للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات في الشريعة

[النعي وصوره المعاصرة]

خالد بن عبد الله المصلح [*]

* تعريف النعي:

- المطلب الأول: تعريفه في اللغة:

قال ابن فارس: «النون والعين والحرف المعتل: أصل صحيح يدل على

إشاعة الشيء، منه: خبر الموت» [١] .

- المطلب الثاني: تعريفه في الاصطلاح:

معنى النعي في الاصطلاح أوسع منه في اللغة، ويتضح ذلك مما قاله أهل

العلم في تعريفه: قال الترمذي في جامعه: «والنعي عندهم أن ينادى في الناس أن

فلاناً مات ليشهدوا جنازته» [٢] .

قال ابن الأثير في النهاية: «نعى الميت ينعاه نعياً، ونِعِياً؛ إذا أذاع موته،

وأخبر به، وإذا ندبه» [٣] .

وقال ابن عابدين: «هو الإخبار بالموت» [٤] .

وقال قليوبي في حاشيته: «وهو النداء بموت الشخص، وذكر مآثره

ومفاخره» [٥] .

وقال الحجاوي في الإقناع: «وهو النداء بموته» [٦] .

وقد ساق المنبجي عدة آثار في النعي، ثم قال بعد ذلك: «منها ما يدل على

أن النعي إعلام الناس بأن فلاناً قد مات، ومنها ما يدل على أن النعي هو تعداد

صفات الميت. فالظاهر أن كليهما نعي» [٧] .

فظهر مما تقدم أن النعي عند أهل العلم: منهم من يقصره على النداء بالموت،

ومنهم من يُدخل فيه الإخبار بالموت المقرون بمدح الميت وتعداد صفاته.

والذي يظهر لي: أن النعي يطلق على الإخبار بموت الميت وإذاعة ذلك،

ويطلق أيضاً على ما قد يصاحب ذلك من قول كتعداد مناقب الميت، أو فعل كشق

الجيوب وضرب الخدود. والله أعلم.

- المطلب الثالث: ألفاظ تشارك النعي:

هناك ألفاظ يطلقها أهل العلم ويذكرون لها أحكاماً، وهي تشارك النعي من

بعض الوجوه، ولذلك نحن بحاجة إلى الوقوف على معاني هذه الألفاظ.

أولاً: الندب:

وهو في اللغة حسن الثناء على الميت [٨] ، وقيل: دعاء الميت بحسن الثناء

عليه: وا فلاناه [٩] ، وقيل: الإقبال على تعداد محاسن الميت كأن الميت يسمعها

[١٠] .

أما الاصطلاح؛ فقال ابن الأثير في النهاية في تعريف الندب: هو «أن

تذكر النائحة الميت بأحسن أوصافه، وأفعاله» [١١] .

وقال النووي: «الندب: أن تعد شمائل الميت وأياديه. فيقال: وا

كريماه ... » [١٢] .

وقال ابن المبرد: «الندب البكاء على الميت وتعداد محاسنه» [١٣] .

وقال المنبجي: «اسم للبكاء على الميت وتعداد محاسنه» [١٤] .

وعلى هذا؛ فإن الندب يشترك مع النعي في كونه تعداداً لصفات الميت

ومحاسنه.

ثانياً: النياحة:

وهي في اللغة: من النوح، وهو يدل على مقابلة الشيء للشيء [١٥] ،

والنياحة على الميت هي البكاء عليه بجزع وعويل [١٦] .

وأما معناها في الاصطلاح فهو موافق للمعنى اللغوي، قال في الإقناع:

«وهي رفع الصوت بذلك أي بالندب برنَّة» [١٧] .

وقال في الزواجر: «النوح: وهو رفع الصوت بالندب، ومثله إفراط رفعه

بالبكاء ... » [١٨] .

وقد وسَّع بعض أهل العلم معنى النياحة؛ فجعل منها كل ما هيَّج المصيبة من

وعظ أو إنشاء شعر، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية [١٩] .

ومن هذا يتبين أن النياحة هي إظهار الجزع والتسخط على موت الميت.

قال القرافي: «وصورته: أن تقول النائحة لفظاً يقتضي فرط جمال الميت

وحسنه، وكمال شجاعته، وبراعته، وأبهته، ورئاسته، وتبالغ فيما كان يفعل من

إكرام الضيف، والضرب بالسيف، والذب عن الحريم والجار، إلى غير ذلك من

صفات الميت التي يقتضي مثلها أن لا يموت، فإن بموته تنقطع هذه المصالح ويعز

وجود مثل الموصوف بهذه الصفات، ويعظم التفجع على فقد مثله، وأن الحكمة

كانت بقاءه وتطويل عمره لتكثر تلك المصالح في العالم. فمتى كان لفظها مشتملاً

على هذا كان حراماً، وهذا شرح النوح. وتارة لا تصل إلى هذه الغاية غير أنها

تبعد السلوة عن أهل الميت، وتهيج الأسف عليهم، فيؤدي ذلك إلى تعذيب نفوسهم

وقلة صبرهم وضجرهم، وربما بعثهم ذلك على القنوط، وشق الجيوب، وضرب

الخدود، فهذا أيضاً حرام» [٢٠] .

ثالثاً: الرثاء:

وهو في اللغة بكاء الميت بعد موته ومدحه، وكذا إذا عددت محاسنه، وكذلك

إذا نظمت فيه شعراً [٢١] . ويراد به أيضاً التوجع من الوقوع في مكروه [٢٢] . ومنه

قول سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في قول النبي صلى الله عليه وسلم له:

«لكن البائس سعد بن خولة» : «يرثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن

مات بمكة» [٢٣] .

رابعاً: التأبين:

وهو في اللغة من أَبَنَ الرجلَ تأبيناً، أي: «مدحه بعد موته وبكاه» [٢٤] .

* أقسام النعي وصوره:

- المطلب الأول: النعي في كلام أهل العلم:

النعي وهو الإخبار بموت الميت: إما أن يكون إعلاماً مجرداً، وإما أن يكون

إعلاماً بنداء ونحوه، ولكل منهما حكم.

المسألة الأولى: الإعلام بالموت مجرداً:

ذهب جمهور أهل العلم من الحنفية [٢٥] ، والمالكية [٢٦] ، والشافعية [٢٧] ،

والحنابلة [٢٨] ، وغيرهم [٢٩] ؛ إلى جواز الإعلام بالموت من غير نداء؛ لأجل

الصلاة. بل ذهب جماعة من العلماء إلى استحباب ذلك [٣٠] . واستدلوا بما في

الصحيحين [٣١] من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه

وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصفَّ بهم

وكبَّر أربعاً. واستدلوا أيضاً بما أخرج الشيخان [٣٢] من حديث أبي هريرة - رضي

الله عنه - أن امرأة سوداء كانت تقمُّ المسجد، أو شاباً، ففقدها رسول الله صلى الله

عليه وسلم، فسأل عنها، أو عنه، فقالوا: مات، فقال صلى الله عليه وسلم:

«أفلا كنتم آذنتموني!» .

وهذان الحديثان ظاهران في إباحة الإعلام بالموت لأجل الصلاة، بل هما

دالان على الاستحباب، ولأن ذلك وسيلة لأداء حقه من الصلاة عليه واتباع جنازته.

ومما يدل على جواز إعلام مَنْ لم يعلم بموت الميت لمصلحة غير الصلاة

عليه: ما في صحيح البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه -، وفيه أن النبي

صلى الله عليه وسلم: نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتي خبرهم،

فقال صلى الله عليه وسلم: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب،

ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله

حتى فتح الله عليهم» [٣٣] . ففي هذا الحديث نعى النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء

الثلاثة - رضي الله عنهم -، ولم يكن ذلك النعي لأجل الصلاة عليهم إنما لأجل

إخبار المسلمين بخبر إخوانهم وما جرى لهم في تلك الوقعة. وعليه فيجوز الإعلام

بالموت لكل غرض صحيح كالدعاء له وما أشبه ذلك [٣٤] . وليس ذلك من النعي

الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن بعض ذلك مما دلت

النصوص على فضله واستحبابه، فقد أجمع أهل العلم على أن شهود الجنائز خير

وبر وفضل، وأجمعوا على أن الدعاء إلى الخير من الخير، قال ابن عبد البر:

«وكان أبو هريرة يمر بالمجالس، فيقول: إن أخاكم قد مات فاشهدوا جنازته» [٣٥] .

وذهب جماعة من أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم [٣٦] ، كحذيفة بن اليمان

- رضي الله عنه -، إلى عدم الإخبار بموت الميت خشية أن يكون ذلك من النعي

الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: «ويروى في ذلك

عن ابن مسعود وابن عمر وأبي سعيد، ثم عن علقمة وابن المسيب والربيع بن

خثيم وإبراهيم النخعي» [٣٧] .

واستدلوا بما جاء عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: «إذا مت فلا

تؤذنوا بي أحداً، إني أخاف أن يكون نعياً، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه

وسلم ينهى عن النعي» ، رواه أحمد والترمذي وابن ماجه. وقال عنه الترمذي:

هذا حديث حسن صحيح [٣٨] . وقد حسنه الحافظ ابن حجر [٣٩] .

ولما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله صلى

الله عليه وسلم: «إياكم والنعي! فإن النعي من عمل الجاهلية» [٤٠] . قال عبد

الله في بيان معنى النعي: أذان بالميت [٤١] . فالنداء ورفع الصوت في الإخبار

بموت الميت من فعل أهل الجاهلية [٤٢] .

وقد حمل النووي ما ورد عن هؤلاء على الكراهة [٤٣] .

وعند التأمل والنظر؛ يتبين أن النهي الوارد عن النعي لا يعارض ما جاء عن

النبي صلى الله عليه وسلم من نعي النجاشي ونعي الأمراء على المنبر، فإن النعي

المنهي عنه في قول حذيفة - رضي الله عنه -: «سمعت رسول الله صلى الله

عليه وسلم ينهى عن النعي» ؛ إنما هو في نعي الجاهلية، فالألف واللام للعهد

الذهني، وهو ما كان معروفاً في الجاهلية من النعي، فلقد «كان من عادتهم إذا

مات منهم شريف بعثوا راكباً إلى القبائل يقول: نعايا فلان، أو يا نعايا العرب؛

أي: هلكت العرب بمهلك فلان، ويكون مع النعي ضجيج وبكاء» [٤٤] .

فيكون النعي المنهي عنه محمولاً «على النعي لغير غرض ديني؛ مثل

إظهار التفجع على الميت، وإعظام حال موته. ويُحمل النعي الجائز على ما فيه

غرض صحيح؛ مثل طلب كثرة الجماعة تحصيلاً لدعائهم ... » [٤٥] ، وما أشبه

ذلك.

ولا يرد على هذا التوجيه «قول حذيفة - رضي الله عنه -؛ لأنه لم يقل إن

الإعلام بمجرده نعي، وإنما قال: أخاف أن يكون نعياً. وكأنه خشي أن يتولد من

الإعلام زيادة مؤدية إلى نعي الجاهلية» [٤٦] .

وعلى هذا؛ فلا حرج في الإخبار بموت الميت لكل غرض صحيح كما تقدم،

والله أعلم.

المسألة الثانية: الإعلام بالموت بنداء ورفع صوت:

ذهب جمهور أهل العلم من الحنفية [٤٧] ، والمالكية [٤٨] ، والشافعية [٤٩] ،

والحنابلة [٥٠] ؛ إلى كراهية النداء في الإعلام بموت الميت؛ لما تقدم من حديثَي

حذيفة وابن مسعود - رضي الله عنهما -. وذهب جماعة من الحنفية إلى أنه لا

يُكره النداء على الميت في الأزقة والأسواق إذا كان نداء مجرداً عن ذكر المفاخر

[٥١] . قالوا: لأن في ذلك تكثير الجماعة من المصلين والمستغفرين للميت، وليس

مثله نعي الجاهلية، فإنهم كانوا يبعثون إلى القبائل ينعون مع ضجيج وبكاء وعويل

وتعديد ونياحة [٥٢] .

ويقال في الجواب عن هذا: إن مقصود تكثير الجماعة من المصلين

والمستغفرين للميت يمكن حصوله دون النداء ورفع الصوت.

فالصواب من هذين القولين: قول الجمهور القائلين بكراهة رفع الصوت في

الإعلام بموت الميت؛ لأن النداء ورفع الصوت بموت الميت داخل من حيث

الصورة في بعض نعي الجاهلية الذي ورد النهي عنه، فإنهم كانوا يرسلون مَنْ

يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق [٥٣] .

- المطلب الثاني: صور النعي المعاصرة:

هناك العديد من الصور المعاصرة للنعي التي تحتاج إلى نظر؛ هل تدخل في

النعي المحرم أو لا؟ وقد تناولتها في المسائل التالية:

المسألة الأولى: إعلان الموت في الصحف والمجلات السيارة وما أشبهها:

إعلان الوفاة في الصحف والمجلات وما أشبهها من وسائل الإعلام العام؛

كالمنتديات والصفحات العامة في شبكة الإنترنت، كل ذلك لا يخلو أن يكون إعلاناً

مجرداً أو إعلاناً غير مجرد. ولا يخلو أيضاً أن يكون قبل الصلاة على الميت أو

بعده.

فإن كان الإعلان قبل الصلاة مجرداً عن نداء ورفع صوت وليس فيه تفجع

على الميت، ولا إعظام لحال موته، ولا تسخط فيه، ولا ضجر؛ فإن ذلك جائز،

لا سيما إذا كان الميت مما يهم الناس أمره وحاله، أو كان له شأن ومكانة في

الإسلام أو نفع علم. ولا بأس أن يقترن بالإعلان ثناء يسير مطابق للواقع يرغِّب

في الدعاء له والصلاة عليه.

ويدل لهذا نعي النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه،

ففي صحيح مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى

الله عليه وسلم: «مات عبد لله صالح: أصحمة. فقام فأمَّنا وصلى عليه» [٥٤] .

فقوله صلى الله عليه وسلم في نعيه النجاشي: «مات عبد لله صالح» ثناء عليه

وتزكية له حيث وصفه بالصلاح، وفي هذا تنشيط على الدعاء له والصلاة عليه.

ويشهد لهذا أيضاً ما رواه الشيخان من حديث أنس - رضي الله عنه - قال:

مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت» . ثم

مروا بأخرى، فأثنوا عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت» .

قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ما وجبت؟ قال النبي صلى الله عليه

وسلم: «هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له

النار. أنتم شهداء الله في الأرض» . فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على الثناء

بالخير على الجنازة، فدل على جواز ذكر الميت بما فيه من الخير.

أما إن كان الإعلان عن الموت بعد الصلاة عليه؛ فإن كان لمجرد الإعلام

بالموت فالظاهر أنه من النعي المنهي عنه؛ لأن الصحف وشبهها من الوسائل

الإعلامية هي أقرب ما تكون لمجامع الناس ومنتدياتهم في العصر الأول. ويتأكد

النهي والتحريم إذا كان الخبر متضمناً لما يثير الأحزان ويهيج على البكاء، أو كان

متضمناً الشهادة بالجنة للميت أو ما يفهم منه ذلك؛ ككتابة بعضهم في خبر الوفاة

قول الله تعالى: [يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً *

فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي] (الفجر: ٢٧-٣٠) ، فإن مثل هذا محرم لا

يجوز.

أما إن كان الإعلام بالموت بعد الصلاة على الميت لمصلحة معتبرة شرعاً

كإبراء ذمة الميت وما أشبه ذلك؛ فإن هذا جائز لا بأس به لما فيه من المصلحة.

قال شيخنا محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - في فتوى له:

«وأما الإعلان عن موت الميت: فإن كان لمصلحة مثل أن يكون الميت

واسع المعاملة مع الناس بين أخذ وإعطاء وأعلن موته لعل أحداً يكون له حق عليه

فيقضى أو نحو ذلك؛ فلا بأس» .

المسألة الثانية: إعلان الموت بالرسائل الهاتفية أو البريد الإلكتروني:

جرى عمل كثير من الناس في هذه الأيام على تبادل الرسائل الهاتفية أو البريد

الإلكتروني للإخبار بالموت، والذي يظهر أن مثل هذا إن كان لأجل الصلاة على

الميت أو الدعاء له أو تعزية المصاب به ونحو ذلك فهو مستحب؛ لأن ذلك وسيلة

لتلك الصالحات، والوسائل لها حكم الغايات، وما لا يتم الصالح إلا به فهو صالح.

وكذلك الحكم إن كان ذلك لمصلحة. ويمكن أن يقال: إن إعلان الموت بالرسائل

الهاتفية أو البريد الإلكتروني لا يخرج عما سبق من كلام أهل العلم في حكم النعي

المجرد.

المسألة الثالثة: إعلان الموت في الخطب المنبرية:

ذكر خبر وفاة عالم من العلماء أو علم من الأعلام في الخطب، سواء كانت

خطبة الجمعة أو خطبة خاصة للإعلام بموته، ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون ذلك لإخبار الناس بموت من يهمهم معرفة خبره، ولم

يسبق علم عام بموته، أو كان ذلك لمصلحة راجحة، فالذي يظهر لي أن ذلك جائز

لا حرج فيه، ولو اقترن به ثناء يسير مطابق للواقع، وسواء كان الإعلان في

خطبة الجمعة أو في خطبة خاصة للإعلام بموته.

ويدل لهذا ما رواه البخاري من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال:

خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها

جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن

غير إمرة، ففتح له، وقال: ما يسرهم أنهم عندنا. وعيناه تذرفان» [٥٥] .

ويشهد له أيضاً أن أبا بكر - رضي الله عنه - خطب الناس لما اضطربوا في

وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن تيقن موته صلى الله عليه وسلم، فقال في

خطبته المشهورة: «أما بعد، من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً

قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت» [٥٦] .

أما دليل جواز الثناء اليسير المطابق للواقع في خبر الوفاة: ما رواه مسلم من

حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مات عبد

لله صالح: أصحمة. فقام فأمَّنا وصلى عليه» [٥٧] .

ويحسن في مثل هذا المقام إن كان الناس مصابين أن يصبرهم ببيان أن ما

أصاب الميت أمر آتٍ على كل أحد، وأنه سبيل لا بد منه، وباب لا بد من دخوله،

وأن يبين وجوب الصبر وفضله وجميل عاقبته، وسوء منقلب التسخط والضجر.

القسم الثاني: ألا يكون غرض صحيح من الإخبار بموت الميت، أو أن

يكون الخطيب قد أكثر من ذكر مآثر الميت وفضائله وأعماله وصفاته أو عظيم

الخسارة بموته، فإن ذلك لا يجوز، وهو من النعي المحرم؛ إذ هو نظير ما كان

يفعله أهل الجاهلية من بعث المنادي ينادي بموت الميت ويذكر مآثره ومفاخره.

وقد تقدم في الكلام عن النعي ما يدل على تحريم هذا القسم، ولا سيما أن

كثيراً من الخطباء يذكر في كلامه ما يهيِّج الأحزان ويضعف عن الصبر، ويبعد

المصابين بالميت عن السلوة. ولا يشك عالم بموارد الشريعة ومصادرها أن مثل

هذا لا يجوز.

المسألة الرابعة: المحاضرات العلمية والمشاركات الإعلامية:

مما انتشر بين الناس في الأزمنة المتأخرة أنه إذا مات عالم من العلماء أو علم

من الأعلام طُلب من طلابه أو معارفه أو أقاربه أو زملائه أو من لهم صلة به أن

يتحدثوا عنه؛ إما في مشاركات إذاعية أو مرئية أو محاضرات أو ندوات أو مقالات

أو تعليقات. ويتلخص ذلك كله في أنه عدٌّ لمحاسن الميت، وإبرازٌ لجوانب

شخصيته والثناء عليه.. وما أشبه ذلك.

والذي يظهر لي أن مثل هذه الأعمال تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ما كان وقت المصيبة قبل السلو عنها؛ فهذا داخل في النعي

المنهي عنه؛ لأن مؤداه التفجع على الميت وإعظام حال موته، وأن بموته تنقطع

المصالح، ويعز وجود نظيره، وفي هذا تجديد الأحزان، ونكء الآلام، ومخالفة

مقصود الشرع من تخفيف المصاب وتسهيله؛ ليكون ذلك عوناً في الصبر على

قضاء الله وقدره.

القسم الثاني: ما كان بعد السلوة وبرود المصيبة؛ فلا بأس بذلك من حيث

الأصل، فإن كان الغرض منه التأسي بالصالحين والاقتداء بهم؛ فإن ذلك مستحب

لما يتضمنه من الدعوة إلى الخير، والتأسي بالصالحين، وعلى هذا بناء كثير من

كتب السير والتراجم والأعلام.

ومما يدل لذلك ما جاء في صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب - رضي الله

عنه - خطب يوم الجمعة فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم وذكر أبا بكر - رضي

الله عنه -[٥٨] .

المسألة الخامسة: المراثي:

للعلماء - رحمهم الله - في رثاء الأموات قولان في الجملة:

القول الأول: أنه لا بأس بالمراثي، وهذا مذهب الحنفية [٥٩] ، والشافعية

[٦٠] . واستدل هؤلاء بأن الكثير من الصحابة - رضي الله عنهم - فعله، وكذلك

فعله كثير من أهل العلم [٦١] .

القول الثاني: أنه تكره المراثي، وهو قول للشافعية [٦٢] .

واستدل هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن المراثي، فعن عبد

الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم

عن المراثي» ، رواه الإمام أحمد [٦٣] ، وابن ماجه [٦٤] . وهو عند ابن أبي شيبة

بلفظ: «ينهانا عن المراثي» [٦٥] .

ومدار الحديث على إبراهيم الهجري الراوي عن عبد الله. قال عنه

البوصيري في مصباح الزجاجة: وهو ضعيف جداً، ضعفه سفيان بن عيينة،

ويحيى بن معين، والنسائي وغيرهم [٦٦] . وقال عنه البخاري: منكر الحديث.

قالوا: «والأولى الاستغفار له، ويظهر حمل النهي عن ذلك على ما يظهر

فيه تبرم أو على فعله مع الاجتماع له، أو على الإكثار منه، أو على ما يجدد

الأحزان دون ما عدا ذلك، فإن الكثير من الصحابة وغيرهم من العلماء يفعلونه»

[٦٧] .

وقد قسّم القرافي المراثي إلى أربعة أقسام باعتبار حكمها [٦٨] :

«الأول: المراثي المباحة، وهي الخالية عن التحريم من ضجر أو تسخط

أو تسفيه للقضاء، وما أشبه ذلك.

الثاني: المراثي المندوبة، وهي ما كان مسهلاً للمصيبة، مذهباً للحزن،

محسناً لتصرف القضاء مثنياً على الرب تعالى.

الثالث: المراثي المحرمة الكبيرة، وهي ما كان فيه اعتراض على القضاء،

وتعظيم لشأن الميت، وأن موته خلاف الحكمة والمصلحة، وما أشبه ذلك.

الرابع: المراثي المحرمة الصغيرة، وهي ما كان مبعداً للسلوة عن أهل

الميت، مهيجاً للأسف، معذباً للنفوس» .

وهذا تفصيل حسن، فيحمل ما جاء من النهي عن المراثي على القول بثبوته

على القسمين الثالث والرابع، قال ابن حجر عندما ذكر رثاء النبي صلى الله عليه

وسلم لسعد بن خولة - رضي الله عنه -: (وليس معارضاً لنهيه عن المراثي التي

هي ذكر أوصاف الميت الباعثة على تهييج الحزن وتجديد اللوعة، وهذا هو المراد

بما أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث عبد الله بن أبي أوفى

- رضي الله عنه - قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي» ،

وهو عند ابن أبي شيبة بلفظ: «نهانا أن نتراثى» ، ولا شك أن الجامع بين

الأمرين التوجع والتحزن) [٦٩] ، والله أعلم.


(*) مدرس بالجامع الكبير بعنيزة، ومحاضر في جامعة الإمام محمد الإسلامية بالقصيم.
(١) معجم مقاييس اللغة، ص (١٠٣٦) ، وانظر: لسان العرب، (١٥/٣٣٤) .
(٢) جامع الترمذي، ص (٢٣٩) .
(٣) (٥ / ٨٥) .
(٤) حاشية ابن عابدين، (٣/٧٢) .
(٥) (١/٣٤٥) .
(٦) (١/٣٣١) .
(٧) تسلية أهل المصائب، ص (٨٢) .
(٨) معجم مقاييس اللغة، ص (١٠٢١) .
(٩) لسان العرب، (١/٧٥٤) .
(١٠) المصباح المنير.
(١١) (٥/٣٤) .
(١٢) تحرير ألفاظ التنبيه، ص (١٠٠) .
(١٣) (١/٣١٥) .
(١٤) تسلية أهل المصائب، ص (٦٣) .
(١٥) معجم مقاييس اللغة، ص (١٠٢١) .
(١٦) المعجم الوسيط.
(١٧) (١/٣٨٤) .
(١٨) (١/٣٦١) .
(١٩) ينظر: الفروع، (٢/٢٢٧) ، الإنصاف، (٢/٥٦٩) .
(٢٠) الفروق، (٢/١٧٢) .
(٢١) لسان العرب، (١٤/٣٠٩) .
(٢٢) الفائق، (٢/٣٦) .
(٢٣) فتح الباري، (٣/١٦٤، ١٦٥) .
(٢٤) لسان العرب، (١٣/٥) .
(٢٥) فتح القدير، (٢/١٢٧) .
(٢٦) حاشية الدسوقي، (١/٤٢٤) .
(٢٧) نهاية المحتاج، (٣/٢٠) .
(٢٨) الإقناع، (١/٣٣١) .
(٢٩) تحفة الأحوذي، (٤/٦١) ، السيل الجرار، (١/٣٣٩) .
(٣٠) العناية شرح الهداية، (٣/٢٦٧) ، الخرشي على مختصر خليل، (٢/١٣٩) ، الأذكار، للنووي، ص (٢٢٦) .
(٣١) البخاري، رقم (١١٦٨) ، مسلم، رقم (١٥٨٠) .
(٣٢) البخاري، رقم (٤٣٨) ، مسلم، رقم (١٥٨٨) .
(٣٣) (٣٤٧٤) .
(٣٤) نهاية المحتاج، (٣/٢٠) .
(٣٥) الاستذكار، (٣/٢٦) .
(٣٦) الاستذكار، (٣/٢٦) .
(٣٧) السنن الكبرى، للبيهقي، (٤/٧٤) .
(٣٨) رواه أحمد (٢٣٨٤٨) ، الترمذي، رقم (٩٨٦) ، ابن ماجه، رقم (١٤٧٦) ، وهو من رواية بلال بن يحيى العبسي عن حذيفة رضي الله عنه، وقد قال ابن معين عن هذا الطريق: إنه مرسل، انظر: تحفة التحصيل، ٤٠، وممن رجح كون روايته عن حذيفة مرسلة ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، (٢/٣٩٦) .
(٣٩) فتح الباري، (٣/١١٧) .
(٤٠) (٩٠٦) ، وقد روى الترمذي هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً، وموقوفاً، وقال عن الموقوف: وهذا أصح، ثم قال عن المرفوع: حديث عبد الله: حسن غريب.
(٤١) جامع الترمذي، رقم (٩٨٦) .
(٤٢) الأذكار، للنووي، ص (٢٢٦) .
(٤٣) المجموع شرح المهذب، (٥/٢١٦) .
(٤٤) الأذكار، للنووي، ص (٢٢٦) .
(٤٥) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، (٢/١٥٨) .
(٤٦) المجموع شرح المهذب، (٥/٢١٦) .
(٤٧) العناية شرح الهداية، (٣/٢٦٧) .
(٤٨) الخرشي على مختصر خليل، (٢/١٣٩) .
(٤٩) المهذب، (١/١٣٢) .
(٥٠) الشرح الكبير، (٦/٢٨٧) .
(٥١) فتح القدير، (٢/١٢٨) .
(٥٢) فتح القدير، (٢/١٢٨) .
(٥٣) فتح الباري، (٣/١١٧) .
(٥٤) رواه مسلم، رقم (١٥٨٣) .
(٥٥) رواه البخاري، رقم (٣٠٦٣) .
(٥٦) رواه البخاري، رقم (٤٤٥٤) .
(٥٧) رواه مسلم، رقم (١٥٨٣) .
(٥٨) رواه مسلم، رقم (٨٧٩) .
(٥٩) حاشية ابن عابدين، (٢/٢٣٩) .
(٦٠) نهاية المحتاج، (٣/١٧) .
(٦١) شرح المنهاج، للجمل، (٢/٢١٥) .
(٦٢) نهاية المحتاج، (٣/١٧) .
(٦٣) المسند، رقم (١٨٣٥١) .
(٦٤) سنن ابن ماجه، رقم (١٥٨١) .
(٦٥) (٣/٢٦٦) .
(٦٦) (٢/٤٨) .
(٦٧) نهاية المحتاج، (٣/١٧) .
(٦٨) الفروق، (٢/١٧٣ ١٧٤، ١٨١، ١٨٢) .
(٦٩) ينظر: فتح الباري، (٣/١٦٤، ١٦٥) .