السؤال الذي يراود الكثيرين، ويهرب أكثرهم من الإجابة عنه، هو: هل يمكن أن يعود العراق دولة موحدة يحكمها السنة كما كانت؟ الجواب الأكثر واقعية: لقد انتهت دولة العراق، وبمعنى آخر: ما نراه ماثلاً أمامنا هو كيان أو كيانات جديدة قد تتطور في المستقبل المنظور إلى دول ليس لها علاقة بالعراق القديم من قريب أو بعيد.
إن الدستور الجديد الذي يتجاذبه ويتقاذفه الأكراد والشيعة فوق رؤوس العرب السنة يرسخ الفيدرالية وهي لفظة مهذبة للحكم الذاتي، الذي هو بدوره عبارة لطيفة تمهد لظهور دول جديدة. والأمر الذي يجب الإقرار به هو أن العراق القديم لا يوجد من يحفل به أو يحرص على عودته إلا العرب السنة، وهم حالياً أضعف الأطراف وأقواها في نفس الوقت؛ فهم ضعفاء من الناحية السياسية، وإن كانوا أقوياء بقدرتهم على المقاومة، ولكن للأسف فإن حسم مسألة العراق كدولة واحدة يتم في ميدان السياسة، ولا نستبعد في تطورات الأحداث أن تتزامن لحظة انتصار المقاومة ـ بانسحاب الاحتلال ـ مع لحظة انتهاء العراق الموحد؛ فقد أصبح جلياً أن واشنطن ترى في الفيدرالية طوق نجاة يمكن أن يسهل عليها إعادة الانتشار في العراق.
وهذه الوضعية تدفع إلى السطح سؤالاً بالغ الأهمية: إن كانت أمريكا تؤيد الفيدرالية في العراق، فهل يعني ذلك أنها توافق على ظهور دول جديدة مستقلة؟ المفارقة الغريبة في السياسة الأمريكية أنها ترفض تماماً الحلول المطلقة والنهائية، وتعمل وفق مبدأ: إدارة الصراعات وليس حلها، وهذا ما يحدث في العراق: إدارة الصراع، والوصول بالأطراف المتصارعة إلى مرحلة تقترب من الحل النهائي، وعندها يتوقف الدعم فجأة، وتترك الأوضاع على حافة الانفجار. هذا ما فعلته أمريكا في أفغانستان، وما تفعله في العراق، وما ينتظر أن تفعله في دول عربية أخرى تترقب الأقليات فيها أن يحل عليها الدور لتنعم بالفيدرالية.
والسودان يمثل نموذجاً للدولة التي يتم تفكيكها على نار هادئة عن طريق العزف على أوتار أقلياتها، ولا يُخفي الكثيرون توقعاتهم بصعوبة استمرار السودان كدولة موحدة لفترة طويلة، والأمر الخطير أن سلاح الاغتيالات الفعال بدأ يشق طريقاً في الساحة السودانية، والاغتيالات الوسيلة المفضلة لدى أجهزة المخابرات الأجنبية لقلب الأوراق السياسية في أي بلد، وتبدو أسماء ذات ثقل مرشحة لأن تتعرض لمحاولات مماثلة لما تعرض له (جارانج) ونعني طبعاً من رجالات المؤتمر الحاكم، ونصيحتنا لهم أن يتجنبوا ركوب المروحيات، على الأقل في الأيام القادمة.