للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإدارة الأمريكية الجديدة والشرق الأوسط]

د. باسم خفاجي

أثبتت الانتخابات الأمريكية الأخيرة حدوث تغيرات هامة في موازين القوى التي تحرك السياسة الخارجية الأمريكية؛ فرغم أن فوز الرئيس بوش كان متوقعاً إلا أن أسلوب الفوز ونسبة النجاح والقوى التي ساندت الحملة الانتخابية كلها تشير إلى تنامي تيار جديد على الساحة السياسية الأمريكية، يفرض الصورة التي يراها ليس فقط للأولويات الأمريكية، وإنما لمستقبل العالم. ويهدف هذا المقال إلى استشراف آثار الانتخابات الأمريكية على المواقف السياسية تجاه الأمة العربية والإسلامية، وكيف ستتعامل الإدارة الأمريكية الجديدة مع الأزمات الراهنة التي تكونت خلال الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الأمريكي الحالي، وتشكل تصاعداً حاداً

- الانتخابات.. ورؤية حول أسلوب الإدارة الجديدة:

تشهد الأعوام الأخيرة تشابك وتضارب الاهتمامات والمصالح الأمريكية والعربية بدرجة لم تحدث من قبل في تاريخ العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين العالم العربي. لقد أصبح الوجود الأمريكي في المنطقة مباشراً وملموساً سواء من الناحية العسكرية، أو من محاولات الهيمنة، أو الرغبة الأمريكية في فرض نموذج إصلاح غربي على شعوب المنطقة ودولها. فلا عجب أن أصبحت نتائج الانتخابات الأمريكية من القضايا التي تمسّ اهتمامات قطاعات كبيرة من الأمة.

لقد أظهرت الانتخابات الأمريكية الأخيرة جانبين هامين على الساحة السياسية الأمريكية:

الأمر الأول: هو التناغم والتعاون بين مجموعة من التيارات اليمينية والدينية من أجل مساندة الرئيس (جورج بوش) ، ودعم استمرار سياساته التي ينتقدها معظم قادة العالم. وهذه القوى السياسية الانتخابية لم تُعرف من قبل بتعاونها وتكاتفها حول سياسات واحدة بالشكل الذي ظهر جلياً في الانتخابات الأخيرة. وتمثلت هذه القوى في المراكز الفكرية المرتبطة بتيار المحافظين الجدد، وجمعيات التيار الصهيوني النصراني، ودوائر الحزب الجمهوري المعروفة بانتماءاتها اليمينية المحافظة، والشركات المرتبطة بكل من صناعة السلاح والبترول، وبعض وسائل الإعلام الأمريكي المعروفة بتوجهاتها اليمينية. ولأول مرة في التاريخ الأمريكي الحديث يتم انتخاب الرئيس من خلال تصعيد مشاعر الارتباط بالدولة الأمريكية، وإثارة التخوف الأمني من العدو الخارجي، واستدعاء الدين والنواحي الأخلاقية للتسويغ لدور جديد للأمن القومي الأمريكي يمتد خارج حدود القارة الأمريكية، ويمارس نفوذه وسلطته على العالم من أجل خدمة الهوية الأمريكية.

أما الأمر الثاني: فهو موافقة الشعب الأمريكي على السياسات الحالية للإدارة الأمريكية. لقد توقع العالم أن الأمريكيين غير راضين عن السياسات التي يتبعها (جورج بوش) مع العالم بعد أحداث سبتمبر، ولكن الانتخابات أثبتت أن هناك تياراً انتخابياً مؤثراً يرغب في استمرار هذه السياسات، ويعبر عن قطاع كبير في الحياة الأمريكية.

ورغم أن الفوز في الانتخابات الرئاسية لم يظهر وكأنه كاسح؛ فقد حصل منافس الرئيس على ٤٨% من أصوات الناخبين، إلا أن الحقيقة هي خلاف ذلك؛ فالرئيس الأمريكي لم يحصل فقط على ٥١% من الأصوات ـ بزيادة بلغت أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون صوت ـ ولكنه أيضاً حصل على مكاسب أخرى؛ فلقد انتخب الشعب الأمريكي ٥٥ عضواً جمهورياً في مجلس الشيوخ الأمريكي مقابل ٤٤ عضواً ديمقراطياً فقط، وارتفع عدد النواب الجمهوريين في مجلس النواب ليصبح ٢٣١ عضواً في مقابل ٢٠٠ عضو فقط للديمقراطيين.

ولذلك فإن الانتخابات تعتبر تأييداً من نسبة كبيرة من الشعب الأمريكي للمضي قُدُماً في المشروع السياسي المرتبط بالتيار الجمهوري اليميني الذي اتخذ من رئاسة (جورج بوش) فرصة للتعبير عن نفسه في الحياة الأمريكية. وهذا ما عبر عنه (جورج بوش) نفسه بعد الإعلان عن نتيجة الانتخابات؛ ففي أول مؤتمر صحفي بعد الانتخابات قال الرئيس بوش: «لقد اختار الشعب الأمريكي في هذا الأسبوع الاتجاه الخاص بأمتنا للأعوام الأربعة القادمة. ولقد حصلت في هذه الانتخابات على رصيد سياسي ورأسمالي، وإنني عازم على إنفاق هذا الرصيد» (١) .

وستشهد الأعوام القادمة استمرار سياسات الرئيس الأمريكي المؤيد من قبل تيار يتحرك وفق رؤى فكرية واضحة المعالم. هذا التيار يؤمن - كما شهدنا في الفترة الرئاسية الأولى - بالأحادية الأمريكية، وفرض السيطرة على المناطق الاستراتيجية في العالم، وتهميش دور (الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية) ، واستخدام القوة المفرطة في التعامل مع العالم الإسلامي سواء في العراق أو مع الفلسطينيين من خلال (إسرائيل) ، والسعي للتدخل في الشؤون الداخلية الاجتماعية والثقافية والسياسية للعالم العربي بدعوى الإصلاح السياسي ومقاومة تنامي الإرهاب.

- التغير في الاستراتيجيات الأمريكية:

شهدت الأعوام الأربعة الماضية تغيرات حقيقية في الاستراتيجيات الأمريكية تجاه التعامل مع العالم. وقد كتب عن ذلك المفكر الأمريكي (جون لويس جاديس) في دورية «شؤون خارجية» ؛ فقال: «لقد قاد الرئيس الأمريكي (جورج بوش) أكبر عملية إعادة تصميم للسياسات الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة منذ عهد الرئيس السابق (فرانكلين روزفلت) . لقد كان أساس التغيير الاستراتيجي الذي قاده (جورج بوش) هو الأساس نفسه الذي استند عليه روزفلت، وهو صدمة المفاجأة لهجوم مباغت، وهذه الاستراتيجيات لن تتغير. لم يتمكن أي رئيس بعد روزفلت - ديمقراطي كان أو جمهوري - من التهرب من مواجهة الدرس المستخلص من يوم ٧ ديسمبر ١٩٤١ [الهجوم على بيرل هاربر] . لقد كان الدرس أن التباعد الجغرافي لم يكن كافياً لحماية أمريكا من الهجوم على يد دولة معتدية. ولن يملك بوش أو من سيأتي بعده من أي حزب كانوا أن يتجاهلوا ما أوضحته أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١م، من أن الدفاعات العسكرية ضد هجوم متوقع من دولة ما لا تقدم حماية كافية من الهجوم الذي يتم بواسطة عصابات، والذي يمكن أن يسبب من الدمار ما كانت الدول فقط قادرة على القيام به في السابق من خلال الحروب» (١) .

- الاستراتيجية الخارجية الأمريكية القادمة:

لقد تسببت نتيجة الانتخابات الأمريكية في توجس قادة الدول الغربية من استمرار إدارة الرئيس الأمريكي في السير على الدرب نفسه الذي شكل تحدياً للكثير من دول العالم النامي، ومنطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. وبما أن فوز أي رئيس أمريكي بفترة رئاسية ثانية يعتبر في نظر الكثيرين إقراراً وتفويضاً له بالاستمرار في السياسات والبرامج التي انتهجها في الفترة الرئاسية الأولى؛ فإن من المتوقع أن تجمع السياسة الأمريكية في التعامل مع العالم بين عناصر أربعة تشكل مزيجاً يثير القلق لدى المراقبين. وهذه العناصر هي:

١ ـ الهيمنة على المناطق الاستراتيجية:

اهتمت الإدارة الأمريكية في الفترة الرئاسية الأولى ببسط نفوذها العسكري على أكثر من منطقة من مناطق العالم التي تمثل محاور استراتيجية هامة. وبرز الوجود العسكري في كل من أفغانستان والعراق ليؤكد أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تنوي الانسحاب من أي من تلك المناطق في الزمن القريب، بل هناك نية لتقوية الوجود العسكري من خلال شبكة من القواعد العسكرية واتفاقات الدفاع المشترك مع عدد من دول المنطقة تسمح للجيش الأمريكي بالتحرك بحرية واسعة في تلك المناطق. كما تتدخل الإدارة الأمريكية مؤخراً في شؤون الدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفييتي السابق في مناورة واضحة لتحجيم التأثير الروسي على تلك المناطق. وكانت الانتخابات الأخيرة في (أوكرانيا) دليلاً واضحاً أن الولايات المتحدة ستسعى إلى مد نفوذها الاستراتيجي إلى تلك المناطق.

٢ ـ الانفراد بالقرار العالمي:

ستميل الإدارة الأمريكية القادمة إلى الانفراد بالقرارات التي تهم مستقبل العالم، وستسعى إلى تهميش دور المؤسسات الدولية، أو الحاجة إلى موافقتها أو التعاون معها في القضايا العالمية. وقد أبرزت أحداث الطوفان الذي أصاب جنوب شرق آسيا في بداية العام هذه النزعة لتهميش الأمم المتحدة من خلال قيام الولايات المتحدة بتقديم المعونات، وتحديد أولوليات إغاثة المناطق المنكوبة من خلال دوائر صنع القرار الأمريكي دون استشارة أو إشراك الأمم المتحدة.

٣ ـ استمرار توجهات التطرف اليمينية:

لقد حرص الرئيس الأمريكي أن يبين أن برنامجه الانتخابي سيمضي قدماً في برنامج ما يسمى بمكافحة الإرهاب، أو شن للحروب الاستباقية، أو ترك إسرائيل تفعل ما تراه لازماً لإخماد مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال؛ ولذلك فمن المتوقع أن تستمر هذه السياسات، وتأخذ منحى أكثر تطرفاً بما أن الشعب الأمريكي قد أقر ضمناً بموافقته على هذه السياسات من أجل حماية مصالح أمريكا أو أمنها الداخلي.

٤ ـ الانعزال عن العالم:

ستتسبب السياسات الاستراتيجية السابقة في المزيد من العزلة عن العالم. وقد ترى الإدارة الأمريكية أن هذا الانعزال عن العالم ليس مفيداً فقط باعتباره نتيجة أو محصلة للسياسات الاستراتيجية، ولكنه قد يكون مطلباً استراتيجياً في حد ذاته. فالانعزال عن العالم يقوي من رابطة المواطنة والهوية الأمريكية؛ فالآخر هنا هو بقية العالم، وليس دولة بعينها. ويغذي مثل هذا التوجه من قوة التيارات اليمينية المتطرفة، ويعطيها المزيد من الشرعية السياسية.

كما أن الانعزال عن العالم يقلل من احتمال تعرض أمريكا لضربات أمنية موجعة على غرار ما حدث في ١١ سبتمبر ٢٠٠١م؛ ولذلك فإن الإدارة الأمريكية الجديدة مستمرة في التضييق على المسافرين إلى أمريكا من معظم أنحاء العالم. وتصدر وزارة الخارجية الأمريكية إنذارات متتالية لرعاياها ومواطنيها بالابتعاد عن السفر إلى العديد من دول العالم.

كما أن الانعزال عن العالم سيقلل من حدة الانقسام القائم داخل المجتمع الأمريكي بين من يعارضون التوجهات اليمينية المتطرفة للإدارة الأمريكية، وبين من يرون أهمية الانفتاح على العالم، وعدم التصادم مع الأصدقاء. ويرى بعض المفكرين في الإدارة الأمريكية أن من شأن رفع وتيرة الخوف الأمني أن تقلل من حدة هذا الانقسام؛ لأن الخطر - تبعاً لتصورهم - يهدد الولايات المتحدة بأكملها، ولا بد من الالتفات حول الرئيس في أوقات الأزمات، وكذلك فليست أمريكا في حالة أمنية تسمح لها بالانفتاح على العالم.

- السياسة الأمريكية تجاه أزمات الشرق الأوسط:

قامت الحكومات العربية بتأييد حملة الرئيس الأمريكي لإعادة انتخابه لأسباب متنوعة، ولكنها في مجملها كانت تهدف إلى استرضاء الإدارة الأمريكية أكثر من مواجهتها. وبعد نجاح الرئيس في الحفاظ على مقعده الرئاسي؛ فمن المتوقع ألا يلتفت لهذه الحكومات؛ لأنها في نظر الإدارة الأمريكية غير قادرة على تنفيذ المخططات الأمريكية، وغير قادرة أيضاً على الحفاظ على استقرار شعوب المنطقة. ومن أجل ذلك ستشهد الفترات القادمة توترات متعددة على صعيد العلاقات الأحادية للدول العربية مع الإدارة الأمريكية من ناحية، وعلى تصعيد متعمد من الإدارة الأمريكية بهدف إحراج هذه الدول مع شعوبها لتسويغ المضي قدماً في مشروع التدخل الأمريكي في شؤون المنطقة بدعوى الإصلاح. وفيما يلي استشراف لمواقف الإدارة الأمريكية من الأزمات الراهنة للشرق الأوسط.

- العراق:

إن السياسة الأمريكية في العراق - في هذه المرحلة - تقوم على أربع ركائز أساسية: الأول هو تهميش دور المقاومة العراقية، والثاني هو التصدي للمعارضة الدولية للاحتلال، والثالث هو القضاء على المقاومة العسكرية بشكل تام، والرابع هو المضي في مشروع التغيير الديمقراطي للمنطقة بانتخاب حكومة صديقة تتولى (التبشير بالإصلاح الأمريكي القادم) .

وقد اتخذ الرئيس الأمريكي فور الإعلان عن نجاحه سياسة أكثر دموية وحزماً تجاه المقاومة العراقية. وتبدو علامات الاقتباس من السياسة الإسرائيلية في التعامل مع الانتفاضة واضحة للمراقبين؛ فقد بدأ الجيش الأمريكي في إظهار الاستعمال المفرط للقوة، وإعدام الجرحى والمصابين، وهدم المنازل وقصفها جواً دون اعتذار، واختراق المدن بشكل دوري، وعدم مراعاة حرمة المساجد أو دور العبادة أو خصوصية المنازل (١) . ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية تريد المضي قدماً في مشروع الانتقام من المقاومة، وعدم إعطائها أي شرعية، ومحاولة جر أقدام بعض الدول العربية للتعاون الأمني مع الاحتلال.

وستهدف الإدارة الأمريكية إلى تحجيم المقاومة العسكرية في العراق، وإظهارها على أنها مقاومة سنية، ومن ثم عزل الطوائف الأخرى عن المقاومة، وإشغالها بالانتخابات والمناصب الجديدة الشاغرة لحكم العراق. وسيتطلب ذلك زيادة في الاعتمادات المالية، وقد يضطر الرئيس أيضاً إلى زيادة عدد القوات العسكرية الموجودة بالعراق لضمان إضعاف المقاومة إلى أقصى حد ممكن.

أما من ناحية الانتخابات التي تمت، فإن الولايات المتحدة تهدف إلى استخدامها ذريعة لتحقيق نصر إعلامي بأن الديمقراطية قد بدأت في العالم العربي من بغداد، وأن الاحتلال ليس إلا وسيلة لفرض الديمقراطية التي ستأتي بالرخاء والسلام لشعوب المنطقة. كما ستسعى الإدارة الأمريكية إلى إيجاد حكومة صديقة للولايات المتحدة في العراق؛ بحيث تتولى هذه الحكومة التعبير عن اهتمامات واحتياجات الإدارة الأمريكية من العراق، سواء في النواحي الاقتصادية أو الاستراتيجية. كما ستستخدم الحكومة العراقية التي سيتم انتخابها للضغط على باقي الدول العربية من أجل المزيد من التطبيع مع دولة (إسرائيل) ، وكسر حدة المقاطعة العربية لمشروعات التعاون مع العدو الصهيوني.

إن أمريكا قد وقعت في مستنقع سياسي واستراتيجي باحتلالها العراق. والمشكلة أن الإدارة الأمريكية لن تقبل بالانسحاب لتقليل الخسائر البشرية، والحفاظ على ما تبقى من رصيد الاحترام العالمي؛ لذلك ستستمر الإدارة الأمريكية في المواجهة المسلحة مع المقاومة العراقية بهدف إخمادها تماماً، وتحقيق ما يمكن أن يسمّى انتصاراً على الإرهاب. المؤسف أن الكثير من الكتاب الغربيين المرتبطين بالمراكز الفكرية يدعمون الاستمرار في هذا المستنقع. كتبت الباحثة الأمريكية (آيمي ريدونوار) في دراسة صدرت عن المركز القومي لداسات السياسات العامة قائلة: «إن انتخابات أفغانستان كانت نجاحاً منقطع النظر، والعراق قادمة في الطريق ـ نفسه ـ. إننا اليوم في أمان أكثر مقارنة بالماضي، وسنصبح أكثر أماناً إذا حافظنا على هذه السياسات» (٢) .

وفي المقابل فإن هذا المستنقع السياسي والعسكري سيظهر مدى ضعف الجيوش في مواجهة المقاومة المحلية، وسيعطي ذلك المزيد من الانتصار الإعلامي للمقاومة التي تعتبر أن كل ضربة عسكرية موجهة ضد الاحتلال تسهم في تحقيق هزيمة استراتيجية يُمنى بها. والعناد الأمريكي في عدم الانسحاب دون تحقيق نصر كامل سيشعل المزيد من المقاومة، ويسبب المزيد من الصفعات الاستراتيجية التي ستتلقاها الإدارة الأمريكية جراء بقائها في العراق. إن بعض الكتابات الأمريكية أصبحت أكثر واقعية في التعامل مع مستقبل هذا الاحتلال. ففي افتتاحية مجلة «بيزنيس ويك» Business Week، وهي مجلة معروفة برصانتها واهتماماتها الاقتصادية المتخصصة، كتب رئيس التحرير: «نعم! قد ننتصر في الفلوجة، ولكن ماذا بعد؟ إن علينا أن نبدأ في التساؤل: ما هو الحد الأدنى من النجاح الذي يكفي لنا لكي نخرج من العراق؟ إن النظرة (البراجماتية) تحتم أن يكون ذلك هو استقرار العراق. أما حلم الديمقراطية التي ستكون مماثلة للديمقراطيات الغربية فقد يكون الأوْلى أن تنتظر. إن علينا أن نتقبل الآن أن المسلمين ينظرون إلى أفعالنا في العراق من خلال رؤيتهم للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. إن العودة إلى التفاوض كشريك في مشروع السلام بين الطرفين سيقوي من تأثير أمريكا على الشرق الأوسط» (١) .

- فلسطين:

لم تحظ القضية الفلسطينية بأي اهتمام يذكر للإدارة الأمريكية في الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الأمريكي. ومع التجديد لفترة رئاسية ثانية، ووفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، والرغبة الأوروبية الملحة في المضي قُدُماً في حل سلمي للصراع حول فلسطين؛ فقد يظهر أن الإدارة الأمريكية ستواجه ضغوطاً كثيرة لتحريك ملف القضية. ولكن الإدارة الأمريكية القادمة لن تضع أية قيود على حكومة شارون، ومن ثم فإن السلام لن يصبح اهتماماً أساسياً لها، وإنما ستسعى الإدارة إلى تحريك المفاوضات في اتجاه المزيد من الضغط على الفلسطينيين للقبول بما ستقدمه لهم (إسرائيل) . ولن تسعى الإدارة الأمريكية القادمة إلى لعب دور الشريك العادل في السلام لعدم قناعتها بالحاجة إلى أن تلعب مثل هذا الدور في ظل الضعف العربي، وإمكانية السيطرة على المقاومة الفلسطينية من خلال الضغط المستمر على الرئيس الفلسطيني المنتخب.

ولعل من ملامح التغيير القادم أن الإدارة ستهتم أكثر بالحديث عن قضية فلسطين، بدلاً من الفعل؛ فهذا أسهل وأقل كلفة وأقرب إلى المزاج العربي الذي يبحث عن أية تصريحات تهدئ من الغضب الشعبي العام. فالمتابع لتصريحات الرئيس الأمريكي بعد انتهاء الانتخابات يرى أنه ذكر السلام في الشرق الأوسط أكثر من مرة. ولعل من أهمها عندما ذكر في حوار صحفي مع جريدة إسرائيلية قبل نهاية عام ٢٠٠٤م ما نصه: «أودّ أن تعرفوا أنني سأبذل الكثير من الوقت، والكثير من التفكير العميق لكي يتحقق أخيراً سلام دائم بين (إسرائيل) وبين الفلسطينيين. إنني على قناعة أنه خلال الفترة الرئاسية هذه سوف أتمكن من تحقيق السلام» (٢) .

ولعل الهدف الحقيقي - وغير المعلن - للإدارة الأمريكية في المرحلة القادمة تمهيداً للسلام سيكون «تصفية الانتفاضة الفلسطينية» ، ليس فقط بإطلاق يد (إسرائيل) لفعل ما تراه مناسباً لذلك، وإنما بالتضييق على الجهود الإعلامية التي تهدف إلى إبراز القضية بصورة أقرب إلى العدالة - كما حدث مع قناة المنار، ومنع تدفق المال أو المعونات إلى الشعب الفلسطيني إلا من خلال برامج حكومية يسهل التحكم فيها، ومحاولة تغيير البنية الفكرية العربية التي لا تزال ترى في المقاطعة ومعاداة الكيان الصهيوني حقاً ومطلباً ورغبة. وسيتم إحراج العديد من الدول العربية للقيام بتغييرات جوهرية في وسائل إعلامها، ومناهجها الدراسية، وما يبث عبر منابرها؛ من أجل استبدال العداء للكيان الصهيوني بنوع من التسامح معه، أو على الأقل السكوت عن جرائمه.

إن الإدارة الأمريكية الحالية تعتقد أن العنف الإسرائيلي الموجه ضد الشعب الفلسطيني يخدم أهدافها من ناحية أخرى: وهي أن هذا العنف يؤدي إلى مزيد من الخضوع العربي للولايات المتحدة الأمريكية، ومزيد من القبول بالحلول الأمريكية في المنطقة من أجل وهم أن أمريكا ستسهم في تخفيف وطأة العنف الإسرائيلي. إن ما يحدث هو مخطط كتب عنه أنصار المحافظين الجدد في الكثير من أدبياتهم، وهو أن السلام والأمن لن يتحققا في العالم إلا عندما يفقد الفلسطينيون والعرب كل أمل في أي نتيجة إيجابية للمقاومة أو لاستخدام السلاح في مواجهة الغير. لقد ذكر الرئيس الأمريكي مؤخراً: «إن أحد المفارقات العجيبة في الحياة أن دولة فلسطينية وأخرى عراقية سيصبحان نواة التغيير في هذا الجزء من العالم الذي يحتاج إلى أن يتغير. إنها سياستنا الخارجية على الأقل أن يتم هذا التغيير» .

ولذلك فستشهد الأعوام القادمة محاولات مستمرة للتجريد التام للأمة من أي مصادر للقوة الحقيقية، أو أي دوافع أو رغبات لاستخدام القوة، وتكريس مستمر لفكرة أن القوة لا تجدي، وأن المقاومة عنف، وأن العالم لن يسمح إلا بالتفاوض وسيلة لحل أي نزاع في المنطقة.

- محور الشر (إيران - سوريا) :

اتخذت الحكومة الأمريكية في الأعوام الماضية مواقف تبدو في ظاهرها التشدد تجاه كل من سوريا وإيران، وأسماهما الرئيس الأمريكي (جورج بوش) «محور الشر» ، ومارست الإدارة الأمريكية ضغطاً واضحاً على الوجود السوري بلبنان، وإيواء سوريا لعدد من قيادات المقاومة الفلسطينية، وعدم إذعانها بدرجة كافية لمشروع السلام مع دولة (إسرائيل) ، وعدم ترحيبها بمشروع الإصلاح الذي تبنته الإدارة الأمريكية.

ومن المتوقع أن تستمر الإدارة الأمريكية في الضغط على سوريا دون اللجوء إلى الحلول العسكرية حتى لا تتفاقم مشكلات المقاومة التي بدأت في العراق. ولكن الإدارة الأمريكية ستسعى إلى التدخل بشكل أكثر وضوحاً في ملف الوجود السوري في لبنان، وسيستخدم ذلك ذريعة لضرب قوة (حزب الله) في كل من لبنان وسوريا. وفي حوار للرئيس الأمريكي مع صحيفة (يديعوت أحرينوت) الإسرائيلية بعد إعادة انتخابه، ذكر الرئيس الأمريكي: «إن سوريا دولة ضعيفة للغاية، ولذلك لا يمكن الوثوق بها. وفي هذه المرحلة فإن على الأسد أن ينتظر، سنبدأ أولاً بالسلام بين (إسرائيل) وبين فلسطين، وبعد ذلك سنرى ما يجب أن نفعله مع سوريا» (١) .

أما إيران فستقوم الحكومة الأمريكية باستخدام كل من الملف النووي، وتصاعد التيارات الليبرالية، لزعزعة الاستقرار في إيران، وتشجيع الاضطرابات الداخلية، وإلهاء إيران عن التدخل في شؤون العراق. كما ستواجه إيران حملة إعلامية أمريكية تهدف إلى تخفيف حدة الهجوم الرسمي الإيراني على الكيان الصهيوني، ودعم حزب الله. وليس من المتوقع أن تقوم الإدارة الأمريكية الحالية بأية مواجهات عسكرية مع إيران، ولا يمنع ذلك من الإيعاز إلى الجيش الإسرائيلي بتوجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية بدعم أمريكي غير معلن.

- السودان:

استخدمت الإدارة الأمريكية ورقة الضغط على السودان بسبب المشكلات الداخلية فيها، والمتعلقة بالجنوب ودارفور لليِّ ذراع الحكومة السودانية للحصول على المعلومات فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب، وللضغط على الحكومة السودانية بالصورة التي ترضي التيارات الدينية النصرانية الأمريكية التي ترى أن ما يحدث في السودان هي حرب على النصرانية. كما أن الإدارة الأمريكية تسعى إلى استخدام النظرة القائمة عن السودان كمركز من مراكز التعاطف مع التيارات الجهادية الإسلامية للتقليل من ارتباط الحكومة السودانية بالتصورات الإسلامية. وستبقى الإدارة الأمريكية حريصة على إسقاط نظام الحكم الحالي بالسودان مع إجباره - حتى ذلك الحين - على المزيد من التنازلات فيما يتعلق بالجنوب النصراني!. وستلعب الإدارة الأمريكية مع السودان لعبة العصا والجزرة المعروفة؛ فمن ناحية ستعلن عن رغبتها في مد يد العون للسودان لمواجهة المجاعات والأزمة الاقتصادية، ومن ناحية أخرى ستنادي بتغيير الحكم في السودان بحكم ليبرالي ديمقراطي موالٍ لأمريكا. وستسعى أمريكا إلى إيجاد مزيد من عدم الاستقرار في السودان بهدف الضغط على مصر وإحراجها أمنياً وسياسياً؛ لأن مصر تعتبر أن أمن السودان واستقراره أحد قضايا الأمن القومي المصري.

- الإصلاح:

إن تصورات الرئيس بوش لتغيير الشرق الأوسط ليست فقط مرتبطة بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية أو الإسرائيلية، ولكنها أيضاً تمثل له شخصياً رؤية أيديولوجية، ورهاناًً شخصياً. إنها تمثل حلم هذا الرئيس أن يكون مؤثراً في تغيير العالم من خلال تغيير الشرق الأوسط. ولذلك فإن اهتمام الرئيس الأمريكي (جورج بوش) بدفع مشروعات التغيير الاجتماعي والفكري والسياسي في المنطقة العربية لن ترتبط فقط بمحددات السياسة الخارجية، وإنما ستستمد قوتها خلال السنوات القادمة من رغبة الرئيس الأمريكي نفسه. لقد ذكر الرئيس الأمريكي في خطاب سابق له ما نصه: «إن الأحداث في الشرق الأوسط الموسع ستحدد مَنِ المنتصر في الحرب على الإرهاب، ولن يتحقق السلام الدائم في العالم إلا عندما نتعامل مع العوامل التي سببت ظهور الإرهابيين، ويستلزم هذا شرقاً أوسطياً من نوع جديد» .

سيؤدي ذلك الموقف الفكري في الغالب إلى استماتة في تحقيق الأهداف حتى لو لم تكن واقعية أو ممكنة، ورفض لكل محاولات تحجيم المشروع الأمريكي الخاص بالشرق الأوسط، وإبعاد للمنافسين من ساحة التأثير على المنطقة، والمقصود هنا الاتحاد الأوروبي، ومعاونة (إسرائيل) في استثمار وجودها الجغرافي في المنطقة لتحقيق مكاسب سياسية تخدم الرؤى الأمريكية في تغيير المنطقة، وتحجيم التأثير الإسلامي أو القومي على شعوبها. ويستخدم الرئيس الأمريكي سخريته المعتادة في الاستهزاء بمواقف من يرون أن التغيير في الشرق الأوسط ليس بالبساطة التي يطرحها فيقول في أحد المؤتمرات الصحفية له: «أن هناك تصوراً في العالم من قِبَل بعضٍ أنه من تضييع الأوقات أن نحاول الدعوة إلى مجتمعات متحررة في ذلك الجزء من العالم (الشرق الأوسط) . لقد سمعت مثل هذا الانتقاد. وأنا متفهم تماماً أن هذا الأمر يمكن أن يربك بعضاً، ويمكن أن يراه بعضهم الآخر غباء» (١) .

إن التشدد في التعامل مع العالم العربي قد يصبح هو السمت العام للإدارة الأمريكية القادمة، فقد صرح (كولن باول) قبل مغادرته لمنصب وزير الخارجية أن الولايات المتحدة الأمريكية ستستمر في سياساتها الهجومية. كما أن اختيار (كونداليزا رايس) سيقوي من تيار التشدد في التعامل مع العالم العربي لقربها الشديد من دوائر المحافظين الجدد، وتأثرها بالخط اليميني المتشدد.

- التعامل مع الإسلام:

يرى المحافظون الجدد أن الإسلام يمثل خطراً على سيادة أمريكا وتفردها في عالم الغد. وتسهم التوجهات الدينية للرئيس الأمريكي في دعم الأفكار التي تخطط لمواجهة ما يسمى بـ «التطرف الإسلامي» . وقد أظهرت أحداث العالم في السنوات الأخيرة أن الإسلام يمثل تحدياً حقيقياً للهيمنة الأمريكية على العالم. ويؤكد الكثير من المفكرين المرتبطين بالإدارة الأمريكية أن التحدي الذي يواجه مشروع إتمام السيطرة على العالم اقتصادياً وسياسياً وفكرياً أيضاً سيواجه خصماً شرساً يستمد رصيده الثقافي والعقدي من تعاليم الإسلام.

ولذلك تدعم الإدارة الأمريكية العديد من البرامج التي تهدف إلى التخفيف من أثر الإسلام على الحياة اليومية في العالم الإسلامي. ومن ذلك تغيير المناهج الدراسية، وتحجيم ما ينشر في الفضائيات مما يمكن أن يعتبر معادياً للسامية أو مخالفاً للقيم العالمية، ومن ذلك أيضاً الضغط على الحكومات من أجل تحييد المسجد، وإتاحة فرصاً متساوية للجميع في التعبير عن رؤيتهم لدين الإسلام، وعدم الحجر على أي فكر بدعوى المساس بمسلَّمات عقدية بعينها. كما أن الإدارة الأمريكية تسعى بشكل واضح إلى استبدال كل جمعيات العمل الإغاثي الإسلامي أو المؤسسات الخيرية بمؤسسات محلية لا ترتبط بالدين بدعوى مقاومة الإرهاب.

ونشطت في الفترة الأخيرة كتابات المفكرين المرتبطين بالإدارة الأمريكية التي تدعو إلى إعادة شرح الإسلام في ضوء واقع العالم اليوم، وعدم الالتزام بأية تفسيرات سابقة للقرآن. كما تبرز وسائل الإعلام الأمريكية رموز ما يسمى بالتنوير في العالم العربي، ويقصد به في معظم الأحيان الهجوم على الإسلام أو محاولة إقصائه من الحياة العامة للمجتمعات العربية.

ورغم أن تصورات الإدارة الأمريكية الحالية لتغيير الإسلام متنوعة، إلا أنها تصورات يجمعها قاسم مشترك، وهو عدم الاعتماد الكلي على التيارات العلمانية أو الليبرالية العربية للقيام بذلك؛ فهذه التيارات رغم تبنيها للمناهج العلمانية والليبرالية الغربية، إلا أنها - في مجملها - تتوقف عندما يتعلق الأمر بالإسلام كدين. بعضهم يحمل بين جنباته قلباً لا يزال به نور الإسلام.. وبعضهم الآخر يدرك أن المعركة خاسرة، وهناك من لا يرى إشعال الصراع حول الإسلام حتى وإن كان ذلك ما تطلبه أمريكا.

وستشهد الأعوام القادمة لجوء الإدارة الأمريكية إلى أحد طريقين: الأول هو التدخل المباشر لتحقيق الهدف المطلوب من خلال استخدام القوانين الدولية والذراع العسكرية والاقتصادية الأمريكية. أما الطريق الآخر فهو الضغط المباشر على الدول والحكومات العربية والإسلامية لاتخاذ ما تراه أمريكا من خطوات لتحقيق الهدف المطلوب وهو تغيير الإسلام. كما ستستخدم السفارات الأمريكية ومؤسسات المعونة والجمعيات الأمريكية المتواجدة في المنطقة للمساهمة بشكل عملي ومكشوف في هذا البرنامج.

- أمريكا والقوى الدولية الأخرى:

تسعى أمريكا إلى إضعاف تأثير القوى العالمية الأخرى لضمان استمرار الهيمنة الأمريكية. ويرى الكثير من المحللين السياسيين الأمريكيين أن الصراع الحقيقي الذي يدور خلف الكواليس ليس هو الصراع مع الإرهاب، وإنما هو مواجهة تنامي قوة كل من أوروبا والصين اللتين أصبحتا تشكلان مصادر إزعاج مستمر للولايات المتحدة في أروقة المنظمات الدولية، وفي التأثير على مجريات الأحداث العالمية. فقد أظهر الاتحاد الأوروبي بروداً وممانعة مستمرة في مواجهة مشروع احتلال العراق، وأربك ذلك الحكومة الأمريكية، وأفقدها الشرعية الدولية التي كانت تحتاجها لتسويغ الأعمال العسكرية. كما أن موقف الاتحاد الأوروبي المتعاطف مع حقوق الشعب الفلسطيني يعيق من تكوين إجماع دولي يخدم الكيان الصهيوني.

وفي تحليل لمواقف الدول الغربية بعد الانتخابات الأمريكية، ذكرت مجلة وورلد برس World Press في أحد أعمدة الرأي بها أن الاتحاد الأوروبي يرى أن إعادة انتخاب (جورج بوش) ستؤدي إلى «زيادة الاحتكاك عبر الأطلنطي، وستجعل الأوروبيين يتساءلون عما إذا كانت هناك أية قواسم مشتركة لهم مع الحليف الأمريكي، وعلق على ذلك أحد المحللين البارزين في مركز السياسات الأوروبية في بروكسل قائلاً: إن إعادة انتخاب (جورج بوش) سوف تؤدي إلى زيادة مظاهر معاداة أمريكا في أوروبا» (١) .

أما الصين فقد أصبحت دولة دائنة للولايات المتحدة الأمريكية، وهي تمثل أقوى محركات الاقتصاد العالمي في الأعوام القادمة، وتتمتع بأعلى معدل نمو في الدخل القومي في العالم، ومن ثم فهي مؤهلة للعب دور بارز خاصة فيما يتعلق بالسياسات الأمريكية تجاه منطقة جنوب شرق آسيا. ومن المتوقع أن تبدأ الصين في ممارسة ضغوط مباشرة على الإدارة الأمريكية في الأعوام القادمة لما يخدم مصالحها. في افتتاحية جريدة (آسيا تايمز) ، كتب محرر الجريدة بعد إعلان نتائج الانتخابات: «اربطوا الأحزمة، فالطريق سيكون وعراً، تحكُّم كامل في الرئاسة ومجلس الشيوخ والنواب، موافقة من الشعب. أربع سنوات قادمة، ومن المحتمل أيضاً أربع حروب قادمة» (٢) .

- القوة أم التعاون؟

إن القوة العسكرية الأمريكية ليست كافية لإدارة صراعات العالم مهما بلغت قوتها، أو حتى الحماقة في استخدامها. فالعالم اليوم يقوم على مجموعة كبيرة من التوازنات، ويرتبط بالتعددية أكثر بكثير من ارتباطه بالانفرادية، حتى لو كانت أمريكا هي التي تمارس تلك الانفرادية. كتب عن ذلك المفكر الأمريكي (جون لويس جاديس) ، فقال: «إن من السهل أن نتجاهل ما حولنا؛ فإن أمة بقوة الولايات المتحدة لا تحتاج أن تهتم برأي الآخرين فيها. ولكن هذا ببساطة خطأ. ولكي نرى لماذا؟ فلنقارن بين مساحة التأثير الأمريكية مقارنة بالسوفييتية في أوروبا خلال الحرب الباردة. أمريكا كانت دائماً تعمل في إطار قبول الأوروبيين لها. أما الثانية (الاتحاد السوفييتي) فلم تفعل، وسبَّب ذلك تأثيراً سلبياً ضخماً بصرف النظر عن القوة العسكرية التي يمكن أن يستخدمها كل طرف في المنطقة. إن الدرس هنا واضح: لكي يستمر التأثير؛ فليس المطلوب فقط هو القوة، ولكن أيضاً عدم الممانعة، أو عدم الاحتكاك» (٣) .

لقد أثبتت المقاومة العراقية أن السلاح وحده لا يكفي لإدارة شؤون العالم وفرض الحلول الأمريكية على الشعوب. ولن يستطيع العالم الاستمرار في تجاهل تبعة الحماقات العسكرية والسياسية للإدارة الأمريكية. ولذلك فإن الصورة قد تشتد قتامة في العامين القادمين، ولكن من المتوقع أن ينشأ خلالها تحرك دولي واسع يحد من أحلام الإدارة الأمريكية في السيطرة على المناطق الاستراتيجية في العالم، أو تغيير الظروف الاجتماعية والثقافية للشعوب لتصبح أكثر تماشياً مع رغبات أصحاب المصالح والتوجهات الفكرية الأمريكية.

- السنوات الأربع القادمة:

إن المراقبين للسياسات الأمريكية في الفترات الرئاسية الثانية لأي رئيس أمريكي يُجمعون أن أولويات الفترة الثانية تكون محلية في الغالب، وتتراجع السياسة الخارجية في سلم أولويات الرئيس الأمريكي الذي يبدأ التفكير فيما سيفعل بعد انتهاء رئاسته، وخاصة في عدم وجود فرصة للتجديد لفترة ثالثة (٤) . ولا يملك رئيس أمريكي أن يُغضب اللوبي الصهيوني؛ فليس صحيحاً أنه يتحرر من ضغوطه في الفترة الرئاسية الثانية؛ فهذا اللوبي يمكن أن يسعى إلى تدمير الرئيس تدميراً كاملاً كما حدث في كل من حالة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، أو الرئيس السابق بيل كلينتون.

ولذلك فليس من المتوقع أن تشهد الفترة الرئاسية الثانية للإدارة الأمريكية الجمهورية تحسناً يذكر فيما يتعلق بالعالم العربي والإسلامي بسبب سيطرة المنطلقات الفكرية الدينية والعقدية التي تحكم وتؤثر في مسيرة عدد من الشخصيات الأمريكية البارزة في هذه الإدارة، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكية نفسه. ويرى بعضٌ أن الإدارة الأمريكية الحالية ستبشر بمولد نظام حكم أمريكي جديد قد يستمر لفترات طويلة يستخدم الدين والقوى الدينية محركات رئيسة لثقله السياسي والانتخابي (٥) .