للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[طلائع التغريب]

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه

ومن والاه، وبعد:

في يوليو من عام (١٩٩٨م) وعلى مدى عامين اثنين احتفل مجموعة من

المثقفين المصريين بمناسبة مرور مائتي عام على الحملة الفرنسية التي قادها

(نابليون بونابرت) على مصر، وزعموا أنهم لا يحتفلون بالاستعمار، وإنما

بالعلاقات الثقافية مع فرنسا، وبالمجمع العلمي والمطبعة التي أدخلها نابليون لأول

مرة إلى مصر.

ولا نستغرب أن بعض نصارى العرب مثل ألبرت حوراني يؤرخ لبداية

الحداثة العربية بحملة نابليون، لكن الغرابة أن يتبنى هذه الرؤية أيضاً بعض

المثقفين المصريين المنتسبين إلى الإسلام، ويعيدون اجترار الفكر الاستعماري،

ويصفقون بكل انهزام لتاريخه وثقافته..!

الجدير بالتأمل أن نابليون عندما دخل إلى مصر تلبَّس بلباس المسلمين،

وزعم أنه يريد تحرير حقوق المصريين من الظالمين وقال في أول بيان نشره:

(بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه) ، ثم قال:

(يا أيها المصريون! قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم؛

فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين: إنني ما قدمتُ إليكم إلا لأخلِّص

حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم

نبيه والقرآن العظيم!) [١] .

وبعد الغزو الأمريكي على العراق بدأت احتفالية أخرى عند بعض الخليجيين،

تتطلع إلى مرحلة جديدة من الحداثة الحضارية! فقد كتب أحد مثقفيهم مقالة

بعنوان: (نموذج أمريكي في العراق؟ لِمَ لا؟ .. تفاءلوا خيراً!) ، قال فيها:

(إنني من أكثر الناس تفاؤلاً بقدوم أمريكا إلى العراق، وعندي أسباب عديدة،

أولها: أن أمريكا لم تدخل بلداً إلا وحسنت من أوضاعه؛ فهي دخلت اليابان

وكوريا وألمانيا، وغيرها من البلدان، والنتيجة أن هذه الدول أصبحت من الدول

المتقدمة في الاقتصاد والعلم، أمريكا دفعت من جيبها أكثر من ١٢ مليار دولار

لدول أوروبا خلال مشروع مارشال لتنهض صناعياً بالدول المهزومة، وفي مقدمتها

ألمانيا، بالإضافة إلى عشرين مليار دولار كديون ميسرة بعيدة المدى ... ) ، ثم ختم

مقاله بقوله: (إنني واثق أن أمريكا ستلعب في منطقتنا دور المعلم الحازم الذي

يريد النجاح لتلاميذه، حتى لو تطلب ذلك درساً قاسياً، إن العالم العربي لن يتغير

من تلقاء نفسه، لذلك أقول أهلاً بالنموذج الأمريكي الحر، وعسى أن تكرهوا شيئاً

وهو خير لكم!!) [٢] .

وكتب مثقف آخر مقالة بعنوان: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) ،

قارن فيها بين حملة نابليون بونابرت على مصر، والحملة الأمريكية على العراق،

وقال: (لقد كانت الحملة الفرنسية على مصر شيئاً مثل صدمة كهربائية قوية،

أعادت الوعي إلى مجتمعات كانت غائبة عن الدنيا وما جرى فيها خلال قرون من

الاستكانة والسكون، ومن يقرأ تاريخ الجبرتي عن تلك الفترة يستطيع أن يتبين أثر

تلك الحملة القصيرة الزمن الطويلة التأثير على المجتمع المصري، ومن ثم

المجتمعات العربية الأخرى..) ، وبعد أن تحدث عن الصدمات القوية التي أعادت

الحياة والفاعلية الذاتية على يد الاستعمار الغربي في ألمانيا واليابان والصين،

أراد أن يقنعنا بأهمية الاستعمار الأمريكي قائلاً: (وهذا ما حدث لمصر والشرق

العربي حين غزاهما نابليون، فأعاد العرب إلى الوعي بالعصر الذي يعيشون فيه،

ولكنهم نكصوا على أعقابهم بعد ذلك، فكان لا بد من صدمات وصدمات؛ إذ لعل

وعسى؛ فمكر التاريخ لا يعرف الاستسلام. وإذا كانت الحملة الفرنسية على مصر

ومشرق العرب، أو الصدمة الأولى قبل قرنين من الزمان تقريباً، قد قدمت العرب

للحداثة، وقدمت الحداثة للعرب، فإن الحملة الأمريكية الحالية سوف تقدم العرب

للعولمة، وتقدم العولمة للعرب على أوسع نطاق!!) [٣] .

وفي مقال ثالث كتب أحدهم: (لقد أثبتت الفضائيات العربية والإعلام العربي

بشكل عام، أننا أمة تقع خارج دائرة الفعل، فالأمة التي يقوم خطابها الثقافي

والإعلامي على التباكي وعلى مهاجمة الآخر والتحريض على كرهه، هي أمة

مكبلة بقيود العجز والسلبية وعدم القدرة على المبادرة، وهذا النوع من الأمم يحتاج

بالفعل إلى يد خارجية قوية تفرض عليه الإصلاحات اللازمة لتغيير واقعه نحو

الأفضل. إنَّ النظام العراقي لم يكن ليسقط ولو بعد مائة عام، لولا الحملة العسكرية

الأمريكية. والإصلاحات الديمقراطية لن تتحقق في العالم العربي بإرادة ذاتية؛ بل

بالمساعي الأمريكية، وإذا كان الأمريكيون يعملون على تحقيق هذه الإصلاحات

مدفوعين بقناعتهم بضرورة التغيير بعد أحداث سبتمبر؛ فإن المنطق يحتم علينا أن

نرحب بمساعيهم طالما أنها تلتقي بمصالحنا!!) [٤] .

وفي حوار أجرته إحدى الإذاعات العربية مع أحد المعارضين العراقيين الذين

دخلوا بغداد تحت مظلة القبعة الأمريكية، استشهد على حرص الولايات المتحدة

الأمريكية على نهضة العراق وبنائه حيث ذكر أن من أوائل اللجان التي شكلتها

الإدارة الأمريكية لإعادة البناء هي اللجنة المكلفة بإعادة كتابة المناهج التعليمية، ممَّا

يؤكد حرصها على بناء عراق علمي متحضر، ثم يتفاءل كثيراً بإعادة بناء النموذج

الأمريكي في اليابان وألمانيا في عراق ما بعد الحرب..!!

هذه المواقف جزء من ضجيج هادر نضح به بعض إعلامنا الخليجي، وهي

مواقف تمثل صورة صارخة لمقدار التبعية الفكرية والانهزامية الثقافية التي يبشر

بها بعض المثقفين والصحفيين العرب؛ فما عادوا يخجلون من صعود الدبابة

الأمريكية والانضواء تحت رايتها.

وتعجب أشد العجب من جرأة هؤلاء المفتونين على تزييف الوعي؛ فالعالم

كله يرى إفلاس القيم الأمريكية وسقوطها المدوي الذي انكشف أمام الجميع، بينما

هم لا زالوا يسبحون بحمدها ويقدسون..!!

إنَّ الخطاب الفكري الذي يصوغ أطروحات هؤلاء القوم يستمد جذوره من

الانقلاب على الذات، والتنكر لعقيدة الأمة وجذورها التاريخية، والسقوط في

متاهات التقليد، واجترار الفكر الغربي بانهزامية مفرطة، ثم يتبع ذلك سعي حثيث

لمسخ هوية المجتمع، وتغيير بنيته الفكرية. ولئن كانت تلك الصورة الساذجة

للشاب الذي يلبَّس (الجينز) ويعلق الأساور والأقراط على يديه وأذنيه آية من

آيات الاستلاب الحضاري، ومثاراً للسخرية والاستهزاء؛ فإنَّ الانسلاخ الفكري

والعقدي الذي تلبَّس به بعض المثقفين أشد خطراً وأكثر إثارة للسخرية؛ لأنَّهم

يحملون مشروعاً تغييرياً يتقصد محاربة الأمة وتغييب ثقافتها!

وهذه الظاهرة ليست من الظواهر الحادثة؛ فمنذ أن رفع ابن أبي سلول راية

النفاق في العصر الأول، وأتباعه المقتدون به يظهرون بصور وأشكال متعددة،

تختلف أسماؤهم وألوانهم، وتتشابه مخازيهم في الكيد لهذه الأمة وشرخ عقيدتها.

قال الله تعالى: [وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ

وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ] (محمد: ٣٠) .

إنَّ المرحلة القادمة ستشهد حرباً ضروساً على القيم والثوابت الشرعية،

وسيكشف كثير ممن يسمون أنفسهم بالليبراليين عن حقيقة ثقافتهم وجذورهم!

ونحسب أن هذا التيار سيكون الأداة الطيعة الذي ستستخدمه الولايات المتحدة

الأمريكية في اختراق الأمة وتسويق مشاريعها الفكرية والاجتماعية، وبسط هيمنتها

على مراكز الرأي والتأثير. وباسم الإصلاح والتطوير ونحوها من الكلمات البراقة

سيرفعون لواء الإفساد والتغريب، [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا

نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ] (البقرة: ١١-١٢) .

ولهذا فإن استبانة سبيل هؤلاء القوم، ورصد توجهاتهم، وتتبع مكائدهم

ودسائسهم، ليس مجرد ترف ثقافي وإعلامي؛ بل هو من الأولويات المهمة التي

تحفظ الأمة من مكرهم وخداعهم. قال الله تعالى: [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ

سَبِيلُ المُجْرِمِينَ] (الأنعام: ٥٥) .


(١) تاريخ الجبرتي، أحداث سنة (١٢١٣هـ) ، ولاحظ أن هذا الشعار لا يبعد كثيراً عن شعار (تحرير العراق) الذي رفعه الأمريكيون لتسويغ حملتهم الجائرة على العراق! .
(٢) الشرق الأوسط، ٣/٤/٢٠٠٣م.
(٣) المصدر السابق، ٢٤/٣/٢٠٠٣م.
(٤) المصدر السابق، ٢٦/٤/٢٠٠٣م.