للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات تربوية

أطفالنا والفصحى [١]

المأساة والحل

د. معن عبد القادر [*]

الحمد لله القائل: [خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ] (الرحمن: ٣-٤) .

وتعليم الإنسان البيان من آيات الله الباهرة. قال القرطبي: «البيان الكلام

والفهم، وهو ما فضل به الإنسان على سائر الحيوان» . وقال السدي: «علَّم كل

قوم لسانهم الذي يتكلمون به» ، «وقيل علَّمه اللغات كلها» .

وقال الشنقيطي: «التحقيق فيه أن المراد بالبيان الإفصاح عما في الضمير» .

ويقول سيد قطب: «إننا نرى الإنسان ينطق ويعبِّر ويبين، ويتجاوب مع

الآخرين، فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة، وضخامة هذه الخارقة، فيردنا

القرآن إليها ويوقظنا لتدبرها في مواضع شتى» .

كيف يكون البيان؟ وكيف يتعلم الطفل اللغة التي يعرب بها عما في ضميره؟

جهاز اكتشاف قواعد اللغة:

تشير الدراسات العلمية المبنية على الملاحظة والتحليل أن الله زود الطفل من

جملة ما زوده به بالقدرة على اكتشاف قواعد اللغة التي يتعرض لها باستمرار،

ويسمي العلماء جزء الدماغ المسؤول عن هذه العملية: جهاز اكتشاف اللغة

(LAD) Language Acquidition Device، فيقوم هذا الجهاز بهداية الله

له باكتشاف قواعد اللغة من جملة المفردات والتراكيب التي تعرض عليه، وقد

يخطئ القاعدة في البداية لقلة الأمثلة والعينات، ولكنه ما يلبث أن يراجع نفسه

ويعدل القاعدة حتى يتقن اللغة تماماً فيكاد ألاَّ يخطئ فيها؛ وهذا ملاحظ في الأطفال؛

فتجد الطفل مثلاً وقد طرق سمعه كلمات الجمع مثل: نائمين، قاعدين، فيقول:

رجّالين جمع رجّال (رجل بالعامية) وكَلْبين جمع كلب. وأمثلة هذا معلومة لدى

الأبوين، ويتخذون منها مادة للتفكه والتندر. ومع زيادة الأمثلة، وتكرار السماع،

يصحح الطفل هذه الأخطاء من تلقاء نفسه حتى يصل إلى رتبة الإتقان.

والطفل حين يتقن اللغة لا يدرك قواعدها؛ بل هذا الأمر صحيح في حق

الكبير أيضاً. ولنأخذ على ذلك مثالاً من العامية الشامية:

يقول أهل الشام: خزانِة، وبوابِة، ورمانِة. بكسر ما قبل التاء المربوطة؛

ولكنهم يقولون: تفاحَة ومطاطَة بالفتح. ولا يمكن أن يخلطوا بينهما فيقولون تفاحِة

مثلاً، بل إذا قال الرجل ذلك علم أنه يحاول تقليد اللهجة الشامية وينفضح أمره!

لا شك أن وراء هذه الطريقة في النطق قاعدة لغوية؛ فما هي؟ ربما لم

يخطر لكثير من الناس أن يبحثوا عن القاعدة، ولكنهم غير محتاجين لذلك؛ فإنهم

ينطقون بها صحيحة حسب لهجتهم بالسليقة كما يقول العامية أو لأن جهاز اكتشاف

اللغة (LAD) قد أراحهم من ذلك! كما يقول العلماء.

وكل موهبة ذهنية أو جسدية وهبها الله للإنسان جعل لها دورة حياة، تنشأ

وتقوى، ثم تبلغ ذروتها وأوجها، ثم تضمحل وتموت؛ فما هي دورة حياة جهاز

اكتشاف اللغة (LAD) ؟

يقول العلماء إنها تبدأ مع خلق الإنسان، وتبلغ ذروتها في سني حياته الأولى،

وتبدأ بالضمور والاضمحلال بعد سن السادسة، لتموت قريباً من سن البلوغ! وقد

أيدوا هذه النظرية بالدراسات العلمية، والكشوفات الطبية والاستقراء الدقيق. وهذا

يعني أن السن المثلى التي يكتشف فيها الإنسان قواعد اللغة التي يسمعها حوله عندما

يكون طفلاً دون السادسة، وأنه بعد ذلك إن لم يكن قد أتقن قواعد اللغة يحتاج إلى

من يلقنه ويعلمه إياها؛ إذ لا يكون قادراً على اكتشافها بنفسه، كما أنه في الغالب

لن يستطيع أن يصل إلى درجة الإتقان التي يبلغها من اكتشف قواعد اللغة في السن

التي يكون مهيأ لها (وهذا يدل على الموهبة الخارقة لجهاز اكتشاف قواعد اللغة

الرباني) .

والجدير بالذكر أن هذا الجهاز لا تنحصر قدرته على اكتشاف لغة واحدة، بل

يمكنه أن يكتشف قواعد عدة لغات، وبنفس الدرجة من الإتقان، إذا تيسر له القدر

الكافي من السماع والممارسة.

وقد لاحظنا هذا الأمر بجلاء في الطفل الذي ينشأ لأب عربي وأم إنجليزية

مثلاً، وقد التزم الأب الحديث باللغة العربية في بيته فينشأ الطفل متقناً للعربية/

العامية لغة أبيه، والإنجليزية لغة أمه، بطلاقة تامة.

المأساة:

وهنا تظهر مأساة الطفل العربي المعاصر، إنه في سني حياته الأولى يتعرض

للعامية، فيتعرف على مفرداتها، ويتقن تراكيبها وقواعدها، حتى إذا ذهب إلى

المدرسة وجد أن عليه أن يطلب المعرفة بغير اللغة التي يتقنها.

واللغات العامية والتي اصطلح على تسميتها لهجات مختلفة إلى حد كبير عن

اللغة الفصحى في المفردات والتراكيب والقواعد.

أما الاختلاف في الألفاظ والمفردات فأشهر من أن يمثل له، وأما الاختلاف في

القواعد والتراكيب فإن الفارق أكبر بكثير مما يظنه الإنسان للوهلة الأولى، وهذه

بعض الأمثلة:

في العامية يستخدم الطفل (اللي) كاسم موصول للمفرد والمثنى والجمع

مذكراً كان أو مؤنثاً، بينما تقابله في الفصحى ثمانية صيغ: الذي، التي، اللذان،

اللتان، اللذَين، اللتَين، الذين واللاتي أو اللواتي.

وقد تعلم أن يقول: (كتابَك، قلمَك، رأسَك) بفتح الحرف الأخير قبل

الضمير للدلالة على المذكر، وكسره (كتابِك، قلمِك، رأسِك) للدلالة على المؤنث،

ثم نعلمه في الفصحى أن ذلك الحرف لا دلالة له على التذكير والتأنيث؛ وإنما

يظهر ذلك في حركة الضمير المتصل.

فعندما يُطلب من طفل المرحلة الابتدائية أن يقرأ جملة بسيطة نحو: «جلست

الفتاة قرب النافذة» تجده يتهجؤها تهجئة؛ لأن المفردات ليست من مخزونه، وإنما

يألف الحروف فقط فيقرؤها حرفاً حرفاً؛ فإذا مللنا من بطئه في القراءة نهرناه وقلنا

له: «ما لك يا غبي، إنما نعني: قعدت البنت جنب الشباك» ، هكذا نترجمها له

إلى العامية!

والحقيقة أن الطفل مسكين، ومعرفته بالحروف الأبجدية ليست كافية

للانطلاق في القراءة. إن الكبير حين يقرأ لا يعتمد على تهجئة الكلمة، وإنما

يستعين بمخزونه من الكلمات والتراكيب، فيقرأ بسرعة. أعط رجلاً كبيراً نصاً

فارسياً أو باكستانياً مكتوباً بالحروف العربية، فماذا يصنع؟ إنه يهجئها حرفاً حرفاً

كالصغير تماماً.

ونتج عن هذه المأساة أمران:

١ - عزوف الطفل عن القراءة؛ فإنها تكلفه مجهوداً شاقاً، ولا يفهم كل ما

يقرأ، فلا يستمتع بها، والنتيجة ألا يُقبِل على القراءة إلا مضطراً كاستذكار

لامتحان أو نحوه، ويصبح هناك نوع من العداء بين الطفل ثم الشاب والكتاب.

٢ - صعوبة التحصيل المعرفي والعلمي؛ لأن الطفل غير متمكن من أداته،

وهي اللغة الفصحى.

ولتعويض هذا النقص قام التربويون وواضعو المناهج في الدول العربية بحشد

عدد كبير من حصص قواعد اللغة العربية وما يتعلق بها في جميع المراحل

الدراسية، ولكن النتيجة أن هذه الحصص جميعاً لم تصل بخريج المدرسة الثانوية

إلى مرتبة الإتقان.

وقد عقد بعض المختصين مقارنة مفيدة بين عدد حصص اللغة العربية وما

يتعلق بها في بعض الدول العربية، من الصف الأول المتوسط وحتى الثالث

الثانوي، وبين عدد حصص اللغة الإنجليزية (ليس هناك فصيح وعامي في

الإنجليزية) في بريطانيا في الفترة ذاتها؛ فوجد أن عددها في الدول العربية

يتراوح بين ١٠٥٠ و١٢٥٠ حصة؛ بينما لا يزيد عددها عن ٥٨٠ حصة في

بريطانيا؛ وبإجراء حسابات مباشرة يتبين أن الفارق يتمثل بما يعادل ثلاث ساعات

أسبوعياً، على مدى ست سنوات. هذه الساعات الثلاث يقضيها الطفل العربي في

تعلم قواعد لغته والتعرف على مبادئها؛ بينما تتاح للطفل الإنجليزي الفرصة

لاستثمارها في دراسة موضوعات أخرى.

وبالإضافة إلى الفارق البيِّن في عدد الحصص هناك فارق جوهري في طبيعة

المادة المعطاة؛ فبينما يقضي الطفل العربي معظم الحصص في تعلم القواعد والنحو

والإعراب فإن الطفل الإنجليزي يقضيها في تحليل النصوص، واستخلاص الأفكار

الأساسية وأساليب التعبير وغيرها.

فلا غرابة إذن أن تكون فرص الطفل الإنجليزي للإبداع أكبر من فرص قرينه

العربي، وأن نجد في العرب عموماً عزوفاً عن القراءة؛ بينما الأوروبيون

والأمريكان يقرؤون في كل مكان (الحافلة، القطار، الطائرة) ، وتجارة الروايات

لديهم مزدهرة.

الحل:

الحل يكمن في أن يتقن أطفالنا الفصحى قبل دخول المدرسة بالإضافة إلى

العامية؛ كيلا يكون موضع استغراب في المجتمع ولكن كيف يتم ذلك وقد تأصلت

العامية في المجتمعات العربية؟

الجواب أنه لا بد أن نعرِّض الطفل في سني عمره الأولى لساعات طويلة من

ممارسة الفصحى سماعاً وتحدثاً.

والوضع الأمثل في ذلك أن يلتزم أحد الأبوين ولعل الأب هو الأنسب الحديث

مع الطفل بالفصحى منذ ولادته، وستُدهش حين تسمع الطفل يحدث والده بالفصحى

منذ أن ينطق! وإذا بدئ مع الطفل في سن متأخرة نسبياً بعد الرابعة مثلاً فقد يجد

الطفل بعض الصعوبة في البداية، ولكن بالمواظبة والتوجيه والتصحيح من جانب

الوالد، سرعان ما يألف الطفل ذلك. فإذا قال الطفل: (يلاَّ نروح) قال له أبوه:

(هيَّا نذهب) وهكذا. وقد جربت هذه الطريقة حتى مع أطفال في سن الخامسة

فكانت النتيجة مدهشة.

ولكن في كثير من بيوت العرب اليوم لا يحسن أي من الأبوين الفصحى.

وهنا يأتي الحل البديل: روضات الفصحى، وذلك بأن ينشئ الفضلاء

الغيورون، والتربويون الصادقون، روضات تتلقف الطفل من سن الثالثة، ويكون

الحديث داخل أسوار الروضة بالفصحى تماماً، ويختار المدرسات المؤهلات لذلك،

ويتم تدريبهن تدريباً جيداً.

وهذا الحل مجرب أيضاً، وقد أثبت نجاحاً باهراً [٢] .

بحث ذو مغزى:

مدرِّسة أمريكية تقوم بتدريس اللغة الإنجليزية لغير الناطقين بها.

وقد لاحظت أن الأطفال العرب بالذات يفرُّون من القراءة بشكل ملحوظ مقارنة

بأقرانهم من الأعراق الأخرى، وقد لمست نفس الملاحظة عند زملائها من

المدرسين الآخرين.

ولما أعياها البحث عن سبب ذلك توجهت بالسؤال الآتي من خلال شبكة

الإنترنت:

Please help me to answer this question: why arabs do

not like to read ?

وترجمته: لماذا لا يحب العرب القراءة؟

وقد قام أحد الفضلاء بإجابتها عن تساؤلها؛ حيث شرح لها الفصام الذي

يعيشه الطفل العربي بين العامية والفصحى، ثم أحالها على تجربة روضة الأزهار

العربية [٣] .

وقد اهتمت بالموضوع أيما اهتمام، إلى الحد الذي عزمت فيه أن تعد رسالة

ماجستير بعنوان: «أثر تعليم الفصحى قبل السادسة عند العرب على التحصيل

الدراسي» .

وفعلاً قامت بزيارة الروضة في دمشق، ومكثت عدة أشهر، تقابل الأطفال،

وتدرس أوضاعهم، كما تتبعت جميع الأطفال الذين تخرجوا من الروضة والتحقوا

بالمدارس العامة، ودرست أداءهم وتحصيلهم، وعقدت مقابلات مع أساتذتهم

وأولياء أمورهم، ثم توصلت إلى أن معدل التحصيل الدراسي لهؤلاء الأطفال

أفضل بكثير من معدل التحصيل الدراسي لأقرانهم، وفي جميع المواد الدراسية.

وأخيراً: فهناك مكسب ثمين من وراء تعويد أطفالنا على الفصحى في سن مبكرة

يفوق كل ما سبق؛ وهو تقريبهم إلى تذوق كتاب الله، واستشعار حلاوته،

واستسهال حفظه ومراجعته.


(*) أستاذ في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن الظهران.
(١) هذا المقال تلخيص لحديث الدكتور عبد الله الدنان في مجلس ضمني معه، مع بعض الترتيب والتصرف والتقديم الذي تقتضيه طبيعة المقال، والدكتور الدنان رائد فكرة تعليم الأطفال الفصحى قبل سن السادسة.
(٢) أسس الدكتور عبد الله الدنان: (روضة الأزهار العربية) في دمشق؛ وهي تقوم على هذا المبدأ، وهذه الروضة محل اهتمام الكثيرين من داخل العالم العربي وخارجه.
(٣) أسس الدكتور عبد الله الدنان: (روضة الأزهار العربية) في دمشق؛ وهي تقوم على هذا المبدأ، وهذه الروضة محل اهتمام الكثيرين من داخل العالم العربي وخارجه.