للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفات شرعية مع جريمة الإساءة إلى مقام النبي -صلى الله عليه وسلم-]

الشيخ محمد بن صالح المنجد

ساء كلّ مسلم غيور على دينه ما قام به السفهاء المجرمون من الاستهزاء بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أفضل من وطئت قدماه الثرى، وهو سيد الأولين والآخرين صلوات ربي وسلامه عليه.

وهذه الوقاحة ليست غريبة عنهم؛ فهم أحق بها وأهلها؛ فقد كفروا بالله ـ تعالى ـ وسبوه ونسبوا إليه الصاحبة والولد.

فماذا ينقم هؤلاء من سيد البشر محمد -صلى الله عليه وسلم-؟!

هل ينقمون منه أنه دعا إلى توحيد الله ـ تعالى ـ وهم لا يؤمنون لله بالوحدانية؟

أم ينقمون منه أنه عَظَّمَ ربه تبارك ـ وتعالى ـ ونزَّهه عما يقوله هؤلاء المفترون، وهم ينسبون إليه النقص والصاحبة والولد؟

أم ينقمون منه أنه دعا إلى معالي الأخلاق، وتَرْك سفسافها، ودعا إلى الفضيلة، وسد كل باب يؤدي إلى الرذيلة، وهم يريدونها فوضى أخلاقية وجنسية عارمة؟

يريدون أن يغرقوا في مستنقع الشهوات والرذيلة، وقد كان لهم ما أرادوا!

أم ينقمون منه أنه رسول الله؛ والله ـ تعالى ـ هو الذي اصطفاه على الناس برسالته ووحيه؟

ودلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم- أكثر من أن تحصر: شق الله له القمر ليُري الكفار آية، ونبع الماء من بين أصابعه -صلى الله عليه وسلم- مرات، وتكلمت الشاة المسمومة فأخبرته أن بذراعها سُمّاً، وأعطاه خمساً لم يعطهن أحداً من الأنبياء قبله، منها نصره بالرعب مسيرة شهر، وبعثه للناس كافة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ: ٢٨] .

أم لم يسمعوا عن آيته الكبرى، هذا القرآن الكريم، كلام رب العالمين، الذي حفظه الله ـ تعالى ـ فلم تمتد إليه يد العابثين المحرفين، أما كتبهم المنزلة على أنبيائهم فتلاعبوا بها أيما تلاعب: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: ٧٩] .

بل من أعظم الأدلة على صدق نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، بقاء دينه هذه القرون الطويلة ظاهراً منصوراً، وقد كان أمره -صلى الله عليه وسلم- في حياته دائماً إلى ظهور وعلو على أعدائه، وحكمة الله ـ تعالى ـ تأبى أن يُمَكِّن كاذباً عليه وعلى دينه من العلو في الأرض هذه المدة الطويلة، بل في كتبهم التي كتمها علماؤهم وحرفوها أن الكذاب (مدعي النبوة) لا يمكن أن يبقى إلا مدة يسيرة ثم ينكشف أمره ويضمحل.

كما ذُكِر عن أحد ملوكهم أنه أُتِي برجل من أهل دينه (نصراني) كان يسب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويرميه بالكذب، فجمع الملك علماء ملته، وسألهم: كم يبقى الكذاب؟ فقالوا: كذا وكذا. ثلاثين سنة، أو نحوها، فقال الملك: وهذا دين محمد له أكثر من خمسمائة سنة، أو ستمائة سنة (يعني: في أيام هذا الملك) ، وهو ظاهر مقبول متبوع؛ فكيف يكون هذا كذاباً؟ ثم ضرب عنق ذلك الرجل (١) !!

ألم يعلموا أن كثيراًً من عقلائهم وملوكهم وعلمائهم لما وصلت إليهم دعوة الإسلام بيضاء نقية لم يملكوا إلا الإقرار بصحة هذا الدين، وعَظَّموا النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم من أعلن الدخول في الإسلام.

فقد أقر ملك الحبشة النجاشي بذلك، ودخل في الإسلام.

ولما أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاباً إلى هرقل ملك الروم يدعوه فيه إلى الإسلام أقرّ هرقل بصحة نبوته، وهمّ أن يُعلن إسلامه وتمنى أن يذهب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويكون خادماً عنده، إلا أنه خاف على نفسه من أهل ملته ثم ضنَّ بملكه وأخذته شهوة الرئاسة، فبقي على الكفر ومات عليه.

ولم يزل الكثير من مفكريهم وكتّابهم ومؤرخيهم المنصفين يعلنون الثناء على محمد -صلى الله عليه وسلم-.

١ ـ برنارد شو الإنكليزي، له مؤلف أسماه (محمد) يقول:

«إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد، وإنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوّاً للنصرانية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للنصرانية، بل يجب أنْ يسمّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لوُفّق في حلّ مشكلاتنا بما يؤمِّن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها» .

٢ ـ ويقول آن بيزيت:

«من المستحيل لأي شخص يدرس حياة وشخصية نبي العرب العظيم ويعرف كيف عاش هذا النبي وكيف علَّم الناس، إلا أن يشعر بتبجيل هذا النبي الجليل، أحد رسل الله العظماء» .

٣ ـ شبرك النمساوي:

«إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها؛ إذ إنّه رغم أُمّيته، استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون، إذا توصلنا إلى قمّته» .

٤ ـ ويقول (جوته) المفكر الألماني: «إننا أهل أوروبا بجميع مفاهيمنا، لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، وسوف لا يتقدم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مَثَلٍ أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي محمد، وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما نجح محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد» (٢) .

وقد ميز الله ـ سبحانه وتعالى ـ نبينا محمداًً -صلى الله عليه وسلم- وكرَّمه بعدد من المعجزات الباهرات كما خصه بأشياء دون غيره من الأنبياء، ومعرفة هذه الخصائص تزيدنا في معرفة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتجعلنا نحبه ويزداد إيماننا به فنزداد له تبجيلاً ونزداد له شوقاً.

والخصائص النبوية: (هي الفضائل والأمور التي انفرد بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وامتاز بها إما عن إخوانه الأنبياء وإمّا عن سائر البشر) .

فاقَ البُدورَ وَفاقَ الأَنبِياءَ فَكَم

بِالخُلقِ وَالخَلقِ مِن حُسنٍ وَمِن عِظَمِ

وخصائصه ـ عليه الصلاة والسلام ـ التي اختُص بها دون بقية الأنبياء ـ عليهم السلام ـ كثيرة، دنيوية وأخروية.

٣ فمن الخصائص الدنيوية:

اختصاصه -صلى الله عليه وسلم- بأن آيته العظمى في كتابه وبأن كتابه مشتمل على ما اشتملت عليه الكتب السابقة، وفُضِّل بالمفصَّل وبخواتيم سورة البقرة وببقاء معجزته إلى يوم الدين.

جاءَ النبِيّونَ بِالآياتِ فَانصَرَمَت وَجِئتَنا بِحَكيمٍ غَيرِ مُنصَرِمِ

ومنها: اختصاص النبي -صلى الله عليه وسلم- بكونه خاتم النبيين وبإرساله إلى الثقلين ومنها: اختصاص النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن السماء حُرست بمبعثه، وباختصاصه بالإسراء والمعراج، وأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أَمَّهم جميعاً فكانوا وراءه، هو الإمام وهم المأمومون، واختصاصه بأخذ الميثاق له من جميع الأنبياء بالإيمان به ونصرته وأنه سيد ولد آدم، وبأنه أوتي مفاتيح خزائن الأرض.

٣ وأما خصائصه الأخروية فمنها:

اختصاصه -صلى الله عليه وسلم- بأنه أول من تُشَق عنه الأرض يوم القيامة وبإعطائه لواء الحمد، وبأن الله ـ تعالى ـ يبعثه يوم القيامة مقاماً محموداً وأنه أول من يدخل الجنة يوم القيامة، وبأنه أول شفيع في الجنة وأول من يقرع بابها، وبأنه أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة ويدخل من أمته الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، وبأنه أول من يجوز الصراط من الرسل بأمته وبإعطائه الكوثر: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: ١١٣] .

ربَّاكَ ربُّكَ.. جلَّ من ربَّاكا ورعاكَ في كنفِ الهدى وحماكاَ

سبحانه أعطاك فيضَ فضائلٍ لم يُعْطها في العالمين سواكاَ

ولما كان ذلك كذلك فإن من واجب العالم كله ـ ولا محيص له عن ذلك ـ أن يجعل عظمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في الخلق جميعًا فوق كل عظمة، وفضله فوق كل فضل، وتقديره أكبر من كل تقدير، ويجب على العالم أجمع أن يؤمن برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنه خاتم أنبياء الله الكرام.

ونحن نغتنم هذه الفرصة وندعو هؤلاء إلى الإسلام، فإن ما اقترفته أيديهم الآثمة لا يمحوه إلا الإسلام، فإن عاندوا وكابروا وأصروا على ما هم عليه فليبشروا بعذاب النار خالدين فيها أبداً. قال الله ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: ٧٢] .

وقال ـ تعالى ـ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: ٨٥] .

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» رواه مسلم (١٥٣) .

٣ ولنا مع هذا الحدث وقفات:

أولاً: مصالح وبشارات:

قال الله ـ تعالى ـ: {عَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: ١٩] . وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ» رواه مسلم (٢٩٩٩) .

وقديماً قيل:

قد يُنْعِمُ اللهُ بالبلوى وإنْ عَظُمَتْ ويبتلي اللهُ بعضَ الخلقِ بالنعمِ

وقيل: وربما صحت الأبدان بالعلل.

فما وقع من الاستهزاء أثار حميّةَ المسلمين للهِ ـ تعالى ـ ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأيقظهم من سباتهم، وبصّرهم بأعدائهم؛ فهي طعنة آلمتنا ولكنها أيقظتنا، وقد قال الله ـ تعالى ـ في حادثة الإفك التي هي صورة من صور أذيَّته -صلى الله عليه وسلم-: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور: ١١] .

فمثل هذه الهجمات صارت سبباً في حصول خير كثير للمسلمين، وحصول الخزي والصغار لأعدائهم، فمن ذلك:

اختلاف الأعداء وانقسامهم:

إذ حصل خلاف بين الشركات الكبرى التي تأثرت من المقاطعة من جهة والجهات التي نشرت ما نشرت من جهة أخرى، كما انقسم الشعب الدانماركي على نفسه إزاء ما حصل: هل هو فعلاً من حرية الرأي؟ أم أنه اعتداء وعدوان؟

علو الصوت الإسلامي:

فهذه الأزمة أعادت الاعتبار للمسلمين وجعلت لهم وزناً، وأصبح كل حاقد على الإسلام يعيد حساباته قبل أن ينال من الإسلام وأهله.

وتملَّق الكثير من المنافقين للمد الإسلامي، واشترك بعضهم في المقاطعة قائلاً: لقد تعدَّت القضية الخط الأحمر، بل حتى إن بعض القنوات الهابطة أصبحت تعلن أخبار الغضب الإسلامي وتظهر تأييده، وفرضت مجريات الأحداث على وسائل الإعلام العالمية أن تقوم بتغطيتها تغطية كاملة، وتكلَّم الساسة الكبار وزعماء الدول وأدلوا بتصريحات حول الموضوع.

في الأمة خير كثير:

أثبتتْ هذه الحادثة الدنيئة، أنَّ أمّتنا أمّة عظيمة، وأنها إذا مرضت فإنها لا تموت، وفيها رجال يذودون بكل ما أوتوا دونَ نبيّهم الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وأن فيها خيراً كثيراً، ولكنها تعيش فترة من التخدير والخمول، وأنها إذا استيقظت فستتحرك كالبركان، وهذا ما رأيناه من التسابق في المساهمة والبذل، وما نسمعه من استنفار الأمة كلها، والتحرك في جميع المجالات؛ حيث شارك في هذه الحملة المحامون والتجار والصناع والأكاديميون والطلاب والصغار والكبار والرجال والنساء.

ـ توحيد صفوف المسلمين، فرأينا ـ ولله الحمد ـ تكاتف المسلمين وتبنّيهم لنفس المواقف، وإن اختلفت البلدان، واللغات. ويمكننا القول: إن الأمة الإسلامية في العصر الحديث قلَّما قابلت حدثاً كان له مثل هذا التأثير.

عرضي فدا عرض الحبيب محمد وفداه مهجةُ خافقي وجَنانيِ

وفداه كلُّ صغيرنا وكبيرنا وفداه ما نظرت له العينانِ

ـ إحياء جذوة الإيمان في قلوب المسلمين، فقد رأينا من ردة فعل المسلمين ما يدل على محبتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى من عنده شيء من التفريط في بعض واجبات الدين، ثار دفاعاً عن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-. ولا عجب في ذلك؛ فإن للرسول -صلى الله عليه وسلم- في قلوب المسلمين المكانة العظمى والمحبة الكبرى.

ـ ظهر في الأزمة أن أهل التوحيد الخالص هم أهل النصرة والمحبة الحقيقية، بخلاف بعض أهل البدع والخرافات الذين ضعفت أصواتهم ـ إلا ما قلَّ ـ في الذود عن عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- في أوَّل الأمر، فدعوى محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وآل بيته وحدها لا تكفي، بل لا بد من النصرة بالقول والعمل والمبادرة إلى ذلك.

ـ تبين من الأزمة حرص عدد من الغيورين على الدعوة إلى الإسلام، وبيان الصورة المشرقة الحقيقية لهذا الدين، من خلال ما رأينا من تسابق الكثيرين إلى طباعة الكتب بلغة أولئك وبذل المال في سبيل هذا، وهذا مظهر يُحمَد ويحتاج إلى ترشيد ووعي.

ـ مسايرة الإعلام وبعض كبار المسؤولين لمواقف الشعوب الإسلامية وحركتها المباركة.

ـ إرسال رسالة واضحة للغرب، أننا ـ نحن المسلمين ـ لا نرضى أبداً أن يُمَسَّ دينُنا أو يُنَال منه، أو يعتدى على رسولنا؛ فكلّنا فداء له؛ بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-.

فإنَّ أبي ووالدَه وعِرْضي لعِرضِ محمدٍ منكم فداءُ

{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} :

قال ابن سعدي ـ رحمه الله ـ: (وقد فعل ـ تعالى ـ فما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة) ، فهذه الجريمة النكراء ـ مع أنها تمزق قلوبنا، وتملؤها غيظاً وغضباً، ونود أن نفدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنفسنا ـ إلا أنها مع ذلك مما نستبشر به بهلاك هؤلاء، وقرب زوال دولتهم؛ إذ الله ـ تعالى ـ يكفي نبيه -صلى الله عليه وسلم- المستهزئين المجرمين.

وقد كان المسلمون إذا حاصروا أهل حصن واستعصى عليهم، ثم سمعوهم يقعون في النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسبونه، يستبشرون بقرب الفتح، ثم ما هو إلا وقت يسير، ويأتي الله ـ تعالى ـ بالفتح من عنده؛ انتقاماً لرسوله -صلى الله عليه وسلم-.

«الصارم المسلول» (ص ١١٦-١١٧) .

وشواهد التاريخ كثيرة على هلاك وفضيحة المستهزئين بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.

ظهور اتحاد الغرب على الإسلام:

فما أن استنجدت تلك الدولة باتحادهم حتى وقفوا جميعاً بجانبها، وتواصى بعض المجرمين على نشر هذه الصور في صحافتهم تعاوناً على الإثم والعدوان وتفتيتاً للمقاطعة وتأكيداً لحرية النشر بزعمهم، وكان بعض ساستهم يأسف لإهانة مشاعر المسلمين ثم يتصل بكبير الدانمارك ليؤيده ويقول: {إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: ١٤] ، حتى يُعلموا المسلمين أنهم جميعاً في خندق واحد، وأننا لا نستطيع مواجهتهم جميعاً.

ظهور الحقد الصليبي الدفين:

حيث عبَّر بعض مسؤوليهم عن أنه لا بد من إيقاف المقاطعة ولو أدى ذلك إلى شن حرب صليبية جديدة، وهذا وإن لم يصرح به كثير منهم إلا أنها زلة تمثل رأي طائفة منهم: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: ١١٨] .

اتضاح غطرسة الغرب وعناده:

فهو يرفض الاعتذار حكومةً وشعباً وينظر للمسلمين نظرة استحقار، بل يصرح بعض مسؤوليهم أنهم لا يريدون الاعتذار ولا يرغبون فيه.

اتضح في هذه الأزمة موقف المنافقين:

وهم الواقفون مواقف الرّيبة من هذه الجريمة، إمّا بالسّكوت تارة، أو بالتّبرير تارة، أو بالتّهوين تارة، أو بالاستهزاء من استنكار المسلمين لهذه الجريمة تارات وتارات.

ازدياد أهمية التقليل من الحجم الهائل لمستوردات الدول الإسلامية من العالم الغربي:

والسعي للتعويض عن ذلك بمنتجات دول إسلامية أخرى من خلال اشتراك الموارد مع المال مع الخبرات.

ظهور جدوى تلك المقاطعة التي قام بها المسلمون لمنتجات المعتدين على مقام الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-:

فلم تتحرك دولتهم لمطالب رسمية أو سياسية، لكن لما قامت المقاطعة لم يمض عليها إلا أيام قليلة حتى هبت الصحيفة الآثمة ورئيس تحريرها لتدارك الأمر، وتغير أسلوب رئيس وزرائهم المكابر، فَلانَ شيئاً ما مع المسلمين ـ لا بل مع مصالحه ـ وبهذا يظهر سلاح جديد للمسلمين أفراداً وجماعات يمكن أن يستخدموه للتأثير على أعدائهم، وإلحاق الضرر بهم.

٣ المقاطعة الاقتصادية (١) :

لا شك أن للاقتصاد في هذا الزمن تأثيراً كبيراً وفعَّالاً على مواقف الدول واتجاهاتها؛ وقد أصبحت الدعوة إلى مقاطعة البضائع والمنتجات التي تصدِّرها الدول التي تحارب المسلمين من وسائل الضغط عليها لتوقف أو تخفف من موقفها المعادي للمسلمين.

وسلاح المقاطعة سلاح مؤثر بلا شك في المواجهة مع الأعداء.

وقد استُخدم هذا السلاح قديماً وحديثاً.

فقديماً: استخدمته قريش ضد النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يسمى بـ «شِعْب أبي طالب» ، واستمر ثلاث سنوات، وكان تأثيره على المسلمين بالغاً.

وهدد به ثمامة بن أثال قريشاً عندما منع الحنطة من بلاد نجد، حتى جاءت قريش وناشدت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأذن لثمامة أن يبيعهم الحنطة. والقصة في صحيح البخاري برقم (٤٣٧٢) .

وأما حديثاً: فقد استُخدمت المقاطعة في الحرب العالمية بين المتحاربين، واستُخدمت مؤخراً ضد عدد من البلاد الإسلامية كالعراق وليبيا وأفغانستان والسودان.

واستخدمتها الدول الإسلامية قبل معاهدات السلام ضد الشركات المتعاونة مع إسرائيل.

وفي الحقيقة إن المتابع لمجريات الأحداث يلمس ما لهذه المقاطعة من آثارٍ كبيرة تدفع بعض الشركات إلى التبرُّؤ من العدوان والضغط على الساسة في بلدانهم لاتخاذ ما يوقفها.

هذا من الناحية الواقعية، أما من ناحية الحكم الشرعي للمقاطعة الاقتصادية:

فإن الأصل جواز معاملة الكفار بالبيع والشراء سواء كانوا أهل ذمّة أو عهد أو محاربين، فلا تُمنع المقاطعة، ولا تُشرع، ولكن هذا الحكم قد يتغير بالنظر إلى ما يترتب على المقاطعة الاقتصادية من مصالح أو مفاسد:

فإذا غلب على الظن إفضاء المقاطعة الاقتصادية إلى الإضرار بالكفار الحربيين من غير أن يترتب على ذلك مفسدة تعود على المسلمين، فهنا يتأكد الأمر وقد يصل إلى الوجوب؛ فكل ما يُلحِق الضرر بمن أعلن لنا العداء مطلوب ومأمور به، ولا شك أن التعامل التجاري والاقتصادي الحاصل في هذا الزمن يباين التعاملات التجارية في الأزمان السابقة؛ فهو الآن أوسع وأشمل، ولا شك في ارتباط الاقتصاد الآن بالسياسة وتأثيره، وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على قريش أن تضَّيق عليهم معيشتهم؛ فعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما دعا قريشاً كذبوه واستعصوا عليه، فقال: «اللهم أعني عليهم بسبعٍ كسبع يوسف» فأصابتهم سَنَةٌ حصّت كل شيء (أي أذْهَبَتْه) (١) حتى كانوا يأكلون الميتة، وكان يقوم أحدهم، فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجَهْد والجوع، فأتاه أبو سفيان فقال: أيْ محمد! إن قومك هلكوا؛ فادع الله أن يكشف عنهم. (صحيح البخاري ٤٨٢٣) .

ففي هذا إشارة إلى استخدام السلاح الاقتصادي ضد الأعداء المحاربين.

ـ وإذا كانت المقاطعة الاقتصادية لا يترتب عليها إضرار بالكفار، بل تعود على المسلمين أنفسهم بالضرر، فهنا يتوجه القول بالتحريم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «الفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة يُنْهى عنه» . «مجموع الفتاوى» (١/١٦٤) .

ـ وأما إذا كانت المقاطعة الاقتصادية ستوقع الضرر بالكفار لكنها في المقابل ستوقع ضرراً بالمسلمين أيضاً؛ فهنا تعارضت مصلحة الإضرار بالكفار مع مفسدة وقوع الضرر على المسلمين، فينظر: فإن كانت المفسدة على المسلمين غالبة منعت المقاطعة، وإن كانت المصلحة بمقاطعتهم غالبة كانت مأموراً بها، وإن تساوت المصلحة والمفسدة فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

ـ وأما إذا كانت المقاطعة الاقتصادية لا مصلحة فيها من حيث الإضرار بالكفار، ولا مفسدة فيها على المسلمين، فلا حرج من القول باستحبابها؛ لأنها تكون من وسائل التعبير عن السخط ضد ممارسات الكفار العدوانية، فلو لم ينتج عن هذه المقاطعة إلا التعبير عن عقيدة الولاء بين أهل الإيمان والبراءة من أهل الشرك والكفران، والتعبير كذلك عن إرادة الشعوب الإسلامية لكفى، فهي على الأقل «تسجيل موقف للشعوب الإسلامية» .

٣ دعوات وشعارات تساقطت:

لقد أظهرت هذه الأزمة حقائق كانت خافية على جمّ غفير من الناس؛ فهؤلاء القوم الذين ما فتئوا يدَّعون أن بلادهم رمز للحرية والديمقراطية، ويتشدَّقون باحترامهم لجميع الأديان، أظهرت هذه الأزمة ما تنطوي عليه قلوب هؤلاء المجرمين من الحقد والكره للمسلمين، وإن تظاهروا في كثير من الأحيان أنهم مسالمون: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: ١١٨] .

ومنها: انكشاف تزوير الغرب في معاييره؛ فهنا يحتجُّون بحرية الرأي والتعبير، وكل عاقل يعلم أن حرية الرأي المزعومة تقف عند المساس بحرمة الآخرين والاعتداء عليهم، وهم كاذبون في دعواهم حرية الرأي؛ فكلنا يذكر ما حدث منذ سنوات قريبة عندما أقدمت حكومة إسلامية على تكسير أوثان وأصنام عندها، أقاموا الدنيا وما أقعدوها!! فأين كانت حرية الرأي المزعومة؟! ولماذا لم يعتبروا هذا أيضاً من حرية الرأي؟!

وإذا كان الشرع والعقل بل والقانون يمنع الإنسان أن يتصرف في بيته بما يؤذي جاره، كالأصوات المزعجة أو الروائح الكريهة؛ فكيف تُقْدِم الصحيفة على هذه الجريمة التي فيها استهانة بمشاعر مليار و٣٠٠ مليون مسلم، ثم تحتج بحرية الرأي؟

ومنها: بيان بطلان ما يدعو إليه بعض المتغربين من أبناء جلدتنا بمثل قولهم: (لا تقولوا على غير المسلمين كفاراً، بل قولوا «الآخر» حتى لا تشعلوا نار الفتنة بيننا وبينهم) .

فتبيَّن من الجريمة من الذي يكره الآخر، ولا يراعي حرمته ويعلن الحرب عليه.

ومنها: كذب دعاويهم التي ملؤوا بها الدنيا من (حوار الحضارات) القائم على احترام الآخر، وعدم الاعتداء عليه!! فأي حوار يريدون؟ وأي احترام يزعمون؟

إنهم يريدون منا أن نحترمهم ونوقرهم ونعظمهم، بل ونركع لهم ونسجد، أما هم فلا يزدادون إلا استهزاءً بنا وسخرية وظلماً!

ـ ومن المعاني التي تساقطت أيضاً في هذه الأزمة: انهزامية الأمة تجاه الغرب، فقد كان الغربيون ينظرون إلى الأمة الإسلامية كأنها الرجل المريض الذي أُصِيب بالشلل، فمهما ضربته فلن يتأوه، ولن يكون له رد فعل، ثم إذا بالموازين تنقلب بعد نشر تلك الرسومات، وبدأ رئيس الوزراء الدانماركي ـ الذي كان يرفض مجرد لقاء سفراء البلاد الإسلامية في بلده ـ يستأجر بعض القنوات العربية للظهور في مقابلات، محاولاً تبرير موقفه وموقف بلاده، وكذلك رأينا رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يتحدث منتقداً هذه الرسومات، وكذا الرئيس الفرنسي والأمين العام للأمم المتحدة وغيرهم من الساسة؛ إذ أذهلتهم ردود أفعال المسلمين فكان لا بد لهم من التحدث بالاستنكار ولو تصنُّعاً ومجاراةً.

فظهر أن مرض الأمة مؤقت، وأنها متى أخذت بأسباب السلامة والعافية ـ ومن أعظمها: اتحادها ـ فسوف تفعل الكثير والكثير.

٣ المخذلون كثر:

في ظل توحد المسلمين واجتماع كلمتهم على موقف واحد في التصدي لهذه الهجمة يُسَرُّ المرء لما يرى ويشاهد من الغَيْرة الإسلامية العظيمة المتولدة من الغضب لانتهاك حرمته -صلى الله عليه وسلم-.

إلا أننا نرى هنا وهناك من يحاول تخذيل المسلمين، والوقوف في صف أعدائهم.

فقد أغاظتْ هذه المقاطعة كثيراً من المنافقين، فحاولوا التبرير تارة، والتهوين تارة، وزعم الإصلاح وإرادة الخير تارة أخرى!

فمِن زاعمٍ أَنَّ المقاطعة ستقطع الحوار معهم!

وهل نقبل الحوار مع من يهزأ بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويسخر بثوابتنا؟!

ومن زاعمٍ: أَنَّ سبب جناية تلك الصحيفة هو تقصير المسلمين أنفسهم في تعريفهم بالإسلام! فمرادُه تبرئة هؤلاء المعتدين من جنايتهم، أو تبريرها لهم، وإناطة جُرْمِها بالمسلمين!

وقد جهل هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أدى الرسالة، وبلَّغ الأمانة أعظم التبليغ، ومع ذلك لم يسلم من سخرية كفار قريش.

ومن مستهزئٍ بالمقاطعة فيقول: هذا غاية ما تملكون؛ ترك أكل الزبدة والجبنة!!

وهذا شبيه بموقف المنافقين الذين كانوا يسخرون من المؤمنين لكونهم يتصدقون بالقليل من المال، مع أنه غاية ما يستطيعونه: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: ٧٩] .

ومن زاعمٍ: أنَّ المسلمين «عمَّموا خطأ جريدة على دولة كاملة لا تملك بحكم القانون أي سيطرة على هذه الجريدة» !!

والجواب عن هذا:

أولاً: أن حكومتهم قد وقفت بجانب الجريدة وبررت فعلتها، بأنها حرية الرأي.

وثانياً: أن شعبهم نفسه قد وافق غالبيته الجريدة والحكومة على موقفهما؛ ففي استطلاع للرأي رأى ٧٩% ممن شملهم الاستطلاع أن رئيس الوزراء يجب ألا يعتذر نيابة عن الدانمارك، بينما قال ١٨%: إن عليه الاعتذار.

وقال ٦٢% منهم: إنه لا يتعين على الصحيفة تقديم اعتذار، بينما قال ٣١%: إن عليها أن تعتذر. [موقع إسلام أون لاين] .

ويرى بعضهم أن هذه المقاطعة لن تفيد شيئاً؛ فهل تغافلوا عن استغاثات الدانمارك المتكررة بالاتحاد الأوروبي لإنهاء المقاطعة الإسلاميَّة؟ وهل تجاهلوا الخسائر الدانماركيَّة التي ستصاب بها حين تقاطعها الأمة الإسلامية؟ حيث بلغت خسارة شركة واحدة من شركاتهم للألبان في دولة إسلامية واحدة ما يتراوح بين ثمانمائة ألف ومليون وستمائة ألف دولار يومياً، كما صرح بذلك مدير هذه الشركة، فضلاً عن فرص الوظائف التي سيفقدها أصحابها [موقع الجزيرة] . بل قد صرح بعضهم أن ما بنوه في عشرات السنوات ـ أي من السمعة الحسنة لبضائعهم التجارية ـ قد تهدَّم في أيام قليلات.

ويرى آخرون أن المتضررين من المقاطعة إنما هم الوكلاء التجاريون الذين يحملون امتياز بيعها في البلدان الإسلاميَّة!!

وهذا عجيب، أن يتولى هؤلاء الدفاع عن أولئك التجار؛ مع أن التجار أنفسهم لهم مواقف مشرفة؛ فقد رأيناهم تداعوا بشجاعة لطلب المقاطعة؛ فهل هو أحرص منهم على أموالهم أم أنَّها عقليات التطبيع؟

ومن هؤلاء من بدأ يدعونا للتسامح معهم والسكوت عن أذاهم، وما علموا أن التسامح لا يكون مشروعاً إلا إذا وقع موقعه الصحيح، وأولئك المستهزئون بمقامه -صلى الله عليه وسلم- ليسوا موضعاً صالحاً للتسامح، بل التسامح مع أمثال هؤلاء المجرمين جريمة شرعية، ولئن كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحق في التجاوز عمن أساء إليه فإن هذا ليس إلى الأمة، بل الأخذ بحقه والغضب له واجب شرعي لا يجوز أن يمس أو يتبرع أحد بالتنازل عنه.

ومن زاعمٍ: أن المقاطعة مجرد رد فعل عاطفي، ولا ينبغي أن تكون تصرفاتنا مبنية على ردود الأفعال وهذا الزعم لا بد له من وقفة تبين أهمية ردود الأفعال والتأصيل الشرعي لها من خلال ما يلي:

أمر الشارع بإنكار المنكر مثال واقعي لاعتبار ردود الأفعال في الشريعة:

قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» رواه مسلم (٧٠) .

فإنكار المنكر وتغييره باليد هو رد فعل على ظهور المنكر ورؤيته، وهو رد فعل أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- «فليغيره بيده» ، وهو واجب بإجماع المسلمين، كما نقله النووي.

الغضب على انتهاك حرمات الله صورة من صور ردود الأفعال المأمور بها:

إذ من الغضب ما يكون محموداً بل ما يكون واجباً، وهو الغضب لله عز وجل، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يغضب لنفسه، ولكن إذا انتُهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء.

فعَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ قَالَتْ: «وَاللَّهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ» رواه البخاري (٦٢٨٨) .

بل إن التعامل برد الفعل أمر جِبِلِّي:

ولقد أحسن الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ حين قال: «من استُغضب ولم يغضب فهو حمار» !!

(سير أعلام النبلاء ١٠/٤٣) .

فالإنسان مجموعة من الأحاسيس والمشاعر، فلا بد أن يتأثر بما يدور حوله ويكون له رد فعل عليه.

والميْت هو الذي لا يوجد لديه ردود أفعال، كما قال الشاعر:

جَرَحُوه فَمَا تألَّّم جُرْحاً ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ

ومن أمثلة ردود الأفعال من السنُّة:

قنوته -صلى الله عليه وسلم- شهراً على رعل وذكوان وبعض أحياء العرب لما غدروا بالقراء في بئر معونة. البخاري (٣٠٦٤) ومسلم (٦٧٧) .

ودعوته -صلى الله عليه وسلم- للبيعة على القتال لما بلغته شائعة قتل عثمان في الحديبية، ثم لما تبين كذب الشائعة كان الصلح.

[ابن أبي شيبة مرويات غزوة الحديبية ص ١٢٤] .

وكغضبه -صلى الله عليه وسلم- حينما اختصم أصحابه في القَدَر حتى كأنما يُفقَأ في وجهه حب الرمان ـ كما عبر الراوي - ابن ماجة (٨٢) .

وغير ذلك كثير من صور غضبه -صلى الله عليه وسلم- تفاعلاً مع ما يطَّلع عليه أو يُنقل إليه من أقوال أو أفعال.

ومن ردود أفعال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بحضرته -صلى الله عليه وسلم-:

مقولات عمر بن الخطاب المتعددة «دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ» وما شابهها كما كان مع عبد الله بن أُبَيّ رأس المنافقين لما قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. البخاري (٤٩٠٥) .

وكما حصل مع ذي الخويصرة اليماني الذي قال: اعدل يا رسول الله. البخاري (٣٣٤١) مسلم (١٦٧٥) .

ولذلك فإن ردود أفعال المسلمين تجاه هذا السب لخير من وطئت قدماه الأرض، مهمٌّ جداً؛ لأنه نوع من إنكار المنكر أولاً، وهو أمر واجب، بل هذا من أعظم المنكرات التي يجب إنكارها، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتغيير المنكر باليد، فإن لم يُستَطع فباللسان، فإن لم يُستَطع فبالقلب قال: «وذلك أضعف الإيمان» وفي حديث آخر: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» رواه مسلم (٤٦٧٦) .

وثانياً: من أجل تقزيم هؤلاء المعتدين والمفترين، كي لا يستمرئوا هذا السب والاعتداء.

أما ألاَّ يكون هناك غيرة على حرمات الله، ولا يتمعر وجهنا غيرة وغضباً؛ فيُسَبّ دين الله، ويُسَبّ نبينا، دون أن يحرك ذلك فينا ساكناً؛ فهذه والله هي الكارثة.

٣ الواجب علينا:

على كل مؤمن يحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويغار على دينه أن ينتصر لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأن يقدِّم كل ما في وسعه لرد هذه الهجمة الشرسة، ومهما بذلنا فهو قليل في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وأما تفصيل دورنا في هذا فمنه:

١ ـ إعلان النكير على كل الأصعدة وبشدة:

فعلى الدول الإسلامية أن تهب على جميع مستوياتها لنصرة نبيها -صلى الله عليه وسلم-، وتستنكر ذلك في المؤتمرات والمحافل العامة، وتتخذ موقفاً حازماًَ يتناسب مع شناعة الجريمة.

وكذلك يكون الاحتجاج على مستوى الهيئات الرسمية وغير الرسمية كوزارات الأوقاف، ودور الفتيا، والجامعات، وإعلان الاستنكار من الشخصيات العامة كالعلماء، والمفكرين، ورجال الإعلام.

وكذلك الإنكار على المستوى الفردي، كلٌّ حسب ما يستطيع: بإرسال رسالة، أو كتابة مقالة، أو اتصال هاتفي بحكومتهم وخارجيتهم وصحافتهم، ومراسلة المنظمات والجامعات والأفراد المؤثرين في الغرب، ولو نفر المسلمون بإرسال آلاف الرسائل الرصينة القوية إلى المنظمات والأفراد فإن هذا سيكون له أثره اللافت قطعاً.

٢ ـ مطالبة هؤلاء الجناة بالاعتذار الجاد الواضح، لا الخداع وتبرير الجريمة الذي يسمونه اعتذاراً، فلا نريد اعتذاراً لإهانة المسلمين، وإنما نريد إقراراً واضحاً بالخطأ، واعتذاراً عنه، ومعاقبة رادعة للمجرمين على جرمهم، وأن تكف حكوماتهم عن العداء للإسلام والمسلمين.

٣ ـ ذكر فتاوى علماء الأمة التي تبين حكم من تعرض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيء من الانتقاص ووجوب بغض من فعل ذلك والبراءة منه.

٤ ـ بيان حُسن الإسلام وموافقته للعقول الصريحة، والرد على شبهات المجرمين من خلال قيام المؤسسات الإعلامية والصحف والمجلات والمواقع الإسلامية بكتابة ردود على هذه الافتراءات، وأن تسطر على صفحاتها شمائل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتبين الدور العظيم الذي قام به -صلى الله عليه وسلم- لإنقاذ البشرية، وأنه أُرسل رحمة للعالمين، وهداية للناس أجمعين.

٥ ـ استئجار ساعات لبرامج في المحطات الإذاعية والتلفزيونية لا سيما في البلدان الغربية لتدافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتذب عن جنابه، ويستضاف فيها ذوو القدرة والرسوخ، والدراية بمخاطبة العقلية الغربية بإقناع، وهم بحمد الله كثر.

٦ ـ إعداد المقالات القوية الرصينة لتنشر في المجلات والصحف ومواقع الإنترنت باللغات المتنوعة.

٧ ـ مطالبة الكتّاب والصحفيين والإعلاميين بل كل غيور بالقيام بدور النصرة للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ من خلال محاولة إثارة الرأي الغربي ضد هذا الانتهاك والتدنيس العلني للمعتقدات الدينية.

٨ ـ إنشاء مراكز متخصصة لبحوث ودراسات في السيرة النبوية والإسلام وفضائله وترجمة ذلك إلى اللغات العالمية.

٩ ـ الحرص على دعوة هذه الشعوب؛ فإننا وإن كنا ننظر إليهم بعين الغضب والسخط والغيظ، إلا أننا أيضاً ننظر إليهم بعين الشفقة عليهم، فهم عما قريب سيموتون، ويكونون من أهل النار إن ماتوا على ذلك، فدعوتهم إلى الإسلام والنجاة رحمةٌ بهم، وشفقةٌ عليهم؛ ولا سيما عوامهم الذين غُيِّبَتْ عنهم صورة الإسلام المشرقة، حتى نقيم الحجة ونوصل نور الهداية والحق إليهم فيعرفوا عن ديننا وعظمة نبينا -صلى الله عليه وسلم-: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: ٤٢] .

١٠ ـ ترجمة الكتب التي تدعو إلى الإسلام، والكتب التي تعرّف بالإسلام ونبيّ الإسلام، وتبيِّن سيرته الحسنة العطرة وفضائله بلغة هؤلاء القوم.

١١ ـ إنشاء مواقع إسلامية وبرامج متخصصة في الإذاعات والقنوات والشبكة المعلوماتية للتعريف بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وشمائله وأخلاقه الكريمة باللغات المختلفة، ونشر ذلك في المطبوعات من الصحف والمجلات ونحوها.

١٢ ـ عقد المؤتمرات العلمية التي يُتكلم فيها عن نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- ورسالته، مع التركيز على تلك الدول التي تحتاج إلى تصحيح صورتهم عن الإسلام.

١٣ ـ نشر ما ذكره المنصفون من غير المسلمين بشأنه -صلى الله عليه وسلم-، إذ هو أدعى لقبول أقوامهم له.

١٤ ـ بيان خصائص دعوته ورسالته -صلى الله عليه وسلم-، وأنه بعث بالحنيفية السمحة، وأن الأصل في دعوته

١٥ ـ المشاركة في حوارات علمية رصينة مع غير المسلمين من المختصين أصحاب القدرات العلمية واللغوية، ودعوة أولئك الباحثين بالحكمة لدراسة شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- والدين الذي جاء به.

١٦ ـ الإعلان في محركات البحث المشهورة عن بعض الكتب أو المحاضرات التي تتحدث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

١٧ ـ التمسك بالسنة والتزام هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل شيء والصبر على ذلك؛ إذ بهذا يكفينا الله كيدهم: {وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: ١٢٠] .

١٨ ـ مقاطعة منتجاتهم ما دام لها تأثير عليهم ـ وهذا هو الواقع ـ والبحث عن شركات بديلة يمتلكها مسلمون ترسيخاً لمبدأ الولاء للمسلمين والبراء من الكافرين.

١٩ ـ الوعي لكيفية إدارة أعداء الإسلام لصراعهم مع المسلمين وعدم استبعاد التعمُّد والتخطيط المسبق منهم لهذه الجريمة، مع الدراسة المتأنية للمواقف المتوقعة منهم والتدابير التي ينبغي اتخاذها مع كل موقف حتى لا يخلصوا إلا شق الصف وإضعاف قوة وحدة الموقف.

٢٠ ـ تبادل الأفكار في هذه القضية، وإضافة الجديد منها والتواصي بها، وبحث كل واحد عما يناسب ميوله وتخصصه منها، وبهذا سيجد كل محب لرسوله -صلى الله عليه وسلم- مجالاً لإظهار حبه وغيرته وتعظيمه؛ فهذا يأتي بفكرة، وذاك يكتب مقالة، وهذا يترجم، وذاك يرسل، وآخر يموِّل، في نفير عام لنصرة أفضل الخلق ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

رسولَ الحُبِّ في ذكراك قُربى وتحتَ لواكَ أطواقُ النجاةِ

عليك صلاةُ ربِّكَ ما تجلى ضياءٌ.. واعتلى صوتُ الهُداةِ

يحارُ اللفظُ في حُسناك عجزاً وفي القلب اتقادُ المورياتِ

ولو سُفكتْ دمانا ما قضينا وفاءك والحقوقَ الواجباتِ

٣ ليس من النصرة:

إن ما نراه من ردود فعل غاضبة من المسلمين، وعمل جاد لمواجهة تلك الهجمة التي يتعرض لها الإسلام لَيبعثُ البهجة والسرور والأمل في نفس كل مسلم، غير أن بعض المسلمين ـ وهم بحمد الله قلة ـ قد مال بهم حماسهم عن الصواب، والمأمول من المسلمين أن يلزموا العدل والإنصاف، حتى مع أعدائهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: ٨] .

فليس من النصرة:

١ ـ الاعتداء على معصومي الدم والمال كالمستأمَنين، من أي دين كان.

٢ ـ اختراق وتدمير مواقع صحف ومجلات لم تصدر منها بنبينا -صلى الله عليه وسلم- سخريةٌ؛ فمثل هذا العمل يُحرضها هي الأخرى على سب الرسول -صلى الله عليه وسلم- والنيل منه، وينقلها من حِيادها إلى مُصافّة المعتدي في موقفه، ويحرض سفهاءهم على تدمير مواقعنا.

٣ ـ ليس من النصرة في شيء أن نجود بأموالنا لكل من يدعونا إلى مشروع دعوي في تعريف الكفار بالإسلام وبنبيه الكريم وفي كشف ما يثار حوله من شبهات من غير أن نتوثق من صاحب المشروع والجهة المشرفة عليه، ومن غير أن نتبيَّن المضمونَ المراد نشره، ومن يزكِّي ذلك من أهل العلم.

٤ ـ ما صاحَبَ بعض المظاهرات التي قام بها المسلمون في أماكن شتى من إتلاف للأنفس والممتلكات.

٥ ـ عدم تحري البعض في نشر الأخبار قبل التثبُّتِ من صحتها، كالخبر بإسلام خمسين دانماركياً، أو خبر قتل الصحفي.

٦ ـ نشر بعض البدع والتعلُّق بالمنامات، كالدعوة إلى توحيد الدعاء في ساعة معينة وصيغة معينة، أو تناقل رسائل بها مخالفات شرعية، أو التعسف في محاولة الربط بين رقم بعض الآيات القرآنية التي لها شيء من التعلق بالموضوع وبين الرقم التسلسلي الدولي لمنتجات الدولة المعتدية زاعمين أن ذلك من الإعجاز العددي القرآني.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا من أنصار دينه ونبيه -صلى الله عليه وسلم- بوعي وصدق، وأن يعلي دينه، وينصر أولياءه، ويذل أعداءه، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: ٢١] .

وصلى الله وسلم على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.