافة إلى أصوات البسطاء

والمنصفين من النصارى والوثنيين الذين أعجبوا به من خلال إصلاحاته الاقتصادية

في البلاد. وهنا جاءت إثارة قضية الجنسية ضد الحسن وتارا متهمين إياه بأنه من

أصل بوركيني من بوركينا فاسو المجاورة لأن قضية الجنسية يمكن إثارتها ضد أي

فرد ماندنكي في غرب إفريقيا فالماندنكي أو العائلة الماندنكية في سيراليون يمكن

اتهامها بأنها من ليبيريا، والتي في بوركينا بأنها من مالي، والتي في السنغال بأنها

من غامبيا.. وهكذا وبالعكس لأسباب قد بسطنا الحديث عنها سابقاً. ولم يشفع له

أنه شغل من قبل منصب رئيس الوزراء. بهذه الخديعة استطاع بيديه إقصاء

المرشح الأقوى، وسط أجواء مخيمة بالتوتر واحتجاجات أنصار وتارا التي كانت

تقابل دائماً بقمع وحشي ومجازر ودمار بمراكزهم التجارية ومساجدهم، فتم حسم

معركة الانتخابات لصالح بيديه أمام منافسه لوران غباغبو المعارض المخضرم

للرئيس العجوز الراحل.

إن الأجواء المتوترة التي أوصلت الرئيس بيديه إلى السلطة بقيت تلازمه

وتحول بينه وبين أي إصلاح في البلاد. اغتنمت الجيش الشابة تلك الفرصة

للإطاحة به في عملية عسكرية عام ١٩٩٩م، لكن الجنرال المتقاعد روبرت غي

كان المستفيد الوحيد والخاسر الوحيد في ذلك الانقلاب؛ فقد استدعاه الشباب من

قريته ليصبح رئيساً مؤقتاً للدولة لإجراء إصلاحات ديمقراطية بما فيها إطلاق سراح

جميع المعتقلين السياسيين وفتح باب الترشح للحسن وتارا. تعهد الجنرال الرئيس

للعاجيين صبيحة تسلمه الرئاسة أنه سيعيد النظام الديمقراطي، والحكم المدني،

والوحدة الوطنية، وما أن حان وقت الانتخابات حتى فوجئ الجميع بالجنرال

النصراني يرشح نفسه للرئاسة، ثم يثير قضية الجنسية ضد وتارا، ومن ثم إبعاده

مرة أخرى عن الترشح. هكذا وجد الجنرال الطماع نفسه أمام المعارض المخضرم

غباغبو الذي ألحق به هزيمة سياسية وعسكرية في وقت واحد (عام ٢٠٠٠م)

بسبب الخلفية القبلية والسياسية. لوران غباغبو الرئيس الحالي ونقيض منافسه

الأول الرئيس العجوز الراحل، فإنه - أي غباغبو - لم يتعظ بأيام من كان قبله،

ولم تفده دروس الأحداث؛ فبعد وصوله إلى الحكم بعد صراع عقود بدأ بفرض

طغيانه على المسلمين اعتقالات واغتيالات، مجازر، وإحراق البيوت والأسواق،

وتسريح المسلمين من الجيش فأدى هذا القمع والبطش إلى ثورة عسكرية في ١٩/٩

/٢٠٠٢م، وصفت بالانقلاب غير الناجح، ولكن استطاعت عناصر الجيش

المسلمة الشابة وبدون أن يثق بأحد من الجنرالات السيطرة على النصف الشمالي

للبلاد، حيث يسكن غالبية المسلين. ادعى غباغبو أن بلاده تتعرض لعدوان

خارجي، ولم يكتف بزبانيته، بل استأجر المرتزقة من جنوب إفريقيا وأنغولا

وأوكرانيا للإغارة على المسلمين وإخضاعهم تحت طغيانه، لكن الصمود كان دائماً

الأقوى. وفي إطار استغلاله للأحداث استنجد بالإدارة الأمريكية لمحاربة ما وصفه

بالإرهاب الإسلامي في شمالي بلاده.

نشط زعماء أفارقة كثيرون في الوساطة بين الجانبين، لكن هوة الخلاف بين

الجانبين تحُول دائماً دون أي تقدم في المصالحة. أما فرنسا التي تقف مرابطة

بجيشها في الخط الفاصل بين الجانبين فقد ندمت على فعلتها الأخيرة التي هددت

مصالحها بشكل كلي، وعرقلت استغلالها لأكبر دولة منتجة للكاكاو في العالم، لذا

استدعت الطرفين إضافة إلى ممثلي الأحزاب السياسية والفصائل المتناحرة الأخرى

إلى المصالحة في ماركوسي بفرنسا. وقع الفرقاء في حفل رسمي حضره الرئيس

غباغبو على اتفاقية ماركوسي التي تنص على أن يحتفظ الرئيس لوران غباغبو

بالكرسي الرئاسية إلى نهاية ولايته عام ٢٠٠٥م، وعلى تشكيل حكومة وحدة وطنية

يتولى المسلمون فيها رئاسة الوزراء، وزارة الداخلية المسؤولة عن قضية الجنسية

ووزارة الدفاع، وتقوم - أي حكومة الوحدة الوطنية - بتحضير للانتخابات

الرئاسية عام ٢٠٠٥م وتحديد ماهية الهوية العاجية، وتثبيت حقوق المواطنة

وتعريفها بشكل لا يقبل التجزئة، وكذلك حقوق التمليك والترشيح وتولي المناصب،

وكذلك نصت الاتفاقية على تجريد المليشيات من أسلحتها مع إعادة ترتيب تشكيل

الجيش العاجي وفقاً لمقتضيات تشكيل الجيوش في العالم.

بعد عودته وسط احتجاجات أنصاره على اتفاقية ماركوسي التي وصفوها

بالاستسلام للمسلمين رَفض الرئيس غباغبو تنفيذ خطة الاتفاقية؛ حيث لم يسلم

وزارتي الدفاع والداخلية للمسلمين، وبهذا أُحبطت الجهود الفرنسية، وتوترت

الأمور من جديد بحيث أبقت الدولة منقسمة حتى الآن بين الشمال بأغلبية مسلمة

والجنوب بأغلبية نصرانية ووثنية.

هكذا نصل إلى نهاية حديثنا عن قبيلة الماندن - من وحدة وسيادة المنطقة إلى

غربة ومسكنة في المنطقة نفسها - التي تناولناها كنموذج لما تتعرض لمثله قبائل

مسلمة هامة أخرى مثل القبيلة الفولانية. ولكن المؤسف هو عدم مبالاة المسلمين

بمثل هذه القضايا؛ في حين نرى نصارى - شخصيات ومنظمات وحكومات -

يساندون قضايا النصارى أينما وجدوا في العالم، وحتى إن أدى ذلك إلى البغي على

حقوق دولة إسلامية، كما افتعلوا بالنسبة لقضية تيمور الشرقية في أندونيسيا، وما

يبيتون للسودان في قضية الجنوبيين النصارى.