الافتتاحية
التوحيد والتوحُّد
رئيس التحرير
لماذا يتحلّق أهل الباطل حول باطلهم، ويتعصبون له، ويؤلفون في سبيله
الأحزاب، ويقيمون له الدعايات ويجمعون الأموال لتنفق من أجله؟
ولماذا يتبع كثير من الناس رؤوس البدع والانحراف، ويستميتون في الذب
عنهم، وتجميع الأنصار حولهم؟
إننا نجد هذا لدى كثير من الفرق التي انحرفت، أو خرجت عن سنن الإسلام، ونظرة فاحصة إلى أعياد المبتدعة التي يجتمعون عليها، أو مؤسساتهم المنظمة
الكبرى، أو محاولاتهم المتكررة للتغلغل بين صفوف أهل السنة، هي خير دليل
على أحوالهم، وصحة ما يقال عن اجتماعاتهم على الباطل.
لماذا لا نجد مثل هذا التجمع ومثل هذا التكتل والالتفاف حول العلماء والدعاة
من أهل السنة والجماعة؟ ولماذا لا نجد هذا الحرص البالغ على نشر الإسلام الحق، والتبشير به؟
سؤال طالما حير أولي الألباب، وفكر فيه المخلصون، وتعجبوا وتساءلوا
قائلين: أيقام للبدع سوق وترفع لها رايات، وأهل السنة عن هذا غافلون؟
الغريب الغريب هو أن أهل السنة ليس لهم قضية، ولا قيادة، والأغرب من
ذلك أن خاصة أهل السنة الذين ينادون بمنهج الاتباع، ويحاربون الابتداع،
متفرقون لا تجمعهم وحدة، ولا يعصمهم عن التشرذم تفكير في مصلحة الإسلام
ومآل أمر المسلمين..
إن معالجة هذه الأزمة المستعصية بحاجة إلى بيان وبسط لا تحتمله هذه
الصفحات، ولكننا نحاول الإلمام بطرف فنقول:
إن أهل البدع والخرافات يجتمعون على بدعهم ورؤسائهم لانعدام تحملهم
وتفكيرهم، وهم الذين تأتي بهم الكلمة والإشارة، ويغويهم دجال من الدجاجلة،
ويغريهم بالترخص واتباع الأهواء والشهوات، والإنسان العاميّ يميل بطبعه إلى
المحسوسات والأمور المادية؛ فعندما تقام له النصب، وتعقد معه الاجتماعات
الباهرة، وعندما تدغدع عواطفه بمآس تاريخية؛ لا يلبث أن ينقاد إليها لأنه ليس
صاحب علم ينفع أو عقل يردع.
وأما أهل السنة فهم أهل الإسلام، وقد جاء الإسلام بالتوحيد الخالص، وأعظم
أغراضه محو الشرك، وعبادة الله وحده، وليس عبادة الأشخاص أو الأشياء، فلقد
جاء الإسلام لإنقاذ الناس من اتباع الشعوذة والخرافة، ودعا إلى التربية الاستقلالية
لشخصية الإنسان، وأرشد إلى طريق الصواب أولئك الذين يتبعون أهواءهم، أو
يقتفون آثار الآباء عن جهل وتقليد أعمى، أو يلقون القول بلا علم أو برهان.
وكانت الآيات القرآنية تعلّم المسلم النهج الصحيح، وتوقفه على اضطراب عقائد
المشركين وتناقضهم. وهذا المنهج يرفع المسلمين إلى مستوى العلم النافع الصحيح، الذي يؤدي بدوره إلى اجتماعهم ووحدتهم، قال الله تعالى داعياً المسلمين إلى
التفكير في أمر العبادات التي لا تعود على المعبود بنفع أو ضر: [ومَا خَلَقْتُ
الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ومَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ]
[الذاريات ٥٧] ، وقال عن المشركين: [والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ
شَيْئاً وهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ] [النحل٢٠- ٢١] ، [أَفَمَن يَهْدِي إلَى
الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إلاَّ أَن يُهْدَى] [يونس ٣٥] ، [إنَّ الَذِينَ تَدْعُونَ
مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ ... ]
[الأعراف ١٩٤] .
كل هذا يدل على أن أهل السنة لا يجتمعون إلا إذا كانوا على مستوى الإسلام، من الفطرة السليمة والتحقق بالتوحيد الخالص، والعقل الراجح، والأفق الواسع
ومعرفة سنن الله في الخلق كما يروى عن الشعبي -رحمه الله-: «إنما كان يطلب
هذا العلم من اجتمعت فيه خصلتان: العقل والنسك، فإن كان عاقلاً ولم يكن ناسكاً
قال: هذا أمر لا يناله إلا النساك وإن كان ناسكاً ولم يكن عاقلاً قال: هذا أمر لا
يناله إلا العقلاء فلن أطلبه» [١] .
إن أصحاب التربية الاستقلالية هم الذين لا تضيق صدورهم بالرأي الاجتهادي
ولا يتعصبون لشخص أو لجماعة، وينظرون دائماً إلى المستقبل والمآل، ويضعون
المصلحة العامة فوق مصالحهم وفوق أنانياتهم. والفرد الذي يربى على الفهم
الصحيح للنصوص لا يكون من دعاة التفرق لأنه سوف يفكر في مصلحة الإسلام،
أما الذي ربُّي تربية ضيقة فهو لا يرى الدنيا إلا من خلال شيخه أو جماعته أو
حزبه.
إن أصحاب السياسات الدنيوية يؤلفون أحزاباً ويجمعون لها الجموع وربما
ينجحون، وإن أصحاب البدع وأتباع الخرافات يؤلفون تجمعات؛ وقد ينجحون،
وما ذلك إلا لأنهم اجتمعوا على شيء محدد في أذهانهم، وأما أهل السنة فإذا لم
يكونوا على مستوى الإسلام فقد تفوتهم أسباب الوحدة والقوة.
(١) سير أعلام النبلاء ٤/٣٠٧.