للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[أوروبا الباحثة عن دور في العصر الأمريكي]

يحيى أبو زكريا [*]

[email protected]

يفسّر أحد الغربيين المتابعين لتطورات المسار السياسي والاقتصادي في

أوروبا تسارع الأوروبيين باتجاه إنجاح وحدتهم وتقوية اقتصادهم بأنّه بدون ذلك

ستتلاشى أوروبا سياسياً واقتصادياً تماماً كما تلاشى العديد من الدول والتكتلات التي

غرقت في أتون المشاكل السياسيّة والاقتصاديّة المتفاقمة. ويرى هذا الخبير أنّ

العصر الأمريكي الراهن لا يعترف لا بالصغار ولا بالمراهقين السياسيين، ويجب

أن تكون الدول في خانة الكبار لتتمكن من مقاومة خطر التلاشي والانفلات الذي

سيكرّس التبعية المطلقة للغول الأمريكي.

كما أنّ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة من قبيل البطالة والتردّي

الاقتصادي والحفاظ على البيئة وصحّة الإنسان أمور يضطلع بها المجموع، وكلما

كانت الدول المشاركة في تطويق هذه الأزمات كثيرة، أمكن إنهاء هذه الأزمات في

ظرف زمني وجيز. وانطلاقاً من هذه المرتكزات تحركت السياسة الأوروبيّة؛

والأرجح أنها ستكمل سيرها في الاتجاه نفسه في السنوات العشر المقبلة.

وقد كان التركيز الأوروبي في السنوات الأخيرة على مجموعة أمور هي:

رسم سياسة داخليّة أوروبية مشتركة، ورسم سياسة اقتصادية مشتركة، بالإضافة

إلى ضرورة التعاطي مع القضايا الدوليّة المشتركة بشكل جماعي؛ وهذا ما يفسّر

بداية تحرّك الاتحاد الأوروبي ككتلة واحدة في الشرق الأوسط وفي الأزمات الدولية

الأخرى وفي المحافل الدوليّة.

وعلى صعيد رسم السياسة الأوروبية الداخلية الموحدة فقد تكثفت لقاءات

المندوبين الأوروبيين بشكل كبير في بروكسل وفي غيرها من العواصم الأوروبية،

وكثيراً ما كان يجتمع وزراء الزراعة الأوروبيون لينسّقوا في الملف الزراعي،

ويصمّموا قوانين موحدة في هذا المجال، وكثيراً ما كان يجتمع وزراء التعليم

ليرسموا طرائق للتعليم متقاربة، وقد قطع الأوروبيون في سبيل وحدتهم في

التفاصيل أشواطاً كبيرة، وكان القادة الأوروبيون في قمم الاتحاد الأوروبي يوقعون

على كل هذه التفاصيل. والعجيب أنّ الأوروبيين اتفقوا حتى على نوعية إشارات

المرور وكيفياتها، وطرائق تصميم الأراجيح التي يستخدمها الأطفال في مدارسهم.

ويمكن القول إن التوافق بين الدول الأوروبية في السياسات الداخلية بات كاملاً في

مجال مكافحة ما يسمى بالإرهاب والحد من الهجرة غير الشرعية وغير ذلك من

المواضيع، وقد أصبح المسافر من النرويج إلى فرنسا برّاً لا يصادف البتة رجال

الأمن، ولا داعي أن يبرز أوراقه الثبوتية، وخصوصاً بعد أن أصبح الحاسوب

الأمني موحداً، ويمكن معرفة تفاصيل شخص ما سافر من الدانمارك إلى فرنسا عبر

إدراج اسمه في الحاسوب الأمني الفرنسي.

وعلى الصعيد الاقتصادي تمكنت أوروبا من توحيد عملتها، ورفعت القيود

عن الصادرات والواردات من وإلى أوروبا؛ فالبضاعة التي تصل من فرنسا إلى

السويد تكون معفاة من الضرائب؛ وما دامت البضائع من الدول الأوروبية فهي

معفاة من الضرائب، وبهذا الشكل اتسعت السوق الأوروبية، وبات بالإمكان أن

يسوّق الأوروبي بضائعه في عشرات الدول الأوروبية دون أن يوقفه أحد. وبفضل

الخطة الاقتصادية التي وضعها الأوروبيون أصبحت عملتهم الموحدة تنافس العملة

الأمريكية، كما أنّ الخطّة الاقتصادية الأوروبية الموحدة كسرت الاحتكار الأمريكي

للأسواق الأوروبية وهو ما بدأ يولّد بدايات عدم رضى أمريكي من مشروع الاتحاد

الأوروبي وخصوصاً إذا كبر أكثر ممّا ينبغي.

وكان قادة الاتحاد الأوروبي قد اجتمعوا في العاصمة الدانماركيّة كوبنهاغن بين

١٢ - ١٣/١٢/ ٢٠٠٢م للبحث في العديد من القضايا المتعلقة بسياسة الاتحاد

الأوروبي ومشاريع ضمّ عشر دول أوروبيّة إلى الاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى

بحث مجموعة قضايا تتعلّق بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي والأوضاع في

الشرق الأوسط.

وللإشارة فإنّ الدانمارك التي تترأس الآن الاتحاد الأوروبي سبق لها أن

طرحت مجموعة مبادرات سياسيّة لتقريب وجهات النظر بين الكيان الصهيوني

والسلطة الفلسطينيّة.

والدول الأوروبيّة التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي هي مالطا وإستونيا

ولاتفيا وليتوانيا وسلوفينيا والمجر وسلوفيكيا والتشيك وبولندا مع ضمّ قبرص

بعد إزالة بعض الإشكالات العالقة في الملف القبرصي. وبذلك سيصبح عدد دول

الاتحاد الأوروبي ٢٥ دولة بإضافة الدول العشر المذكورة.

وقد قرر قادة الاتحاد الأوروبي بالإجماع عدم البتّ في عضوية تركيا في

الاتحاد الأوروبي لعدم أهلية تركيا سياسياً واقتصادياً، وقد طالب قادة الاتحاد

الأوروبي تركيا بإعداد نفسها، وفي سنة ٢٠٠٥م سيجري التفاوض معها بشأن

انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وينتظر قادة الاتحاد الأوروبي الحصول على

تقرير كامل عن الوضع التركي السياسي والاقتصادي في نهاية سنة ٢٠٠٤م.

وإضافة إلى توسيع الاتحاد الأوروبي ناقش القادة الأوروبيون موضوع الهجرة إلى

الاتحاد الأوروبي وسبل الحد منها؛ وذلك عبر المساهمة في تنمية الدول الفقيرة،

وفي هذا السياق يشار إلى أنّ الدانمارك وبعد نجاح اليمين في الانتخابات التشريعية

الأخيرة اتخذت إجراءات شديدة ضدّ طالبي اللجوء وهو الأمر الذي جعل دولة

كالسويد تشدد على سياستها الجديدة تجاه المهاجرين وطالبي اللجوء.

وقد ناقش قادة الاتحاد الأوروبي الأوضاع في الشرق الأوسط في شقّه

الفلسطيني دون التطرق إلى موضوع العراق؛ حيث أصبحت هناك قناعة لدى

عواصم الاتحاد الأوروبي في أنّ الغارة الأمريكية على العراق قائمة لا محالة،

والاعتراض على أمريكا في هذا الموضوع قد تبديه شخصيات أوروبية رسمية،

لكن لا تعبّر عنه توجهات الحكومات الرسمية الموزّعة بين القبول المطلق أو

الصمت المطبق.

وإذا كانت أوروبا الموحدة قد استطاعت ترتيب أوراقها الداخلية السياسية

والاقتصاديّة فقد أصبحت تتعاطى مع القضايا الساخنة في العالم العربي والإسلامي

والثالث بشكل جماعي، وأصبحت لأوروبا وجهة نظر واحدة فيما يتعلق بالقضية

الفلسطينية، أو القضايا الإفريقية، وسبب ذلك يعود إلى تكثيف التنسيق بين الدول

الأوروبية، حيث إن لكل دولة أوروبية ممثلاً عنها سواء في البرلمان الأوروبي

الموحد في لوكسمبورغ أو في اللجان العاملة فيما يعرف بالحكومة الأوروبيّة في

بروكسل. وما يتفق عليه المندوبون الأوروبيون يصل لتوّه إلى عواصم القرار في

الدول الغربية والتي تتحرّك في ضوء ما قرره المندوبون الأوروبيون في بروكسل

أو في العواصم الغربية التي تشهد على الدوام لقاءات ومؤتمرات لاستراتيجيي

الاتحاد الأوروبي.

وهذا لا يعني أنّ هناك دولاً أوروبية لا تسعى للتغريد خارج السرب الأوروبي؛

فبريطانيا وبسبب إدماج سياستها الخارجية بالسياسة الأمريكية تسعى على الدوام

ليكون الموقف الأوروبي في جهة الهوى الأمريكي، ولكنّها لم تنجح بسبب الجدار

الفرنسي حيناً، والجدار الألماني أو جدارات دول أوروبا الشماليّة. مع العلم أنّ

بريطانيا ما زالت إلى يومنا هذا ترفض فكرة العملة الموحدة اليورو، وما زالت

محتفظة بالجنيه الإسترليني.

وإذا كانت أوروبا الموحدة قد حققت حتى الآن الكثير من الأشياء والإنجازات

فإنّ هناك العديد من التحديّات الداخلية والخارجيّة التي قد تعيق وصول المشروع

الأوروبي إلى أهدافه النهائيّة. فانضمام الدول الأوروبية الفقيرة التي كانت محسوبة

على المحور اليساري سابقاً سيرخي بظلاله على أوروبا الموحدة، وسيجعل أوروبا

منقسمة إلى قسمين: أوروبا غنيّة ومصنِّعة، وأوروبا فقيرة ومستهلكة. وقد

أصبحت أوروبا الغنيّة والمصنعة تشكو من تبعات انضمام أوروبا الفقيرة إليها؛ فقد

بدأت جيوش المتاجرين بالمخدرات يأتون إلى الخارطة الأوروبية الغنية بسمومهم

البيضاء، ورقيقهم الأبيض، وهو ما بدأ ينتج مشاكل اجتماعيّة إضافية في الخارطة

الأوروبية الغنية لتضاف إلى المشاكل القديمة. كما أنّ النهوض بأوروبا الفقيرة

يتطلب رساميل كبيرة للغاية قد لا تستطيع أوروبا الغنية توفيرها على المدى القريب

والمتوسّط. وإضافة إلى ذلك فإنّ أوروبا الغنية التي كانت تشكو من هجرة غير

محدودة من العالم الثالث إليها باتت تواجه تحدّي هجرة الأوروبيين الفقراء إليها

باعتبار أنّ قوانين الاتحاد الأوروبي تجيز لأي أوروبي أن يقيم في أي دولة أوروبية

عضو في الاتحاد الأوروبي دون الحاجة إلى بطاقة الإقامة.

والتحدي الخارجي الذي تواجهه أوروبا الموحدة هو أمريكا نفسها التي أشرفت

على بعث الحياة في أوروبا عقب الحرب الكونية الثانية، والتي كانت تريد بناء

أوروبا موالية لها، وإذا فكّرت أوروبا أن تستقلّ بسياستها واقتصادها فقد يكون ذلك

مؤشّراً على قرب الطلاق البائن بين أمريكا وأوروبا كما توقعت دراسة أمريكية

خاصة، ومعنى ذلك أنّ واشنطن بعد أن تنتهي من صدامها مع العالم الإسلامي قد

تدخل في صدام آخر مع مجموعات دولية أخرى ما دام الصدام هو مرتكز أساس

للسياسة الأمريكيّة.

* أمريكا وأوروبا هل ينهار التحالف بينهما؟

أظهرت دراسة أمريكيّة استشرافيّة خاصة أشرفت عليها وكالة الاستخبارات

الأمريكية أنّ تصاعد حدّة التوتر بين أمريكا وأوروبا قد يؤدّي على المدى المتوسط

إلى انهيار التحالف بين أمريكا وأوروبا، وقد تكون سنة ٢٠١٥م هي سنة الطلاق

الكامل بين أمريكا وأوروبا. وهذه الدراسة الاستشرافيّة لا تتعلّق باستشراف

العلاقات الأمريكيّة الأوروبيّة فقط، بل تتطرّق إلى دور أمريكا في العالم ومصير

النظام العالمي الجديد ذي الصياغة الأمريكيّة، كما تطرقت الدراسة إلى مستقبل

الحركات الإسلاميّة في الشرق الأوسط والعالم العربي، وجاء في الدراسة أنّ هذه

الحركات ستعمّر أكثر ممّا ينبغي، وسوف يتواصل وجودها السياسي وحضورها في

أغلب الساحات العربيّة والإسلاميّة على الأقل إلى سنة ٢٠١٥م باعتبار أنّ هذه

الدراسة تستشرف الغد السياسي الأمريكي إلى سنة ٢٠١٥م. وقد بدأت أصوات

أوروبيّة رسميّة وغير رسميّة تتحدّث عن السياسة الأمريكية اللاعقلانية في بُعدها

السياسي والاقتصادي، وانعكاس هذه السياسة على العلاقات الدوليّة والنسيج

الاقتصادي العالمي، وقد جاء رفع أمريكا ضريبتها على الصلب والفولاذ المصدّر

إلى أمريكا من الدول الأوروبيّة وغيرها ليفجّر تصريحات ومواقف أوروبيّة ضدّ

المواقف الأمريكيّة. وبدأ بعض الكتّاب في أوروبا الشماليّة كما في وسط أوروبا

وجنوبها يتحدثون عن قلقهم من إرادة واشنطن لاستيعاب الساحة الكونيّة لصالحها

وعدم سماعها حتى لحلفائها الأوروبيين، وتفردها المطلق في صناعة القرار العالمي

وتجاوزها المؤسسات الدوليّة. وللإشارة فإن بعض الصحف البريطانيّة شنّت حملة

إعلاميّة كبيرة على رئيس الوزراء توني بلير الذي اعتبرته بعض الصحف حامل

الحقيبة الأمريكيّة الصغير. ويرى المراقبون في أكثر من عاصمة غربيّة أنّ هذه

المقالات والآراء التي بدأت تنتشر في الصحف الأوروبيّة هي مقدمة لانشقاقات

كبيرة في جدار العلاقات الأمريكيّة الأوروبيّة، وتذهب بعض الآراء في بعض

العواصم الغربيّة إلى القول بأنّ أمريكا قد لا تسمح بأنّ تمضي أوروبا الموحدة

اقتصادياً قُدُماً في تقدمها وتكامل مشروعها السياسي؛ لأنّ ذلك قد يجعلها أهمّ منافس

سياسي لأمريكا مع بعض الكتل المرشحة للصعود كالصين واليابان والعالم

الإسلامي كما أشار يوماً ريتشارد نيكسون في كتابه المعروف: (أمريكا والفرصة

السانحة) .

وبعض المفكرين المحسوبين على خطّ اليسار في الغرب يرون أنّ أمريكا

مثلما ساهمت في قيام أوروبا بعد الحرب الكونيّة الثانيّة لمواجهة الأمبراطوريّة

السوفياتيّة الحمراء، ولإقحام أوروبا في معادلة حربها ضدّ السوفيات سابقاً، فإنها قد

تتخلّى عن تحالفها مع أوروبا إذا تحولت الكتلة الأوروبيّة من كتلة تابعة إلى كتلة

منافسة وفاعلة. وهذا ما بدأ يتنبّأ به بعض المفكرين الغربيين، كما جاء في الدراسة

الاستشرافيّة التي أشرفت على وضعها وكالة الاستخبارات الأمريكية. وللإشارة فإن

التخوّف الأوروبي من أمريكا ليس من أدائها السياسي والاقتصادي، بل بدأ العديد

من المحافل والمؤسسات الثقافيّة تبدي تخوّفها من ذوبان ثقافتها وخصوصياتها

الفكريّة والثقافيّة، خصوصاً في ظلّ سيطرة الفيلم الأمريكي والأغنية الأمريكية

والإيقاع الحياتي الأمريكي على مجمل وسائل الإعلام الغربيّة، ومثلما يتحدّث

العرب والمسلمون عن غزو ثقافي أمريكي - أوروبي لمواقعهم الجغرافيّة، فإن

الأوروبيين يتحدثون عن غزو ثقافي أمريكي قد يلغي شخصيتهم الثقافيّة على المدى

المتوسّط، وكل هذه الرؤى والآراء قد تمهّد لإقامة جدار برلين مجدداً لكن ليس بين

الألمانيتين لكن بين أمريكا وحليفتها أوروبا.

ومثلما لا يوجد حوار بين أوروبا والعالم العربي والإسلامي، ومثلما يتعامل

الغرب مع العرب والمسلمين من منطلق تعليمهم واستتباعهم، فإن أمريكا تتعامل مع

أوروبا من منطلق تعليمها واستتباعها، وهو ما يخلق إشكالاً بين أوروبا التي تدعي

أنّ حضارتها أصيلة وعريقة، وبين أمريكا التي قامت حضارتها على قتل الهنود

الحمر وتقطيع أوصالهم!!


(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.