المسلمون والعالم
سياسة الكيل بمكيالين
وموقف الغرب من قضايا المسلمين
د. عبد الرحمن أمين
حفل القرن الحالي بقضايا ومآسٍ كثيرة غالبها - إن لم يكن كلها - كانت تدور
على أرض المسلمين؛ فمأساة فلسطين ما زالت تتفاعل في حنايا كل مسلم ومشاعره؛
كيف لا، وهي أرض معراج نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - وأرض
الأنبياء، وأولى القبلتين، وفيها المسجد الأقصى؛ حيث الصلاة فيه تعدل خمسمائة
صلاة؟ هذه الأرض المباركة سقطت أسيرة في أيدي اليهود الذين قال عنهم الله -
سبحانه -: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا]
(المائدة: ٨٢) ، فما هو موقف الغرب من هذه القضية؟ فالغرب الذي يدَّعي
الحضارة والتطور والديمقراطية والانفتاح وقف وقفة ظالمة منذ أن بدأت هذه
القضية تظهر على مسرح أحداث العصر الحديث، وبدلاً من الانتصار للحق ونصرة
المظلوم راح وبكل الوسائل يفرض سياسة الأمر الواقع على أصحاب الأرض
الحقيقيين، وينتصر لمغتصب الأرض ابتداءً من وعد بلفور المشؤوم، ومروراً
بالحروب التي دارت بين اليهود وجيرانهم من العرب، حتى آلَ الحال إلى ما هو
عليه الآن، والبقية معروفة للجميع.
الصراع مع الهندوس:
ثم برزت بعد ذلك قضايا إسلامية أخرى وفي مناطق أخرى من الأرض
الإسلامية من أبرزها قضية كشمير، وفي هذه المرة فإن الصراع ليس بين اليهود
والمسلمين، وإنما بين الهندوس والمسلمين؛ فما كان من الغرب إلا المسارعة
للوقوف بجانب عبدة البقر مع وجود الفارق الكبير بين الحضارتين؛ ولا سيما أن
أهل الغرب محسوبون على أهل الكتاب، والهندوس عبدة أوثان.
ثم طلعت علينا قضية أخرى أحداثها هذه المرة تدور في قلب أوروبا وهي
قضية البوسنة.
قضية أخرى بل مأساة؛ فما أن استطاع المسلمون الإفلات من قيد الشيوعية
الذي دام أكثر من سبعين عاماً حتى وجدوا أنفسهم أمام عالم لا يهمه سوى المصالح
المشتركة ودائماً على حساب الطرف الأضعف وهم المسلمون للأسف، ولم يقترف
مسلمو البوسنة أي ذنب سوى رغبتهم في العودة إلى دينهم واسترداد هويتهم
المسلوبة من قِبَل أعدائهم، فجاءهم الرد كالصاعقة: لا للإسلام في أوروبا ولا سيما
إذا كان هذا الإسلام بصورة دولة أو تجمُّع أو كيان؛ فأخذ الصرب الأرثوذكس على
عاتقهم مهمة تصفية شعب بأكمله وسحقه على مرأى ومسمع من أدعياء الحضارة
والتمدن في بلاد الغرب، فاستمرت خطة القتل والإبادة ثلاث سنوات ولغ فيها
الحاقدون في دماء الأبرياء العزل، ولما انتفض المسلمون ليدافعوا عن دينهم
وأعراضهم وبدؤوا يحققون الانتصارات وجد الغرب نفسه في حرج شديد؛ فهنا لا
بد أن يتدخل ليحسم الأمر قبل أن ينفلت الزمام وينقلب السحر على الساحر، فأوقفوا
الحرب؛ ولكن بعد أن ارتوت وديان البوسنة وسهولها بدماء الأبرياء من النساء
والأطفال، وبعد أن هتكت أعراض الآلاف من المسلمات وهن يندبن حظهن
وينتظرن معتصماً ليثأر لهن، ولكن أين نحن من زمان استأسد فيه الفأر ونام فيه
الأسد؟ وأين نحن ممن هان على كثيرين دينهم؛ فهان عليهم كل شيء؟ وصدق
الشاعر حينما قال:
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
والغريب في الأمر أن طريقة الأعداء في معاملة المسلمين هي نفسها، سواء
كانت في البوسنة أو كشمير؛ فقتل الأبرياء وهتك الأعراض وارتكاب المجازر هي
السمة المشتركة للقضيتين.
جرح كوسوفا والموقف نفسه:
ثم جاءت قضية كوسوفا، وبدا الغرب هذه المرة أكثر جدية من سابقتها،
واستعمل طريقة جديدة في معاملة الصرب وهو الضرب عن بعد، ولكنه رفض أن
يتدخل على الأرض حتى أكمل الصرب مخططهم في إذلال مسلمي كوسوفا وكسر
شوكتهم بذات الطريقة التي استعملها في البوسنة، وفي نهاية المطاف قال الغرب
كلمته: لا لدولة مسلمة في كوسوفا ولا للاستقلال؛ فبقيت قضية كوسوفا كقضية
البوسنة معوَّمة ضائعة، وبالمقابل فتحت الأبواب أمام المنظمات التنصيرية لغزوها
بعد أن غزتها جيوشهم؛ فما داموا هم لا يريدون دولة مسلمة في أوروبا فلعلها تكون
دولة نصرانية وحينها يكون لكل حادث حديث.
انتصار لنصارى إندونيسيا:
وفي هذه الأثناء برزت إلى السطح قضية جديدة ولكن من نمط آخر؛
فالأرض أرض مسلمة، ولكن أبطالها هذه المرة نصارى.. إنها تيمور الشرقية
التابعة لدولة إندونيسيا المسلمة؛ فبعد أن تنازلت عنها البرتغال رجع الغرب ليطالب
بانفصالها واستقلالها عن إندونيسيا، وهنا يبرز وبكل وضوح لا مراء فيه منهاج
الكيل بمكيالين الذي يزن به الغرب أمور المسلمين؛ فهذه المرة بادر الغرب
وبسرعة متناهية فأصدر القرارات تلو القرارات لاستقلال هذه البقعة عن إندونيسيا،
وأصر على استقلال تيمور الشرقية وبأي ثمن. وللعلم فقط؛ فإن النصارى في
تيمور الشرقية كانوا طيلة الفترة السابقة يشنون حرباً منظمة ضد إندونيسيا حتى
ظفروا بمرادهم وأنشؤوا دولتهم في قلب أكبر بلد مسلم.
مأساة الشيشان وهمجية الروس:
هكذا تتوالى الأحداث وتتسارع، وفي كل مرة نسمع عن قضية جديدة: مرة
في الشرق، وأخرى في الغرب. والغريب دوماً أن الضحية هم المسلمون، فجاءت
قضية الشيشان لتتوج هذه الأحداث؛ فبعد أن طالب شعب بأكمله بالاستقلال عن
دولة متهرئة متمزقة ومتقطعة الأوصال، وحينما بدأ يحكم نفسه بنفسه وجد أن أمر
الاستقلال بعيد بُعد المشرقين في موازين الغربيين؛ فإنه لا يتناسب مع نظريتهم
القائلة: لا لدولة إسلامية في أرض أوروبا؛ ففي الوقت الذي ساعد الغرب على
إقامة دول نصرانية في بقايا الاتحاد السوفييتي وقف وقفة صارمة رافضة لأي فكرة
مبناها إقامة دولة مسلمة في إحدى بلدان القوقاز المسلم، وماذا كان موقف الغرب
الحضاري حامي حمى العدل والحرية من الحرب الأخيرة التي تشن ضد الشيشان،
وهو يذبح بالإيعاز من زعيم أرثوذكسي مخمور؟ لم يكن موقفه سوى إشارات
هزيلة باهتة تدعو إلى عدم الإكثار من استعمال الأسلحة المحرمة؛ لأنه يتنافى مع
الاتفاقيات المعقودة سابقاً! وها نحن نعيش مأساة جديدة من مآسي المسلمين، يذبح
فيها الأطفال والنساء والشيوخ ذبح النعاج ليثبت الغرب وبكل جدارة أنه أمثل من
يجيد لعب دور المتفرج في قضايا المسلمين، وأفضل من يطبق شعار الكيل
بمكيالين في حق الشعوب المسلمة. ولكني أرجع فأقول: إن هذه المواقف
سيكتبها التاريخ حتماً، والأيام دول، والله - تعالى - خالق الخلق، ومالك
الملك ومدبر الأمر هو القائل - جل وعلا -: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ] (آل عمران: ١٤٠) فما علينا نحن المسلمين إلا التحلي بالصبر
والعودة إلى الدين، والأخذ بأسباب النصر والتمكين، والعمل بكتاب الله وسنة نبيه
الأمين عليه الصلاة والسلام واللجوء إلى مفرج الكربات وقاضي الحاجات ربِّ العزة
والجلال؛ أما قال عنهم الله - سبحانه وتعالى -: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ
النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: ١٢٠) فلا ننتظر منهم إنصافاً أو إحقاقاً
لحق وإن زعموا أو تظاهروا بغير ذلك.
إن الأحداث سالفة الذكر وغيرها من الأحداث هزَّت وما زالت تهزُّ كيان الأمة
ووجدانها، وصارت تؤرق المخلصين منها وتقض مضاجعهم وهم يحاولون أن
يجدوا حلاً لما آل إليه حالها باحثين عن الأسباب التي أدت إلى تمكن عدوهم منهم
وإدالته عليهم بعد أن كانت الدولة لهم. ولكن علينا الأخذ بالحذر الشديد ولا سيما في
مثل هذه الظروف الصعبة من دخول الشيطان علينا محاولاً - كعادته - تثبيط
العزائم، وإضعاف الهمم، وزرع اليأس والقنوط في نفوس أبنائنا وهم يرون حال
الضعف والهوان التي تمر بنا؛ فما تمر الأمة المسلمة به الآن هو حلقة من حلقات
التاريخ الإسلامي الحافل بالأمجاد والبطولات والنصر المؤزر، ولقد مرت في
ماضي عهدها بظروف صعبة وقاسية، ما لبثت أن خرجت منها وهي أقوى عوداً
وأصلب عزيمة وأكثر تفاؤلاً بتحقيق الأمل المنشود؛ وهنا أتركك أخي القارئ مع
كلمات لإمام كان له يوماً شرف المشاركة في إيقاظ همم الأمة والخروج بها من
ظروفها الحالكة، ولنسمع ولنصغِ إلى تفسيره لمثل هذا الواقع، وكيف يجيب عن
التساؤلات التي قد تخطر ببال أحدنا لنزداد يقيناً بأن مصير الأمة بيد بارئها، وأن
أقدار الله لا محالة نازلة، وحِكَمه نافذة، والله غالب على أمره، وأن العاقبة للمتقين
ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: «إن ما يصيب المؤمن في هذه الدار
من إدالة عدوه عليه وغلبته له، وأذاه في بعض الأحيان أمر لازم لا بد منه وهو
كالحر الشديد والبرد الشديد والأمراض والهموم والغموم؛ فهذا أمر لازم للطبيعة
والنشأة الإنسانية في هذه الدار حتى للأطفال والبهائم لما اقتضته حكمة أحكم
الحاكمين» [١] .
فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر والنفع، وعن الضر واللذة، وعن
الألم لكان ذلك عالماً غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تفوت الحكمة
التي مزج لأجلها بين الخير والشر، والألم واللذة، والنافع والضار؛ وإنما يكون
تخليص هذا من هذا وتمييزه في دار أخرى غير هذه الدار؛ كما قال - تعالى -:
[لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً
فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ] (الأنفال: ٣٧) .
إن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحياناً فيه حكمة
عظيمة لا يعلمها على التفصيل إلا الله - عز وجل - فمنها استخراج عبوديتهم
وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه وسؤاله نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا
دائماً منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين
منصوراً عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة ولا كانت للحق دولة.
فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرّفهم بين غلبهم تارة وكونهم مغلوبين
تارة، فإذا غُلبوا تضرعوا إلى ربهم وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له،
وتابوا إليه، وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر
وجاهدوا عدوه ونصروا أولياءه. ومنها أنهم لو كانوا دائماً منصورين غالبين
قاهرين لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول؛ فإنه إنما ينضاف إلى
من له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين لم يدخل معهم أحد، فاقتضت
الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدُّولة تارة، وعليهم تارة، فيتميز بذلك بين من يريد
الله ورسوله ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه، وقال ابن القيم أيضاً: «ومنها أن
امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم، ويهذبهم كما قال الله - تعالى -
في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ
الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
* وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] (آل عمران: ١٣٩-١٤٢) ، ثم قال
ابن القيم أيضاً:» ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء؛ فإن الشهادة درجة
عالية عنده ومنزلة رفيعة لا تنال إلا بالقتل في سبيله، فلولا إدالة العدو لم تحصل
درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه وأنفعها للعبد، ثم أخبر - سبحانه -
أنه يريد تمحيص المؤمنين أي تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفاره
من الذنوب التي أديل بها عليهم بالعدو، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين
ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا. ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم ودخول
الجنة بغير جهاد ولا صبر، وإن حكمته تأبى ذلك؛ فلا يدخلونها إلا بالجهاد
والصبر، ولو كانوا دائماً منصورين غالبين لما جاهدهم أحد، ولما ابتلوا بما
يصبرون عليه من أذى أعدائهم. فهذه بعض حكمه في نصرة عدوهم عليهم وإدالته
في بعض الأحيان «.
والحمد لله رب العالمين
(١) إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان، ج ٢، ص ٢٧٢ - ٢٧٥.