[حتى لا نظل عصا في يد (العم) سام ... !]
د. عبد العزيز كامل
عندما يغفل المسلمون عن بدهيات الحقائق العقدية المختصة بعلاقتهم بغير المسلمين، كفاراً كانوا أو مرتدين أو منافقين، فإن ثمن تلك الغفلة يكون فادحاً، حيث يصيرون باستمرار ألعوبة في أيدي الأعداء الذين قال الله ـ تعالى ـ فيهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: ٨٩] .
وقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: ٢١٧] .
وقال: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: ١٠٥] .
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: ١٤٩] .
وقال: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: ٣٦] .
وقال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: ٦٨] .
وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: ١٠٩] .
وقال: {إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: ٢] .
وقال: {وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران: ٦٩] .
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: ١١٨] .
وقال: {إنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا} [النساء: ١٠١] .
وقال: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: ١٢٠] .
إن هذه الآيات المذكورة وغيرها هي إيضاح مبين لأصول الدوافع التي تحكم مواقف الكفار منا ـ أو مواقف أكثرهم ـ من الزعماء والمتنفذين والمنتفعين؛ فمجرد الرغبة أو الرضى في وجود المسلمين على هدى أو غنى أو أمن أو استقرار أو صلاح أو فلاح لا توجد عندهم؛ ولهذا تكاثرت الآيات أيضاً في الوصية بقطع الولاية عنهم، وعدم إحسان الظن بهم، فضلاً عن اتخاذهم بطانة أو مستشارين أو مؤتمَنين على مصالح المسلمين؛ لأنّهم كما قال الله ـ تعالى ـ: {كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا} [النساء: ١٠١] .
لقد فسَّرَت أحداث وتفاعلات العقود الأخيرة لأجيالنا، الكثير من تلك الآيات عملياً، وأسفرت عن حقائق تلك المواقف تطبيقياً؛ ففي كل مرة يُحسن قطاعٌ من الأمة أو من المحسوبين عليها الظنَّ بغير المسلمين، فإنهم يُطعَنون منهم في الخلف، ثم يُساؤون في الوجه، بعد أن يُستخدموا أداة في إضعاف وإتلاف وحدة الأمة وقوتها. حدث ذلك مراراً خلال التاريخ الإسلامي. وفي العصور الأخيرة برز من ذلك ما حدث لأشهر حكام مصر في العصر الحديث: (محمد علي باشا) عندما أحسن الظنَّ بالأوروبيين، وسار في ركابهم، فركِبوه لضرب قوة المسلمين الأولى في ذلك الوقت ممثلة في الدولة العثمانية، فلما استنفدوا منه أغراضهم ونفّذوا أهدافهم، انقلبوا عليه، حتى لا يبرز قوةً بديلة ناهضة تسعى للقوة والتحديث، فاجتمعت عليه قوى أوروبا الاستعمارية، فمزقت قوته، وشتتت دولته، ودمّرت أسطوله في عُرْض البحر في معركة نفارين عام (١٢٤٣هـ / ١٨٢٧م) .
لقد استُخدمت فيما بعدُ الكثير من الأنظمة في العالم الإسلامي، لضرب عوامل القوة في الأمة من الداخل، وقد كان أغلب ذلك لا يحتاج إلى كثير خداع أو قناع، بل كان هؤلاء يقودون المعركة ضد الإسلام ذاته تحت مسمَّيات مختلفة: التصدي للرجعية، مواجهة التطرف، مكافحة الأصولية ... ، وأخيراً الحرب ضد الإرهاب!!
وكان المثال الأوضح في القرن الماضي استعمال زعماء الثورة المصرية عام ١٩٥٢م في محاربة محاولات النهضة الإسلامية، لا في مصر وحدها، بل في البلدان حولها، حتى عُدّت تلك التجربة أنموذجاً مفضلاً ومرشحاً للتصدير إلى كل بلد يحاول الإسلاميون فيه النهوض بالدعوة الإسلامية، ولكن اللافت أن معظم الزعماء الذين استُعمِلوا في ضرب الإسلام في مصر أو غيرها، تخلى عنهم أولياؤهم، ولم يسمحوا لهم حتى بأن يموتوا أبطالاً في نظر شعوبهم؛ بل منهم من مات مهزوماً على يد أعدائه، ومنهم من اغتيل مُهْدَرَ الدم على يد شعبه، ومنهم من مات كمداً بسبب تآمر أصدقائه الذين ظهر له أنهم ألدُّ أعدائه!
وفي العقود والسنوات الأخيرة تكررت تجارب أكبر وأخطر، انتقلت من المستويات المحلية والإقليمية إلى المستويات المؤثرة على المعادلات الدولية.
- باكستان وأفغانستان وكسر القطب الثاني:
لمّا عزمت الولايات المتحدة أو (العم سام) (١) على إخضاع نِدِّها الأخطر، ومنافسها الأكبر في الاستقطاب الدولي؛ وهو الاتحاد السوفييتي الشيوعي، كانت أرض أفغانستان المسلمة ساحةً للحرب بالنيابة بينها وبين ذلك الاتحاد؛ لضربه هناك بأيدي المسلمين وأرواحهم وأموالهم. وقد استطاعت أمريكا أن تجيِّش غالبية العالم الإسلامي بحكوماته وشعوبه وجماعاته الإسلامية وعلمائه ومفكريه وحتى مجاهديه ضد الاتحاد السوفييتي؛ لأنه (احتل) أفغانستان، مع أن هذا الاتحاد ظل قائماً على أنقاض العديد من الجمهوريات الإسلامية (المحتلة) في آسيا الوسطى.
لقد كان احتلال أفغانستان بالفعل جريمة، أراد بها الروس أن يسبقوا الأمريكيين إلى الاستيلاء على منابع النفط حول المياه الدافئة في إيران والعراق ومنطقة الخليج؛ لكن العرب والمسلمين الذين استجابوا لدعوة التصدي لاحتلال أفغانستان، لم يستطيعوا أو لم يرغبوا أن يقفوا الموقف نفسه ضد احتلال فلسطين الذي سبق احتلال أفغانستان بنحو ثلاثين عاماً، ولم يستطيعوا أن يتكتلوا في مواجهة احتلال لبنان، الذي اجتيحت عاصمته بيروت في ذروة الانغماس في حرب أفغانستان!
لا شكَّ أنَّ العالم الإسلامي كان محقاً في الوقوف إلى جانب الشعب الأفغاني في ذلك الوقت، ولكن البُعد الغائب في تلك القضية آنذاك هو التفريق الحاصل بين الاحتلال المتوافق مع مصالح (الصديق) الأمريكي والاحتلال المتعارض مع مصالح ذلك الصديق، تماماً كما حدث عند احتلال الشيشان من قِبَل الروس أنفسهم، وكما حدث من قبل حين اعتُبِر احتلال العراق للكويت أمراً يحتاج إلى تجييش العالم الإسلامي ضده، بينما أصبح احتلال أمريكا للعراق ذاته أمراً يحتاج إلى حشد العالم الإسلامي معها!
المقصود من إيراد مَثَل الحرب في أفغانستان هو: أن الولايات المتحدة استخدمتنا ـ نحن المسلمين ـ في ضرب عدوها اللدود في ذلك الوقت ـ الاتحاد السوفييتي ـ وأوهمت العرب والمسلمين بأن القضية هي قضيتهم فقط وليست قضيتها، وذهب الأمريكيون في استخدامنا إلى حد دعم الفصائل المجاهدة في أفغانستان بالسلاح، وطَلبِ دعمها بالمال من الحكومات ـ ومن ثمَّ الشعوب ـ التي لها علاقات جيدة معها!
ثمَّ ماذا كان الأمر؟ لقد انقلب الأمريكيون على المجاهدين بعد أن استنفدوا أغراضهم منهم، وقلبوا عليهم حكوماتهم، حتى عُدّ (العائدون من أفغانستان) أشبه بمجرمي الحرب، وحتى أُضرمت الفتنة بين زعماء الفصائل الأفغانية إلى حدّ الاقتتال فيما بينهم على دخول العاصمة؛ لأنَّ الولاءات كانت قد تباعدت بسبب تحركات الاستخبارات العالمية بالفتن فيما بينهم.
وبالجملة: فقد كانت أفغانستان ومعها باكستان، ومن ورائهما بقية العالم الإسلامي، وسيلة أمريكية لضرب الاتحاد السوفييتي في مقتل. وهذا، وإن كان شرفاً قدرياً لأمة الإسلام في جعلها سبباً لكسر اتحاد الإلحاد؛ إلا أن اللافت أن ذلك كان ضمن أجندة أمريكية أكثر منها إسلامية؛ بدليل أن البديل المراد أمريكياً في أفغانستان لم يكن هو الإسلام.
مرة أخرى يتكرر اللعب بالإسلاميين، في صورة لا تظهر فيها مطلقاً أدوات اللعب؛ حيث أعطت أمريكا الضوء الأخضر لحكام باكستان أن يدعموا حركة طالبان، التي كانت محقة من طرفها في الخروج لإصلاح ما أفسدته الفصائل الجهادية المتنازعة، لكن الذي أُريد بطالبان هو أن تكون أداة لكسر ما تبقى من شوكة المجاهدين السابقين بعد أن انتصروا على الروس، ليبدوَ مشهد الإجهاز عليهم شأناً داخلياً وطبيعياً؛ لكن طالبان فهمت اللعبة مبكراً.
ثمَّ لمَّا جاء الدور عليها كانت الخطط قد أُعدّت بعد خمسة أعوام فقط من بدء نشاطها، وقبل هجمات سبتمبر ٢٠٠١م بنحو عام؛ للإجهاز على أصحاب هذا الإنجاز؛ فبعد أن استُخدمت طالبان كعصا للتكسير، كُسِّرت بعد ذلك وقُلِبت عليها باكستان.
- ضرب القوميتين العربية والفارسية ببعضهما:
هذا مثال صارخ آخر؛ فقد تخلّت أمريكا عن نظام الشاه في إيران لمصلحة حركةٍ ناهضة على دعامتين من شأنهما أن يشيعا التوتر في بلاد العرب والمسلمين، وهما: النزعة الطائفية الشيعية، والنعرة القومية الفارسية، لتكون تلك العصبية المذهبية العنصرية مصادِمةً للنعرة الجاهلية الأخرى التي ارتفعت في بلاد العرب باسم (القومية العربية) والتي أثيرت من قبلُ لتقف في وجه القومية التركية (الطورانية) .
وقد تغاضى الغرب عن استفحال شأن الحركة الشيعية الإيرانية، التي تحوّلت إلى ثورة بقيادة (الخميني) حتى تحولت الثورة إلى دولة، ولمّا تطلعت إلى التوسّع والانتشار على حساب مصالح أمريكا والغرب، بحث هؤلاء عن عصا لتأديب هذه الثورة التي بدأت تشب عن الطوق، وإيقافها عند حدها المرسوم، فلم يجد الأمريكان أنسب من النفخ في بوق القومية العربية لحماية البوابة الشرقية للعالم العربي من الخطر الإيراني الفارسي، وهُيئت الساحة في العراق لأنْ يكون الجيش العراقي أداة الكسر وعصا التحطيم لثورة الفرس في (قادسية) جديدة لم يكن الهدف منها إطفاء نار المجوس، بقدر ما كان لإشعال نار الفتنة بين الشيعة والسُّنّة، بعد أن خمدت تلك النار عقوداً طويلة.
وأُهِّل العراق عسكرياً، ودُعم مالياً ولوجستياً من غالبية الدول العربية السُّنّية، في تحالف يبدو في الظاهر (سنّىاً أمريكياً) حتى استطاع ذلك التحالف أن يكسر كبرياء الفرس، ويُخضع أعناق الراغبين في تصدير الثورة بعد حرب الخليج الأولى التي استمرت زهاء ثماني سنوات.
ولمَّا بدا أن القومية العربية قد تلقّفت رايات النهوض من القومية الفارسية، دُبّرت المكيدة الأكيدة لقهر العراق الصاعد، وقبرِ تلك القومية العربية التي كان (صدام) قد تسلّم قيادتها، فكان غزو الكويت الذي تغاضت أمريكا عن خطته؛ تمهيداً لقضاء مبرم على القومية العربية وعلى قائدها المنتصر، وعلى ثمرة الانتصار على إيران الذي كلّف العرب مئات الآلاف من الأرواح، ومئات المليارات من الدولارات التي ذهبت إلى جيوب تجار السلاح في الغرب، والذين كانوا يمدّون الطرفين أثناء الحرب الطويلة بالسلاح والخبرة والمعلومات الاستخباراتية.
ثم أتى الدور على قوة (صدام) بعد أن استُخدمت عصا لكسر إيران، وحشدت أمريكا ضده جمهوراً غفيراً من العرب ـ شعوباً وحكومات ـ بعد أن كانوا معه ضد إيران، وأثمر هذا التجييش هزيمة مذهلة للعراقيين، بتدبير الأمريكيين وبأموال وأرواح المسلمين، وذلك في حرب الخليج الثانية عام ١٩٩١م، وكان واضحاً وقتها أن تلك الحرب لا تزال لها فصول باقية؛ لأن حكومة إيران هُزمت ولم تسقط، ولأن قوة (صدام) ضعفت ولم تمت، ولهذا جاءت حرب الخليج الثالثة ـ في أحد مراميها ـ لتعيد الصراع مرة أخرى بين السُّنّة والشيعة، أو بين العرب والفرس، وقد دُبّر ذلك بذكاء شيطاني مذهل من أبالسة الأمريكان؛ حيث أُغري المغفلون من شيعة العراق ـ علمانيين ودينيين ـ بركوب دبابة الغزو الأمريكي، لكي يشتعل الصراع داخلياً هذه المرة بين سُّنّة العراق وشيعته، ولكي تُفتح شهية الشيعة الإيرانيين للانتقام من صدام ومن كل من وقفوا معه في حرب الخليج الأولى، وجرى ما جرى من تسهيل الشيعة الإيرانيين والعراقيين للغزو الأمريكي المدعوم بتحالف غربي وعربي، لتستعر من جديد أجواء المواجهة الدامية بين السُّنّة والشيعة، وبين العرب والفرس، لا في العراق فحسب؛ بل في دول الجوار وما بعد الجوار.
- إعادة الكرَّات، وتكرار اللدغات:
تتهيأ الآن ـ فيما أرى ـ أجواء أجزاءٍ من المنطقة للدخول في مواجهة جديدة بإغراء وتغرير أمريكي وغربي، لا يقل وضوحاً عن ذلك الذي حدث مع الأطراف المختلفة في حرب أفغانستان، أو في حروب الخليج الثلاثة السابقة، وقد بدأت السُّحب الداكنة للمواجهة القادمة تتلبد في سماء المنطقة، بعد الإعلان الغامض عن تكوين ما أسمته (كوندوليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية بـ (تحالف الاعتدال) ! فيما يمكن أن يكون مقدمة لتجييش العالم الإسلامي مرة أخرى للحرب بالوكالة لمصلحة أمريكا، في مواجهة قد تبدو للشعوب حرباً ضرورية لقضايا مصيرية يقوم بها المعتدلون ضد المتطرفين الخارجين عن الشرعية الدولية.
إنَّ أمريكا ـ فيما تُظهر الشواهد ـ ستلجأ إلى تسعير الخلاف الديني بين فِرق المسلمين، وسوف تجد من مسوِّغات الاختلاف بينهم دينياً ودنيوياً ما يمكن أن يُنسي المختلفين اختلافهم معها.
إنه لا أحد من العقلاء ـ فضلاً عن أصحاب الدِّين ـ يمكن أن يدافع عن الجرائم التي تُرتكب باسم التشيع المزعوم لآل البيت، ولا يمكن لأحد أن يسوِّغ الخيانات العظمى التي ارتُكبت، ولا تزال ترتكب ضد أمة الإسلام، بزعم محاربة الوهابية السُّنّية! ولكن: أيكون هذا هو علة الحرب التي تدبّر لها أمريكا الآن وهل هذه المواجهة لنصرة السُّنّة على البدعة حتى ينشأ تحالف (سُّنّي أمريكي) ؟!
إن المطلوب هذه المرة ـ فيما يبدو ـ أن تُضرَب إيران لصالح الأمريكان بأرواح ومقدرات وأموال العرب السُّنّة، لتذهب تلك الأموال وتخلُص مرة أخرى إلى الخزائن الأمريكية ثمناً للسلاح المستخدم فيها، والذي ستتوالى صفقاته بمئات المليارات لتعويض الاقتصاد الأمريكي عن تعثراته، ولتكونَ هذه الحرب وقوداً لثأر جنوني شيعي ضد دول الجوار السُّنّي، حتى يُنهِك الطرفان بعضهما بعضاً ـ مثلما حدث في حرب الخليج الأولى ـ ريثما تتهيأ الأجواء لانفراد أمريكا ـ ربما في جولة لاحقة ـ بإيران المنهكة والمعزولة بعد استعمالها في إضعاف العرب السُّنّة، واستعمال العرب السُّنّة في إضعافها! ولكي لا تقوم قائمة بعد ذلك لإيران الطامعة في منافسة الغرب في خيرات بلاد العرب، والطامحة إلى مزاحمة دولة اليهود (إسرائيل) في الزعامة الإقليمية في المنطقة.
أقول: لو كان لنا نحن ـ العرب والمسلمين السُّنّة ـ قوة كافية وإرادة مستقلة لكان علينا، وفق حساباتنا المرسومة بحسب السياسة الشرعية، أن نتكتل ضد أي كيان ذي شوكة يقوم على البدع المغلظة التي تشوِّه دعوة الإسلام وتصد عن سبيل الله، في إيران أو غير إيران، ولكن وفق رؤيتنا وأجندتنا وأحكام شريعتنا. ولقد سئلت في حوار مع أحد المواقع إبان الحرب في لبنان، بين ما يسمى بـ (حزب الله) واليهود، عن رأيي في مساندة الشيعة في تلك الحرب، فقلت: إن محاربة اليهود من قِبَل حزب من لبنان أو حتى من اليابان أمر جيد، ولكن العمل لتمكين الشيعة في أي بقعة إسلامية أو تلميع صورتهم وتزكيتهم أمر غير جيد. ولو فرض أن ما يُسمى بـ (حزب الله) قاتل اليهود وانتصر عليهم وأخرجهم من فلسطين ليحل محلهم؛ لكان واجباً علينا ـ أهلَ السُّنّة ـ إذا توافرت لنا القدرة والاستقلال في القرار، أن نخرجه من فلسطين ولو بالقوة، حتى لا يشيع التشيّع في الأرض المقدَّسة ويُشتَم الصحابة وأمهات المؤمنين ويكفروا!
وإيران اليوم لا يجوز أن تكون لها هيمنة إقليمية تضر بدعوة الإسلام في أكثر أراضيه أهميةً وحساسيةً، ولو تمكنا نحن ـ أهل السُّنّة ـ من كف شرّها وإيقاف مدّها، دون أن يكون ذلك لحساب العدو الآخر الذي لا يقل خطورة عن الأمريكيين واليهود، ودون أن يكون ثمن إضعافها هو مزيداً من قوتهم ومزيداً من ضعفنا؛ فإن ذلك يكون من الواجبات التي لا يجوز تأخيرها.
لكن المقطوع به ـ في ضوء حقائق الدين والواقع ـ هو أن كفار أهل الكتاب يودّون لنا العَنَتَ، ولن يزيدونا إلا خبالاً إذا أطعناهم واتخذناهم خبراء أمناء، وأصدقاء أولياء في أيٍ من قضايانا المصيرية.
- السيناريو المتوقع:
من غير استبعاد نهائي لسيناريو (الصفقة) مع إيران ضد العرب، في حال عجز أمريكا عن خوض مواجهة نهائية وفاصلة معها في المرحلة الراهنة ـ كما بيّنتُ في مقال سابق ـ فإن أقرب السيناريوهات المتوقعة ـ في ظني ـ وبحسب سوابق أمريكا ونواياها الخبيثة بكل العرب والمسلمين، هو أن تقوم الولايات المتحدة بتوجيه ضربات لإيران في هجوم جزئي أو شامل، على مواقع استراتيجية في العمق الإيراني، بحيث يكون هذا الهجوم منطلِقاً من بعض دول الخليج، وربما بتأييد منها، لا لتأديب إيران الآن، بقدر ما هو لتأليب شيعتها وشيعة العالم كله ضد السُّنّة العرب، وبخاصة في منطقة الخليج، وعندها ـ والله أعلم ـ ستكون ساحة الحرب الإقليمية الطائفية في أوْج استعدادها للانفجار والانتشار، ليحقق الأمريكيون ـ لا أكسبهم الله ـ العديد من المكاسب التي من أبرزها:
- كسر العصا الإيرانية، بعد أن استُخدمت في كسر العصا العراقية.
- إشغال العرب جميعاً في صراع بديل لما كان يسمى بـ (الصراع العربي الإسرائيلي) ليحل محله صراع جديد هو (الصراع العربي الفارسي) . وهذا ما سيُنسي هؤلاء العرب، أنه كانت هناك يوماً قضية اسمها القضية الفلسطينية؛ ظلت تُعدّ القضية المركزية الأولى للأمة العربية والإسلامية.
- إعادة الاعتبار (للعدو) الأمريكي في نظر شعوب المنطقة، بعد جرائمه وفظائعه ليعود صديقاً؛ بل منقذاً للعرب من نظام طهران، كما سبق أن (أنقذهم) من نظام صدام! وهو ما يمكن أن يسمح باستمرار الارتهان له والامتثال لأمره.
- دفع حركة تجارة السلاح إلى الرواج، عندما يصطف العرب لشراء الصفقات التسليحية التي ستوقد نار المعركة ضد الأطماع الفارسية؛ حيث سيُرفع كالعادة شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) ولو كان هذا الصوت هو صوت مصلحة الشعوب وحقوقها في الاستقرار والتنمية والتحديث.
- إعادة ترتيب أوراق المنطقة وسط دخان تلك الحرب، بما يسمح بقفز أولياء أمريكا إلى مقدمة كراسي المسؤولية، سُّنّية كانت أو شيعيّة.
- إجبار المقاومة السُّنية في العراق ـ وربما في غيرها ـ على تغيير وجهتها عن الأمريكيين إلى غيرهم، بعد أن أذاقت تلك المقاومة جيش أمريكا طعم الهزيمة، ولتتوجه كل جهود المجاهدين لقتال شيعة إيران والكف عن الأمريكيين وحلفائهم، وهو ما يمكن أن يوفر لهؤلاء الأمريكيين فرصة لالتقاط الأنفاس والعودة من جديد للتفرغ للمجاهدين.
- إلهاء إيران عن مواصلة برنامجها النووي، وتطويرِ التقنيات العسكرية والاقتصادية لبناء نفسها كقوة إقليمية، وتخويف غيرها من السلوك نفسه؛ حتى تبقى دولة اليهود هي القوة الإقليمية (الوحيدة) في المنطقة.
- توفير غطاء مقبول يحفظ ماء وجه أمريكا إذا أرادت أن تخرج من العراق، مدّعيةً أنها لم تُهْزم؛ وإنما فشلت مهمتها في بلد (لا يريد) الحرية والديمقراطية!
إن لهذا (السيناريو الكابوس) دلائل وعلامات، تدل على أنه أحد الاحتمالات الجادة، التي لا ينبغي الاستهانة بها وبفداحة خطرها على الجميع؛ حيث برزت، ولا تزال تبرز، في الآونة الأخيرة مؤشرات تدلُّ على أن أمريكا تتعمد تسعير أجواء الحرب بين السُّنّة والشيعة إقليمياً، بعد أن سخّنتها محلياً في العراق، بتفويض الشيعة في إدارة الشأن العراقي بشكل انتهازي واستفزازي للسُّنّة داخل بلاد الرافدين وخارجها.
ومن المؤشرات والعلامات الدالة على الدفع الأمريكي باتجاه مواجهة إقليمية سُّنّية شيعية، من خلال التحرش بإيران وتهييجها على دول الجوار، ما يلي:
١ ـ استراتيجية بوش الجديدة للعراق، ليست خاصة بالعراق فقط، بل هي رؤية وخطة لمواجهة كل القوى المناهضة لأمريكا في المنطقة، سُّنّية كانت أو شيعيِّة؛ فالخطة تغلق الأبواب أمام احتمالات إخلاء المنطقة من الوجود العسكري الأمريكي؛ بل تقرر زيادته في العراق وحدها بنحو (٢١ ألف جندي أمريكي) . كما تدل استراتيجية بوش الجديدة التي أُطلق عليها (استراتيجية الدفع) على توجُّهٍ نحو تأكيد ثلاثة خيارات استراتيجية أمريكية في التعامل مع الأطراف في المنطقة:
أولاً: الحفاظ على تماسك التحالف بين أمريكا وبين من تعدهم (قوى الاعتدال) في المنطقة؛ وهم مصر والأردن ودول الخليج وتركيا، وربما باكستان.
ثانياً: الثبات على اتخاذ موقف المواجهة مع إيران وسورية ومن يدور في فلكهما؛ خلافاً لتوصيات لجنة بيكر ـ هاملتون.
ثالثاً: تطوير استراتيجية المواجهة الشاملة للقوى السُّنِّية المقاومة في العراق.
فتلك الاستراتيجية تنطوي في خطوطها العريضة على توجُّه ٍنحو تحالف جديد ضد إيران وسورية، إضافة إلى المقاومة السُّنّية في العراق، وهو ما يعني توسيع جغرافيَّة المواجهة إلى ما هو خارج العراق.
وتأتي التحضيرات العسكرية الأمريكية المتصاعدة في منطقة الخليج مؤخراً نوعاً من التهيئة الفعلية لساحة العمليات؛ فالتحضيرات العسكرية ـ حتى الآن ـ شملت تعزيز القدرات البحرية الأمريكية في المنطقة، بزيادة مجموعات قتالية كبيرة، تضم حاملات طائرات وقطعاً مقاتلة، وغواصات وكاسحات ألغام، كما تضم دفاعات صاروخية من نوع (باتريوت) ، وتشمل تعزيز القدرات الاستخباراتية داخل إيران نفسها. وقد طلب الرئيس الأمريكي لتغطية استحقاقات المرحلة المقبلة من الكونجرس أن يوافق على الميزانية المطلوبة حالياً والتي تقدر بأكثر من (٧٠٠) مليار دولار، وهو ما يعد أكبر من ضعف تكاليف عملية غزو العراق.
٢ ـ توجُّه أمريكا نحو إضعاف القوى الشيعية الموالية لإيران داخل العراق، بعد استهلاكهم في إقصاء السُّنّة وإضعافهم، وبعد الفراغ من استعمالهم في الحرب ضد صدام، حتى لا يصيروا ظهيراً لإيران في حال مواجهة أمريكا لها، ومن ذلك دفع الحكومة الشيعية العميلة لمواجهة (عصابات مقتدى الصدر) الأداة الأكثر إجراماً في يد إيران، وكذلك حرق أوراق عصابة الغدر بزعامة (عبد العزيز الحكيم) وتهييجها ضد الصدريين وضد الشيعة العلمانيين، ويدخل في ذلك ـ أيضاً ـ ضرب الشيعة العرب بالشيعة الفرس عن طريق استغلال اختلاف المرجعيات.
٣ ـ إصرار أمريكا في المحافل الدولية وفي أوساط التجمعات العربية على عزل إيران، وتضييق الخناق عليها اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، وهو ما تُرجِم مؤخراً باستصدار قرارات للعقوبات الدولية عليها، وهو السلوك الذي اعتادته الإدارة الأمريكية مع كل من تنوي له شراً؛ حيث تسير إلى خط الصِّدام عبر خطوات التصعيد الدبلوماسي، ثم العزل السياسي، ثم الحصار الاقتصادي، ثم جمع الحلفاء للحسم العسكري.
٤ ـ محاولات استدعاء رموز قديمة من حزب البعث، ربما لاستخدامها كجزء من (قادسية جديدة) ضد إيران، باسم القومية العربية (البائدة) ضد القومية الفارسية الصاعدة.
٥ ـ كانت عملية إعدام (صدام حسين) مليئة برموز الشحن الطائفي؛ حيث سمحت أمريكا للشيعة (وكانت قادرة على عدم السماح) بأن يختاروا التوقيت الأسوأ والكيفية الأسوأ في تنفيذ الإعدام؛ ليوصِِّل ذلك إلى أشد العواقب سوءاً على مشاعر السُّنّة ضد الشيعة في إيران والعراق. وكان لهذه الخطوة الأمريكية الماكرة آثار ظاهرة في إفقاد الشيعة كل أسهم الإعجاب والتعاطف الذي كان لدى شريحة كبيرة من المخدوعين بهم، وقد كان هذا فخاً لهم، وقعوا فيه بغباء خارق.
٦ ـ هناك فيما يبدو (فوضى خلاّقة) ـ على مذهب (كوندوليزا رايس) ـ يجري الإعداد لها داخل العراق، قد تسمح بإحداث وضع جديد من بين ركامها، يمكن أن يُخرج إدارة جديدة للعراق غير موالية لإيران. فأمريكا حتماً ستلعن عملاءها هناك بعد أن انتعلتهم. وقد بدأت إشارات ذلك بتصريح بوش ـ رأس الفتنة ـ بأن حكومة المالكي (غير ناضجة) ! وفي هذا الصدد، قد تستعين أمريكا ببعض مغفلي أهل السُّنّة، وتدفع بهم إلى الوجهة الأمامية، ليقولوا أمام المسلمين: إننا الحاجز المنيع ضد الشيعة الإمامية! وليكون هؤلاء ـ في تلك الحال ـ جزءاً لا يتجزّأ من (تحالف الاعتدال) !
وقد تزايد اتِّهام إيران في الآونة الأخيرة، بأنها وراء الكثير من أعمال العنف وفِرَقِ الموت في العراق، واعتقلت الولايات المتحدة عملاء لإيران هناك. واتّهم الأدميرال (وليام فالون) المرشح لمنصب القيادة الأمريكية الوسطى، إيرانَ بالعمل على عرقلة استقرار النفوذ الأمريكي في الخليج، في تصريح له في أواخر يناير من عام ٢٠٠٧م. وهناك تصعيد واضح في لهجة القوى المعادية لإيران فيما يتعلق بضرورة حسم خطرها النووي قبل أن يخرج عن السيطرة، وقد قال الرئيس الأمريكي في ١٢/١/٢٠٠٧م: «إن كل الخيارات مطروحة في التعامل مع إيران» وهو يقول ذلك تجاوباً مع حملات التحذير الأخيرة من أن إيران على وشك تجاوز القنطرة فيما يتعلق بالتسلح النووي؛ حيث قال المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن في (٣٠/١/٢٠٠٧م) : إن إيران قد تتمكن من إنتاج سلاح نووي في غضون سنتين. وقال المعهد في تقريره السنوي: «إن إيران واصلت تحقيق تقدُّم في إنتاج معدات التخصيب، وخزّنت ٢٥٠ طناً من المواد اللازمة لتخصيب اليورانيوم، بما يكفي لإنتاج ٣٠ إلى ٥٠ قنبلة نووية. وحذّر المعهد من أن تخطي إيران للعقبات الفنية وانفتاح الطريق أمامها لإنتاج سلاح نووي؛ قد يعجل باحتمالات الخيار العسكري» .
وقد ذكر مسؤولون أمريكيون وخبراء مستقلون أن شنَّ هجوم سريع على إيران، سيعرقل برنامجها النووي لمدة لا تقل عن أربع سنوات.
وهنا يرتفع صراخ ونباح الدولة العبرية، مرة بالتهييج وأخرى بالتهديد، خوفاً أو تخويفاً من التلكؤ مع إيران حتى ينفلت الزمام، وقد قال (إفراييم سنيه) نائب وزير الدفاع الإسرائيلي: إنه لا يستبعد هجوماً وقائياً إسرائيلياً على إيران، على خلفية برنامجها النووي، وقال في (١٠/١١/٢٠٠٦م) : «إن الهجوم على إيران سيكون الحل الأخير.. وربما يكون الحل الوحيد» !
وقال (عمير بيرتس) وزير الدفاع الإسرائيلي في (٣٠/١/٢٠٠٧م) : «إن عام ٢٠٠٧م، سيكون عاماً حاسماً في مواجهة الخطر النووي الإيراني» !
لكل هذا استشعر الأمين العام للجامعة العربية (عمرو موسى) الخطر المحدق بالمنطقة ـ وهو في موقع يؤهله للشعور بذلك الخطر ـ حيث حذّر من التداعيات الخطيرة لأي هجوم أمريكي على إيران فقال في (٢٤/١/٢٠٠٧م) : «إذا اندلعت الحرب، فسيخرج مردة آخرون من القمقم، ولا يمكننا أن نتخيل التأثير على دول الخليج ودول البحر المتوسط» .
- وهنا لا بد من وقفات وتساؤلات:
علماء الأمة وحكماؤها وأهل الرأي مدعوّون اليوم قبل الغد لتداول الرأي حول عدد من المسائل المتعلقة بالتصعيد الطائفي والعسكري الحاصل في المنطقة، والذي يُعدّ الجزء الأكبر منه صناعة أمريكية بصياغة صهيونية، تدبرها العقلية التي لا تزال تحكم أمريكا الآن، وهي عقلية المحافظين اليهود الجدد، ومن هذه الوقفات والتساؤلات:
أولاً: المعركة بين أهل السُّنّة والشيعة في جوهرها اعتقادية وليست عسكرية فليس مجرد أن الشيعة مبتدعة ـ مهما كان الغلو في بِدَعِهم ـ كافياً لأن يكونوا على قائمة الأولوية في الحرب العاجلة من أهل السُّنّة، وإلا كان كل صاحب اعتقاد فاسد محلاً لحرب المسلمين وجهادهم، وهو ما يجمع عليهم أمم الأرض جملة واحدة. ثم إن فساد اعتقاد الشيعة ليس جديداً كي يسوِّغ لنا الآن الدخول معهم في حرب طاحنة إلى جانب الأمريكان. وإذا كانت المعركة معهم عقدية في الأساس، فإن مجالها لا يزال هو البيان والحجة واللسان؛ فهذه وسيلة جهاد مَنْ لهم شَبَه بالمنافقين والزنادقة. ولكن التساؤل هنا هو: ألا توجد وسيلة لتفادي الصدام المدمر معهم الآن، في حرب لا يبدو أن أهل السُّنّة في كامل الجاهزية لها، وليس وارداً العزم على حسمها، وبخاصة أن الشيعة في العالم يُقَدَّرون بعشرات الملايين، ولا يمكن إفناؤهم إلا بأضعاف أعدادهم من أهل السُّنّة؟!
ثانياً: صحيح أن الخطر الشيعي على أمن المنطقة ـ وبخاصة منطقة الخليج ـ هو خطر صاعد إلى التنامي والتمدد، وهو ذاهب إلى اتجاه الصِّدام، لكن الجزء الأكبر منه هو قضية تخص أمريكا وإيران، فلماذا يُقحَم أهل السُّنّة فيه مبكراً؟! فلتحارب أمريكا من تشاء من أعدائها ومنافسيها على الثروة والنفوذ، ولكن أليس من حقنا أن لا يكون ذلك بأرواحنا وأموالنا وسلامة أراضينا؟ وهل من المحتّم على ساسة المنطقة أن يتحالفوا مع أمريكا في أي حرب تقرر خوضها في الزمان والمكان الذي تريده؟!
ثالثاً: الشحن المذهبي، والحقد الطائفي الذي أفرزه شعور الشيعة بنشوة الانتصار الكاذب، يجب ألاّ يجبرنا أو يجرنا إلى سلوك مشابِه؛ لأنَّ مآل ذلك هو إلى الصِدام الحتمي على المستوى الإقليمي، مثلما آلَ الأمر على المستوى المحلي في العراق على غِرَّةٍ من أهل السُّنّة، وإعدادٍ واستعدادٍ من الشيعة. أوَ ليست هناك وسيلة ـ من جانبنا على الأقل ـ إلى العودة إلى تسكين زوابع الاحتراب المذهبي المفضي إلى معركة لا حاجة لها ولا ضروره إليها ولا فائدة منها إلا للحريصين على إضرام نارها من اليهود والنصارى المتربصين بالطرفين؟! ألا يمكن التصبّر عن منازلة الشيعة، ريثما يكون عندنا ما عندهم (مثلما يقال دائماً عن المواجهة مع دولة اليهود) ؟! أليس من الأحرى بدول وشعوب أهل السُّنّة، وبخاصة دول الجوار، أن يتفادوا الصدام الآن، حتى يتملّكوا ما يمكن أن يكون سلاح ردع مكافئ، مثلما فعلت باكستان مع الهند، وروسيا وكوريا مع أمريكا؟!
رابعاً: قوة الشيعة وتغوّلهم ليس في صالح السواد الأعظم من الأمة بداهة، والمد الشيعي هو دائماً حسم من المدّ الإسلامي الصحيح، ولكن تَقَوِّي الشيعة وصعودهم ـ بما في ذلك البرنامج النووي ـ لا بد أن يُضارَع بقوة تُبنى على علم واقتدار قبل أن يُضارَع من موضع ضعف وانكسار. ولا يعني هذا الدعوة للتقارب معهم على دَخَنٍ منهم وتَقِيَّة، ولا للتهوين من خطرهم، على حساب سلامة المعتقَد وسلامة الأرض والعرض؛ ولكن الخوف كله من الاستجابة لداعي العجلة، التي كثيراً ما تكون من الشيطان.
خامساً: جزء مهم من المعركة مع التشيع المغالي، هو في الجانب السياسي، وساسة الشيعة الإيرانيون قد أظهروا حنكة وقدرة عالية على التعامل مع الموازنات والتطورات العالمية، وهم في غالبيتهم جماعة من الدينيين خريجي الحوزات والجامعات الدينية، ولم يمنعهم ذلك من تناول الشأن السياسي والتعاطي معه. فلِمَ تُترك قضايانا المصيرية نحن ـ أهل السُّنّة ـ بيد حفنة من الخبراء العلمانيين والساسة اللادينيين، الذين يُصرّون على فصل السياسة عن الدين إلى الأبد، مُضَحّين بالسياسة وبالدين معاً؟! ألم يحن الأوان أن يفرض الإسلاميون ـ نوابُ الأمة الحقيقيون ـ رؤيتهم في قضايا أمتهم، عبر الوسائل التي تفرضها إمكاناتهم وحجمهم الأكبر في الأمة؟ ولماذا يسوس الشيعةَ علماؤهم وحكماؤهم، بينما يساس السُّنّة بعكس ذلك؟!
سادساً: ألا توجد هناك طريقة لإقناع المتنفذين في بلاد العرب والمسلمين، بأن أمريكا لو عزمت على ضرب إيران ِلحِفْظِ مصالحها، فسوف تضربها سواء بهم أو بغيرهم؟ فلماذا تسوقنا نحن سَوْقاً ـ كما فعلت من قبل ـ إلى حرب ستستفيد هي منها في كل شيء، ولن يستفيد المسلمون منها بأي شيء؟! ألا توجد صيغة لتفادي تكرار اللدغ من الجُحر نفسه؟
وأخيراً: إن الولايات المتحدة على شفا سقوطٍ مدوٍّ إلى هاوية التراجع والانعزال، وربما التفكك والانحلال؛ فلماذا نقدم لها نحن طوق النجاة؟ ولماذا يتعامل بعض السياسيين معها وكأنها ستظل في كامل قوتها، مع أنها في أخطر منحنيات ضعفها؟!
إن الصبر على سقوط أو إسقاط الصنم الأمريكي المتمايل في العراق وغيره، أهون وأقل تكلفة وأعلى فائدة من المسارعة إلى اقتحام الفخ الإيراني الأمريكاني الملغم بالمواجهات والمفاجآت، وإن تمكين الأمريكان من اتخاذنا عصا مرة أخرى لضرب أعدائها سيقويها ويقوِّضنا. ولهذا فإن من واجب المسلمين جميعاً أن يرفضوا أن يكونوا عَصا بيد أولئك العُصاة المردة؛ بل من المفترض عليهم أن ينزعوا كل عصا بيد أمريكا أو غيرها، ليحرموها منها أو يضربوها بها؛ حتى تبتعد عن شؤون المسلمين وتخرج من بلادهم، وهذا ما فعله المجاهدون في العراق بهم، فيما نحسبه دفاعاً عن أنفسهم وأعراضهم ودينهم؛ وهو حق كفله الباري ـ جل وعلا ـ بقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٩٤] .
فتحيةً لهم وهم يرفعون الإثم عن الأمة كافة! والله المستعان.