خيبة لأنصار التماثيل!
منصور الأحمد
سوف يكتب مستقبلاً في صفحات التاريخ أنه كان هناك في النصف الثاني من
القرن العشرين زعماء يمتطون صهوات الجياد، وقد ناءت أكتافهم وصدورهم
بالأوسمة والنياشين مع أنهم لم يخوضوا معركة ولم ينتصروا في ميدان!
وإنه من أجل أن تبقى هذه الصورة المجافية للواقع مطبوعة في عقول
الشعوب، فقد استخدموا كل مقدراتها من أجل ذلك، ومن ذلك تماثيل باذخة تذكّرنا
(برعمسيس الثاني) و (تحتمس الثالث) و (الإسكندر الأكبر) و (يوليوس قيصر)
و (جنكيز خان) وغيرهم وغيرهم من هذا الرعيل الملعون.
حرص هؤلاء المأفونون على تخليد ذكرهم على أكتاف شعوبهم، واتخذوا من
أفراد محكوميهم مراقي بنوا عليها أمجادهم الكاذبة، فكم من هواة (الفن) من يسأل
نفسه حين يقف مبهوراً مشدوهاً أمام نُصب من هذه الأنصاب: كم كلف هذا الأثر
الفني من قوت الشعب، وكم جاعت من أجله بطون، وعريت في سبيله أجسام،
ولاذت في دائرة النسيان ملايين، وانتُهكت من أجل تحصيل الضروري كرامات
وحرمات؟ ! .
لكن الله يأبى أن يمتد حبل الكذب إلى غير نهاية، وأمامنا شواهد كثيرة على
هذا، حيث نرى أن تماثيل نصبها أصحابها في كل ميدان مهم أو ساحة في مدينة
لتقع عليها العيون أينما اتجهت وحيثما نظرت، وأرادوا من ورائها غرس المبادىء
الغربية في تربة بلادهم على الرغم من مشاعر الأمة التي يحكمون وعقائدها،
وابتغوا من وراء هذه الأصنام المنصوبة خلود الذكر في هذه الدنيا، ولكن ماذا ... نرى؟ ! .
نرى أن هذه الشعوب التي تحدوها أهوت على تماثيلهم هذه بالفؤوس والمعاول
وداست شظاياها بأقدامها وأمام مرأى من أصحابها في بعض الأحيان [١] .
إن دول أوربا التي يقلدها أنصار إقامة الأصنام والتماثيل - ينبع حبها لذلك
من جذور ثقافتها وديانتها التي أُخضعت لتأثير الوثنية اليونانية والرومانية من يوم
أن دانت بها هذه الشعوب، وتكرم شعوبها عظماءها بعد أن يرحلوا مخلفين ورائهم
شيئاً يستحقون عليه التكريم.
أما نحن، فلا ثقافتنا وديننا يبيح لنا ذلك، ولا شعوبنا هي التي تنبري عن
طواعية بعد وفاة " العظيم " لتكريمه بهذا الأسلوب، بل " العظيم " نفسه هو الذي
يكرم نفسه، ويمنحها الشهادات غافلاً أو متغافلاً عن شهادات التاريخ، والمفارقة
الطريفة أن التاريخ - على الرغم من تدخل أصحاب الرغائب في صياغته -
يفرض منطقه على مرأى من هؤلاء " العظماء " الأدعياء.
ألا ما أسخف عقول الذين يبررون إباحة التماثيل بأن الإسلام حرمها حين كان
هناك خوف من عبادة الناس لها، وأَمَا وقد انتفى هذا المحذور ببلوغ البشرية سن
الرشد فلا بأس بها!
وما أعظم الإسلام حينما جعلها رجساً من عمل الشيطان، وجعل من ينفق
على إقامتها ليس غير جدير بأن يحكم غيره فحسب، بل حريّ أن يُحجر عليه
لسفهه فلا يقوم حتى على أمر نفسه!
(١) كما حصل للشاه بالأمس، ولأبي رقيبة هذه الأيام.