المسلمون والعالم
[المجاعة في القرن الإفريقي]
عبد الرحمن إبراهيم جيلة [*]
منذ أكثر من ثلاثين سنة تقريباً وإقليم أوجادين (الصومال الغربي) يذوق
ويلات الحروب ويتجرع مرارتها؛ إذ كانت إثيوبيا العدو التقليدي للصومال؛ وذلك
بسبب قوة الصومال المتزايدة آنذاك، وأخذ الإمبراطور الإثيوبي هيلاسيلاسي يبذل
ما في وسعه لإقناع حلفائه الغربيين بتزويد إثيوبيا بالأسلحة الهجومية، وحتى بعد
أن حدث الانقلاب العسكري في إثيوبيا عام ١٩٧٤م وولَّت إثيوبيا وجهها نحو
السوفييت استمرت القلاقل والمخاوف بين البلدين المتجاورين، وكان كبش الفداء
في هذه المخاوف منطقة أوجادين؛ إذ قدم الإثيوبيون مذكرة للزعماء الأفارقة عام
١٩٧٦م يزعمون فيها أن الصومال لديه خطط حربية لضم الصومال الغربي
(أوجادين) وجيبوتي إليها، وأن المخابرات الصومالية موجودة الآن في أوجادين
ومحافظة هرر الإثيوبية، مما سبب زيادة في الفتن والقتل في منطقة أوجادين التي
يدعمها آنذاك الجيش الصومالي النظامي، ولا يزال حكام إثيوبيا يشككون في أهالي
أوجادين ويسومونهم تعذيباً وقتلاً حتى عام ١٩٦٤م، حين اندلعت شرارة الحرب
الكبيرة بين إثيوبيا والصومال، وأُعلنت الحرب رسمياً عام ١٩٧٧م؛ وقد أبدى
المقاتلون الصوماليون براعةً حربية هائلة يساندهم إخوانهم في الصومال الغربي،
ثم كانت الخيانة العظمى التي حصلت في صفوف القادة الميدانيين بإيعاز من القيادة
الصومالية لأمرٍ مَّا؛ فانقلب النصر هزيمة بين عشية وضحاها.
وأثناء تلك الحرب وبعدها وإلى اليوم ذاق الشعب الأوجاديني ألواناً من الحياة
البائسة المتمثلة في شظف العيش، وسوء دخل الفرد، وتتابعت ويلات الحروب
من الجبهات التي تعادي النظام الإثيوبي إما عن طريق حرب العصابات أو
التفجيرات، أو بملاحقة النشطين في المدن والقرى الأوجادينية من قِبَل أذناب الحكم
الإثيوبي؛ فأصبح هذا الشعب والذي يزيد قليلاً على أربعة ملايين نسمة بين سندان
النظام الحاكم في إثيوبيا ومطرقته، ولا فرق في حقيقة الأمر بين حكامه ومصالحهم
ونظرتهم لهذا الشعب وبين تنكُّر إخوانهم المسلمين لهم؛ لِمَا يعيشونه من أحوال
معيشية بائسة منذ عشرات السنين. ولا تزال الأنظمة الظالمة في إثيوبيا تلاحقهم
بسياط القتل والتشريد والتجويع، ولا تزال بعض الجبهات الإسلامية تقاتل ضد
النظام الإثيوبي الكافر، ولا تزال مآسي تآمر الأنظمة الصومالية القبلية المتعددة
الحاكمة الآن تلاحقهم وتتحالف مع أنظمة أديس أبابا جرياً وراء مصالحها، وطلباً
لرضى الحكومة الإثيوبية عنها؛ حيث تعدهم بالوعود الكاذبة [وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ
إِلاَّ غُرُوراً] (النساء: ١٢٠) .
ويا ليت الأمر اقتصر على هذا؛ بل إن الناظر في شؤون هذه المنطقة
المنكوبة من الداخل يجد العجب؛ فنكبة المجاعة التي تعصف بهم وبغيرهم من أهل
القرن الإفريقي في هذه الأيام لم تكن وليدة ثلاثين شهراً مرت على المنطقة لم ينزل
فيها الغيث فحسب؛ بل هي امتداد لمجاعات ونكبات سابقة مرت على المنطقة
بسبب غياب الحكومة التي تهتم بمصالح الناس هناك وغياب البنى التحتية في
أوجادين، على مرأى ومسمع من العالم الذي لم يتخذ الخطوات الجادة لمنع حدوث
مثل هذه الكوارث عن قصد أو عن غير قصد ففي عام ١٩٧٩م تقريباً أي بعد انتهاء
الحرب هناك وقعت كارثة إنسانية؛ حيث مات المئات من الناس، والألوف من
البهائم في تلك المنطقة بسبب المجاعة، وكذلك مجاعة ١٩٩١م الشهيرة بين تلك
المنطقة والصومال، وغيرها من النكبات التي مرت على هذه المنطقة، والتاريخ
اليوم يعيد نفسه بمجاعة عام ٢٠٠٠م التي يعتبرها كثير من المحللين السياسيين
عاراً في جبين العالم المتحضر اليوم.
أسباب المجاعة في هذه المنطقة:
يمتد إقليم أوجادين جنوب شرقي إثيوبيا، وتبلغ مساحته أكثر من ٢٥٠ ألف
كم٢، ويقارب عدد سكانه خمسة ملايين نسمة، كلهم مسلمون، ويتكلمون اللغة
الصومالية، وبعضهم يستطيع التحدث باللغة الهررية والآرومية لالتصاقهم بهم.
وسكان الأوجادين هم بدو رحل وريفيون يعتمدون في الغالب على مياه الأمطار التي
انحبس نزولها عليهم منذ شهر إبريل من عام ١٩٩٨م تقريباً؛ وهذا الإقليم قد اشتهر
منذ زمن بعيد بالجفاف المتكرر بسبب موقعه الجغرافي؛ إلا أن بعضاً من المتابعين
يرجعون عدم نزول الأمطار عليهم خلال هذه الفترة بسبب مصانع أوروبا وغازاتها،
التي سببت كتلةً هوائية وضغطاً جوياً طرد السحب الركامية الملبدة بالغيوم إلى
الناحية الشمالية أو الجنوبية.
وأياً كان السبب فإن الله عز وجل لم يأذن بهطول الأمطار لحكمة أرادها
سبحانه منذ أكثر من ثلاثين شهراً، مما تسبب في مجاعة أكثر من ٧٧% من
مجموع السكان الريفيين والبدو الرحّل الذين خسروا مصدر عيشهم المتمثل في
الزراعة والرعي، وأكثر مدن هذا الإقليم تأثراً هي: (قدي - دنان - وردير -
جبردهر - هارعد - أفدير - إيمي الشرقية خصوصاً - حمارو - غاربو - فيق
دجحبور) حيث فقد أهالي مدينة قدي الذين يبلغ عددهم أكثر من أربعمائة ألف نسمة
أكثر من ٩٠% من الماشية وأكثر من ٧٠% من الأغنام، حسب إحصائيات لجنة
النكبات في تلك المدينة.
أما المظاهر اليومية لهذه المجاعة فهي:
١ - ندرة الطعام والشراب، والموت بين النساء والأطفال وكبار السن بسبب
الجفاف وقلة الوزن وتلوث المياه التي يشربونها، وذلك بنسب متفاوتة بحسب
المناطق، وخصوصاً في المدن السابق ذكرها، والتي يبلغ تعداد سكانها مجتمعة
أكثر من مليون وثلاثمائة ألف نسمة. والتقارير الغربية تذكر أن الفرد الواحد يأكل
في الشهر الواحد أقل من كيلو غرام واحد من المواد الغذائية في بعض المدن، وتقل
هذه النسبة في مدن أخرى. وإن بعض الجمعيات المحلية والهيئات الغربية توزع
الآن ما نسبته ٤. ٥ كلغ على الشخص الواحد من المواد الغذائية شهرياً.
٢ - حالة الهلع والذعر، وتنكُّر الناس بعضهم لبعض، وانتشار الكراهية
والبغضاء بينهم؛ حيث يتقاتل الناس فيما بينهم على مورد ماء لا يكفي لمائة شخص،
بل تدخل الحيوانات كالخنازير والقردة في هذا الصراع. والأشد من ذاك أن
يترك كبار السن لمواجهة الموت من غير نصير ولا معين على أكناف الطرق.
٣ - انتشار الأمراض بين الأطفال بسبب الجفاف، وقلة الوزن؛ فقد أجريت
في سبع قرى تابعة لمدينة دنان دراسة حالات الأطفال في الشهر قبل الماضي
(ذو الحجة ١٤٢٠هـ) فوجد أن ٦. ٥% من الأطفال دون سن الخامسة من
أعمارهم وزنهم أقل من ٦٠% من أطوالهم الطبيعية، وأنهم لا يستطيعون الاستمرار
على قيد الحياة إلا ببرنامج غذائي علاجي سريع.
٤ - انعدام الماء الصالح للشرب، مما سبب استحالة إقامة برامج غذائية
وعلاجية متكاملة؛ فقد قامت اللجنة الأمريكية (٢S) ببناء خزانات طوارئ في
مدينة دنان وقراها، كما قامت كل الهيئات الغربية المشاركة لإنقاذ الناس من هذه
المجاعة بشراء كميات لا بأس بها من الخزانات الحافظة للمياة، وكذا قامت
الجمعيات المحلية والحكومية، والهيئات الإسلامية القليلة العاملة هناك.
٥ - موت وهلاك المواشي والأغنام، وانتشار الأمراض المهلكة بينها، وقد
ذكرنا آنفاً أن أكثر من ٩٠% من الماشية وأكثر من ٧٠% من الأغنام هلكت في
مدينة واحدة هي (قدي) بل إن الأمر يزداد سوءاً إذا عُلِمَ أن النوق قد توقفت عن
إدرار الحليب منذ يناير ٢٠٠٠م، وهي الآن تموت بالمئات يومياً، كما يذكر
برنامج الغذاء العالمي (UN) ، وهذا مؤشر خطير لما يعانيه البدو هناك.
دور الهيئات العاملة في الأزمة:
تدَّعي الجمعيات الغربية العاملة في الصومال وجيبوتي وكينيا وإثيوبيا بأنها
كلها تعمل لإنقاذ البيئة الريفية في أوجادين وإعادة تأهيلها، وأن لديها برامج إغاثية
كبيرة في هذه المحنة في تلك المنطقة، والحق أن أغلب هذه الهيئات لا تعمل شيئاً،
بل موقفها لا يتعدى نقل صور هذه المأساة من خلال الكاميرات العادية وكاميرات
الفيديو ونشرها أمام شعوبها لتلقِّي المزيد من الدعم المالي والإداري والسياسي.
والحق يقال أيضاً: إن الهيئات الغربية أكثر من غيرها عملاً في تلك المجاعة
مثل (UN) متمثلة في برنامج الغذاء العالمي، USAID المساعدات الأمريكية
تعمل في قدي، واليونسيف متمثلة في برنامج واحد هو (أطعم الأطفال)
و (DPPCOFA) الأمريكية، WEP الإغاثات النصرانية، والسفارة
الألمانية CRDA والتي تسببت في مشاكل كثيرة مع الحكومة الإثيوبية بسبب
إخفاق الحكومة في برامج الإغاثة، وكذبها على المانحين والداعمين،
OXFAM البريطانية، والبعثة السويدية والإيرلندية CONCERN والبلجيكية،
وبلا حدود، وهناك أكثر من خمس وثلاثين هيئة غربية تدعي العمل عن طريق
جمعيات محلية، ولم نرَ أثر عملها في الغالب.
ولم يقتصر الأمر على الهيئات الغربية بل شارك السفراء الغربيون يقودهم
السفير الأمريكي في أديس أبابا في الوقوف على هذه المحنة بأنفسهم؛ فقد استأجروا
طائرة تجارية في شهر ذي القعدة ١٤٢٠هـ تقلهم إلى مدينة قدي للوقوف على
أحوال المدينة دون إذن مسبق من الحكومة الإثيوبية.
ولا يخفى على أحد أهداف بعض هذه الحكومات والهيئات الدينية؛ فقد قامت
البعثة البلجيكية ببناء خيمتين في مدينة قدي خاصة بالأطفال كتب على واحدة منهما:
(محمد) وعلى الثانية: (عيسى) ، وملئت خيمة عيسى بأصناف المأكولات
والمعلبات الغذائية، أما خيمة محمد فلا يوجد فيها إلا بعض أكياس الدقيق،
ويرسلون الأطفال إليها ليختاروا أي الخيمتين أفضل. وفي مدينة دنان يدعو
الأطباء السويديون للناس بالشفاء باسم عيسى عليه السلام مما سبب بعض المشاكل
في الأسبوع الأول من عملهم مع بعض سكان المدينة.
أما الحكومات الإسلامية المتعاطفة مع هذه المشكلة فقد آثرت العمل من خلال
الحكومة الإثيوبية وبعض الجمعيات المحلية هناك. والجمعيات الإسلامية غير
المحلية العاملة هناك لا تزيد عن عشر جمعيات، وهي تعمل مباشرة أو عن طريق
الجمعيات المحلية المصرح لها من الحكومة الإثيوبية، وأكثرها عملاً البنك
الإسلامي للتنمية، وهيئة الإغاثة العالمية، ومؤسسة الحرمين، ولجنة مسلمي
إفريقيا، والمنتدى الإسلامي، رغم وجود مصاعب مالية وتنظيمية لدى هذه
الجمعيات في ظل غياب الدعم الحكومي والدعم السياسي لمثل هذه الهيئات،
وبسبب عدم تخصص هذه الجمعيات في برامج الإغاثة، وبسبب القصور والضعف
الإداريين؛ فتجد أن مندوبي الجمعية يفدون دون تخطيط لكيفية العمل أو ما هو
الأنسب للعمل الإغاثي؛ فيضطر بعضهم للاستعانة بالهيئات والتنظيمات الغربية.
مرئيات مستقبلية:
نرى ونحن نعمل في الميدان أن ستة أشهر غير كافية للعمل هنا لاستعادة
الأمل، وطرد شبح الحاجة والمرض من هذه البقعة من أرض المسلمين، ثم إن
العاملين هنا سواء من المسلمين أو المسيحيين يعملون الآن بشكل جدي في الغالب
لدرء آثار المجاعة الحالية ولإنقاذ ما يمكن انقاذه منها، ولكنهم وعلى السواء لا
يقدمون الدراسات والبحوث التي تعالج المأساة من أصلها عدا بعض البحوث الغربية،
وهنا نقترح الآتي درءاً لحدوث مثل هذه المجاعات في المستقبل في هذه المنطقة
المنكوبة عن طريق الدول والحكومات الإسلامية، وصناديق التنمية فيها؛ فرغم كل
المجاعات التي أصابت هذه المنطقة لم يُجَرَّب إعادة تنظيم المجتمع الريفي وهيكلته
هنا، إضافة إلى أنك لا تجد تجاوباً جاداً من حكومة أديس أبابا في تنمية هذا
الإقليم، فنقترح الآتي:
* إعادة توطين المجتمع البدوي والريفي في هذه المنطقة، ونشر المدارس
فيها، وخصوصاً المدارس التي تهتم بالجانب المهني والفني، وإنشاء معهد زراعي
وصناعي وتجاري وإداري في كل مدينة من مدن هذا الإقليم.
* هناك مئات المواقع القابلة للاستصلاح الزراعي؛ حيث توجد الأراضي
الخصبة الصالحة للزراعة، والتي تخترقها عدة أنهار في الجنوب الشرقي.
* الاستفادة من البحوث والدراسات الغربية التي قدمتها بعض الهيئات الغربية
للحكومة الإثيوبية لتنمية البلاد، وعدالة تقسيم الموارد الاقتصادية على الأراضي
الإثيوبية، والاهتمام بالبنى التحتية في هذا الإقليم.
* السماح لسكان هذا الإقليم بممارسة شعائرهم التعبدية، وانتشار مدارسهم
الدينية، وحلقات تحفيظ القرآن بكل حرية ونزاهة، والبعد عن القسر والظلم
والاضطهاد، والكف عن محاربة الدين الإسلامي في إثيوبيا عموماً، وفي هذا
الإقليم خصوصاً.
* السماح الكامل وغير المشروط للجمعيات والهيئات الإسلامية حكومية كانت
أو غير حكومية للعمل في أوساط هذا الشعب المسلم، وتنميته مَثَلُهُ في ذلك مَثَلُ
المجتمعات الإسلامية في بقية القرن الإفريقي.
وقد قصرنا حديثنا هنا على إقليم أوجادين بسبب ظهور المجاعة فيه عياناً؛ إذ
هو أشد المناطق تضرراً، أما المناطق العفرية والإرتيرية فهي أقل ضرراً منها،
وبعيدة عن خط الخطر بمشيئة الله تعالى.
(*) مندوب المنتدى الإسلامي في الصومال.