للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[توازننا ضرورة]

فيصل بن علي البعدان ي

التوازن هِبة من الله عظمى، تخلَّق به الأنبياء، واتصف به كبار العقلاء، هو عنوان نُضْج العقل، وبلوغ تمام الرشد، منه تتولد الحكمة، وبه يتوافق مع الفطرة، وتبنى النفس المتكاملة السوية، ويُتَّقَى الوقوع في الأطراف المذمومة، ومن خلاله يبتعد عن الاضطراب والقلق، ويتحقق الرضا والاستقرار النفسي.

وقد جاءت آيات الكتاب العزيز آمرة به، ومحذرة من ضده. قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء: ٢٩] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَالَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: ٦٧]

والمتأمل في حياة نبينا الكريم يجده -صلى الله عليه وسلم- إماماً في التوازن وتحقيق التكامل في كافة شأنه -صلى الله عليه وسلم- وسائر جوانب حياته (١) ؛ ففي صلته بربه كان -صلى الله عليه وسلم- أعلمَ الأمةِ به ـ عز وجل ـ وأشدها له خشية. تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ في وصف تعبده -صلى الله عليه وسلم-: «كان عمله دِيمة، وأيكم يستطيع ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستطيع؟» (٢) ، ويقول أنس ـ رضي الله عنه ـ: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئاً، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته، ولا نائماً إلا رأيته» (٣) . وعن المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ قال: «إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقوم ليصلي حتى تَرِم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: أفلا أكون عبداً شكوراً» (٤) . وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كنا نعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد قوله: رب اغفر لي، وتب عليّ، إنك أنت التواب الرحيم، مائة مرة» (٥) .

وفي دعوته وتعليمه بلَّغ -صلى الله عليه وسلم- أمته البلاغ المبين حتى شهد له -صلى الله عليه وسلم- بذلك يوم النحر في حجة الوداع القاصي والداني، وبذل -صلى الله عليه وسلم- غاية جهده في تعليم الناس حتى كان القائل يقول: «بأبي هو وأمي؛ ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه» (٦) .

وفي عنايته -صلى الله عليه وسلم- بأهله ومعاشرته الحسنة لهم بلغ -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الغاية؛ حتى قال -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» (١) ، وحتى وصفه بعض أهل بيته بأنه -صلى الله عليه وسلم- «كان أبرَّ الناس وأوصلهم» (٢) .

وفي عُشرته لأصحابه ومخالطته لهم كان -صلى الله عليه وسلم- مضرب المثل؛ فقد كان أوسع الناس صدراً، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عُشْرة، دائم البِشْر، سهل الخُلُق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، يجيب من دعاه، ويقبل الهدية ممن أهداه، وكان يمازح أصحابه، ويداعب صبيانهم، ويعود مرضاهم، ويقبل اعتذارهم.

وفي مكارم الأخلاق كان أحلم الناس وأصبرهم وأجودهم؛ ما سُئلَ شيئاً قط فقال: لا، وما انتصر لنفسه قط إلا أن تُنتَهَكَ محارم الله، ولا ضرب خادماً ولا امرأة قط، وكان أشجع الناس يعرض نفسه للمخاطر دون أصحابه، حتى إنهم كانوا إذا حمي الوطيس واشتد البأس اتقوا به، وكان يعفو ويصفح ولا يجزي بالسيئة السيئةَ.

وفي المقابل دعا أمته إلى التزام ذلك، وربَّى أصحابه الكرام عليه، والسنَّةُ مليئة بالنصوص الدالة على ذلك، ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم-: «خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا» (٣) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قلَّ» (٤) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم هدياً قاصداً، عليكم هدياً قاصداً، عليكم هدياً قاصداً؛ فإن من يشادّ هذا الدين يغلبه» (٥) ، وفي حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ نهى -صلى الله عليه وسلم- عن الغلو في الدين وتجاوز الحد في القول والفعل، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «هلك المتنطعون ـ ثلاثاً ـ» (٦) وأرشد -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن الظَّفَر برضى الله ـ عز وجل ـ لا يكون إلا عبر بوابة الاعتدال، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «لن ينجي أحداً منكم عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة، سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا» (٧) .

وحين كان -صلى الله عليه وسلم- يلحظ من بعض أصحابه خروجاً عن الجادَّة كان -صلى الله عليه وسلم- يعيدهم إليها، محذراً إياهم من الإفراط، والخروج عن نهج الاعتدال والوسط؛ ففي قصة سلمان وأبي الدرداء ـ رضي الله عنهما ـ التي أنكر فيها سلمان على أبي الدرداء إهماله حظ زوجه، وإغراقه في صوم النهار وقيام الليل قائلاً له: «إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاًً، فأعط كل ذي حق حقه» ، نجده -صلى الله عليه وسلم- ينتصر لرأي سلمان قائلاً: «صدق سلمان» (٨) . وفي قصة الثلاثة الذين جاؤوا إلى بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته؛ فلما أُخبِروا كأنهم تقالُّوها، قائلين: «وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟» فقال أحدهم: «أمَّا أنا فأنا أصلي الليل أبداً» ، وقال آخر: «أنا اصوم الدهر ولا أفطر» ، وقال آخر: «أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً» ، فأنكر -صلى الله عليه وسلم- عليهم مقولاتهم، وقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ! إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني» (٩) . وفي قصة عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ حين بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه أنه يصوم النهار ويقوم الليل دعاه -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا عبد الله! ألم أُخْبَرْ أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت: بلى! يا رسول الله! قال: فلا تفعلْ: صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزوْرك عليك حقاً» (١٠) .

فالتوازن والاعتدال ركيزة أساس من ركائز ديننا الحنيف، وسمة كبرى من سمات نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، والاتصاف به مصدر اعتزاز، فلا إشكال حوله من الجانب النظري، ولكن ما كل من أراد شيئاً ظفر به، ولا كل من انتسب إلى شيء حققه وصدق في انتسابه إليه، ولذا نجد الخَطَل الناجم من التشدد أو التساهل واقعاً في حياة كثير من الأفراد، بل حتى المجتمعات والأمم. وبعض الدعاة وطلبة العلم ليسوا بخَلِيِّين عن ذلك؛ إذ نجد مثلاً من يستغرق في الدعوة على حساب بناء نفسه ورعاية أهله وولده وبر والديه وصلة رحمه، ونجد من يستغرق في طلب العلم على حساب العمل به والدعوة إليه، ونجد من يستغرق في الدعوة والتعليم وسائر الأعمال الجادة مُعْرِضاً عن الترويح وممارسة المناشط التي تحفز النفس وتدفعها نحو مزيد من العمل بعيداً عن الاضطراب والأرق وأجواء التوتر والقلق (١) .

والوقوع في هذا الإفراط أوالتفريط ناجم إما عن تحكيم عاطفة جياشة أو عن جهل بقواعد الدين وأصوله أو عن إغراق في جانب جزئي ولََّد غفلة عن الصورة الكلية المتوازنة لهذا الدين العظيم، أو عن إعراض عن التفقه بسيرة سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-، أو عن ضعف محاسبة للنفس وعدم مطالعة حالها، أو عن قلة اختلاط بذوي الاتزان، أو عن ضيق في الأفق وضعف في الرؤية، أو عن عدم معرفة بالسبل والآليات المعينة على تحقيق التوازن، أو ترك تطبيقها، ونحو ذلك.

والتوازن المطلوب ليس مرادفاً للتساوي، والمناداة بتطبيقه لا تعني إلغاء التركيز وترك التخصص وإهمال القدرات والمواهب، وإنما هو دعوة لإعطاء كل جانب حقه في إطار عادل بعيداً عن مزالق الغلو أو مهاوي التفريط.

وأمام ذلك؛ فإن من أبرز ما يوصِل المرء إلى رتبة التوازن ما يلي:

٣ طلب معونة الله ـ تعالى ـ والتي يحتاجها العبد في كل شأن، وصلاح حاله لا يتحقق بدونها، وسلوك العبد لباب مِن أبواب الخير لا يلزم منه بالضرورة أن يكون مستعيناً بالله ـ تعالى ـ فيه، بل قد يكون مُعْرِضاً عن الاستعانة أو نقصه ظاهر فيها، فيُحرَم التوفيق والبركة بسبب ذلك، ولذا فإن مِن ألزمِ مُعِينات العبد على التوازن تمام استعانته بمولاه عز وجل، وإظهاره الافتقار إليه، وبسطه حاجته بين يديه سبحانه.

٣ تمام التأسي بالنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، واقتفاء أثره، ومطالعة سِيَر العلماء الربانيين والأئمة المجددين وأخذ ما ينفع العبد منها؛ فإن السير وراء الهداة اهتداء، وخلف السعداء سعادة؛ إذ هم القوم لا يشقى بهم جليسهم والسائر على منوالهم.

٣ الاعتدال في التفكير، وتنمية الوعي، وتفعيل دور العقل، ليتم من خلال ذلك ضبط العاطفة وتحقيق استجابة متزنة وردَّات فعل سوية تجاه الأفعال التي تعترض المرء، ويمكنها - بدون ذلك - أن تخرجه عن طور الاتزان.

٣ اعتقاد القدرة على النجاح في تحقيق الاتزان والتكامل بين متطلبات الروح والعقل والجسد، وبين الواجبات تجاه النفس والأهل والأقربين؛ لأن من لا يعتقد ذلك يكون عاجزاً عن التفكير في السبل الموصلة لذلك.

٣ المبادرة الجادة إلى تغيير الكثير من السلوكيات التي يمارسها المرء وتتنافى مع حالة التوازن؛ لأن المرء ما لم يغيِّر ما يقوم به فسيستمر في الحصول على النتائج نفسها التي كان يحصل عليها

٣ التدرب على مهارات إدارة الذات ومقاومة الضغوط، التي غالباً ما تقود إلى الإفراط في جوانب والتفريط في أخرى.

٣ ترتيب الأفعال حسب أهميتها لا حسب إلحاحها، والبدء بفروض الأعيان قبل غيرها، وبالواجبات قبل المستحبات، وبما نفعه متعد قبل القاصر، وهكذا. وهذا لا ينفي أهمية مراعاة الأمور الملحة ولكنه سينتفي حين نقوم بوضع كل شيء في حجمه دون تضخيم، وحين نقوم بالحفاظ على واجبات الأوقات وإعطاء كل وقت حقه.

٣ مصاحبة أهل العقل والاتزان والإكثار من استشارتهم والاستفادة منهم؛ فالصاحب ساحب، والمرء على نهج خليله وطريقته فلينظر أحدنا من يخالل.

٣ محاسبة النفس والتقييم المتكرر للذات، ليتعرف المرء باستمرار على حاله، فيعدل ما يحتاج من انفعالاته ومواقفه وسلوكه، قبل أن تتراكم الأخطاء وتتجذر، فيحتاج المرء إلى فترات طويلة للتصحيح والمعالجة لجوانب خلل عميقة لا يمكن تدارك آثارها بسهولة، وعندما يفيق المرء ويتنبه لسوء حاله يكثر من التندم والملامة للنفس والآخرين ولكن بعد فوات الأوان.

٣ إدراك الثمار النكدة للإخلال بالتوازن على حياة الأفراد والمؤسسات والشعوب، وجوانب الخير التي يتم فقدانها من جراء ذلك؛ من إعراض عن جوانب رئيسة في العمل، والوقوع في حالات فتور وانقطاع عن العمل، وابتعاد عن العيش في أجواء صحية سليمة نتيجة ظهور مشكلات وتجذرها مع الزمن.

اللهم سددنا، وألهمنا رشدنا، ووفقنا لكل خير، وارزقنا التكامل والاستقرار والسكينة، وهبنا التوفيق والبركة، ولا تجعل أحداً منا كالمنبَتِّ الذي لا قطع أرضاً ولا أبقى ظهراً، بفضل منك وجود ورحمة، إنك أكرم الأكرمين، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(١) حتى إن الاطلاع على جزء من سيرته -صلى الله عليه وسلم- من دون استصحاب النظرة الشاملة لها قد تغري الجاهل على الإخلال في التوازن حين يرى أنه -صلى الله عليه وسلم- قد بلغ الغاية في أمر ما غافلاً عن أنه -صلى الله عليه وسلم- قد بلغ أيضاً الغاية في الجهة المقابلة.
(٢) البخاري (٦١٠١) .
(٣) البخاري (١٠٩٠) .
(٤) البخاري (١٠٧٨) .
(٥) سنن أبي داود (١٥١٦) ، وقال الألباني: صحيح.
(٦) مسلم (٥٣٧) .
(١) ابن حبان (٤١٧٧) ، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(٢) مسلم: (١٧٨٤) .
(٣) البخاري: (٥٣١٣) .
(٤) مسلم (٧٨٢) .
(٥) أحمد (٢٣٠١٣) ، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(٦) مسلم (٢٦٧٠) .
(٧) البخاري (٦٠٩٨) .
(٨) البخاري (١٩٦٨) .
(٩) البخاري (٥٠٦٣) .
(١٠) البخاري (١٩٧٥) .
(١) وبكل تأكيد هناك صور فجة من التفريط في شأن الدعوة ونشر العلم والإفراط في الجوانب المقابلة، لكن المقالة اقتصرت على ذكر هذه النماذج؛ لأن جوهرها منصبٌّ على ذلك.