للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإسلام لعصرنا

[وسائل الاتصال.. وعلاقتنا بالثقافات الأخرى]

أ. د.جعفر شيخ إدريس

رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة

قلت في مقال شهر شوال: إن وسائل الاتصال الحديثة كما أنها فرصة

كبيرة لتبليغ الرسالة المحمدية، فهي أيضاً وسيلة يتخذها غير المسلمين ولا سيما

الغربيين لنشر معتقداتهم وتصوراتهم المخالفة لتلك الرسالة. وهذه فتنة، لكن لا

حيلة لنا الآن في ردها، فماذا نفعل؟ وهل وصول هذه الثقافات شر كله على

المسلمين، أم أنه قد ينطوي على بعض الخير؟ لا شك أن في وصولها بعض

الخير. ومن هذا الخير:

أولاً: أن معرفة ثقافة غير المسلمين أمر ضروري لحسن إبلاغ الدعوة

إليهم ولمجادلتهم؛ لأن الدعوة تكون أوقع في نفس المدعو إذا كانت مرتبطة بمحيطه

الثقافي، ناقدة ومقوِّمة له.

نعم! إن في ما يقوله ويعتقده غير المسلم ما هو قبيح ومؤذٍ للمسلم، لكن

معرفته مع ذلك

مهمة. وهذا كتاب ربنا مليء بحكاية أقوالهم القبيحة، والرد عليها، وتسلية

الرسل والمسلمين الذين يتعرضون لسماعها.

[وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إداً. تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ

وتَنشَقُّ الأَرْضُ وتَخِرُّ الجِبَالُ هَداً. أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَداً. ومَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن

يَتَّخِذَ ولَداً. إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصَاهُمْ

وعَدَّهُمْ عَداً. وكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً] [مريم: ٨٨ - ٩٥] .

[وقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ولُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ

يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ] [المائدة: ٦٤] .

[وإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا واللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لا

يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] [الأعراف: ٢٨] .

[قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَذِي يَقُولُونَ فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ولَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ

اللَّهِ يَجْحَدُونَ] [الأنعام: ٣٣] .

[وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إلَيْهِ ومِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ

هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ ولا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ. قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وإنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ] . [هود: ٧٨، ٧٩] .

ثانياً: إن في العالم الآن مئات المواقع الإسلامية على الشبكة العالمية، وكلها

تتلقى أسئلة عن الإسلام كما تتلقى نقداً له، أو شبهات تثار حوله، وكل هذا يعطي الدعاة فرصاً ثمينة لتبليغ الدعوة الإسلامية، وقد اهتدى بحمد الله تعالى عن هذا الطريق، وما تزال تهتدي أعداد كبيرة من الناس في شتى بقاع العالم.

ثالثاً: إن أخبار المهتدين هؤلاء سواء كانت هدايتهم عن طريق الشبكة أو عن

طريق آخر مما يسرُّ المسلم ويزيده إيماناً بدينه وثقة به، ولا سيما حين يستمع إلى الأسباب التي أخذت بأيديهم للدخول في الإسلام وتفضيله على ما كانوا ينتمون إليه من معتقدات وقيم وثقافات، والتحول الكبير الذي حدث في نفوسهم وسلوكهم بعد اعتناقهم الإسلام.

رابعاً: بل إن الاطلاع على الحضارة الغربية، ومعرفة حقيقتها كان سبباً في

عودة بعض المسلمين إلى دينهم، بعد أن كانوا مغترين ببريق تلك الحضارة، ومبتعدين عن الإسلام.

سألت أحدهم وكان سودانياً بمدينة لندن عن سبب عودته، فقال: إنه قال

لنفسه كلاماً فحواه: أنه إذا كان هذا الذي يراه هو نهاية مطاف الحضارة الغربية فإنه مصير لا يريده لنفسه ولا لبلده. وحدثني آخر وكان شاباً من بنغلاديش التقيت به في كاليفورنيا فقال: إنه اكتشف أنه كان مخدوعاً في هذه الحضارة وأنه كان يتصورها على غير حقيقتها التي اكتشفها في أمريكا، وأنه كان قبل مجيئه إلى الولايات المتحدة يسخر من تقاليد بلده ولا سيما في الزي ويقلد الزي ويقلد كل ما هو أمريكي، لكنه الآن غيَّر رأيه.

والآن ما أكثر المسلمين الذين يريدون الفرار من أمريكا أو أوروبا إلى أي بلد

مسلم، خوفاً على أخلاق أبنائهم وعلى دينهم! هذا مع أن الذين لا يعرفون الغرب معرفة هؤلاء يكون أكبر همهم أن يهاجروا إليه، وأن يربوا أبناءهم في مدارسه.

خامساً: لكن الثقافات الأخرى مهما كانت لا تخلو من بعض الخير، فمعرفتها

على حقيقتها تصحح الصورة القاتمة التي يرسمها لها بعض المتدينين عندنا من

الذين لم يطلعوا عليها. وجوانب الخير هذه التي لا يكاد يخلو منها مجتمع بشري هي من بقايا الفطرة الخيِّرة التي فطر الله عليها العباد، وهي التي تمكنهم من رؤية الحق حين يعرض عليهم، وتساعدهم على قبوله حين يعرفونه، وإلا لو كان كل الناس من غير المسلمين لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً لما اهتدى أحد منهم إلى الإسلام ولا عرف قيمته؛ فكما أن الصورة المثالية للحضارة الغربية تفتن بعض الناس فإن الصورة المشوهة لها قد تيئس بعض الناس من هدايتهم.

سادساً: لكن وجود هذا الخير في حضارة كالحضارة الغربية شيء، ...

وتصويرها على أنها المثال الذي ينبغي أن يحتذى في هذا العصر شيء آخر. أذكر أنني نقلت لمجموعة من الأمريكان في أحد المؤتمرات العلمية ما يقوله بعض المفكرين العرب عنهم، وكان مما قلت لهم: إنهم يقولون إنكم تختارون ناخبيكم على أسس علمية موضوعية، وعلى أساس البرامج التي يقدمونها لكم، فضحكوا حتى ضجت بهم القاعة، كأنني أسمعتهم نكتة من أظرف النكات. وذلك لأنه في الوقت الذي كان يقول فيه بعض المفكرين العرب ما ذكرت، كان هنالك معلق سياسي أمريكي مشهور يقول عن الانتخابات: إنها موسم ترويح أو تسلية. والمعروف أن من بين أسباب اختيار الرئيس: شكله، ونكاته، وجمال زوجه، ولذلك كان أنصار كلينتون يقولون للناخبين ما يقول أصحاب البضائع: اشترِ واحداً وخذ اثنين.

لكن مما لا شك فيه أن لدخول الثقافات الأخرى إلى بلادنا أضراراً كثيرة؛

وذلك أن ما ذكرنا من خيرات الاطلاع عليها ومعرفتها لا يشمل كل مطَّلع عليها من المسلمين، بل قد يكون تأثيرها ضاراً على أغلبهم، ولا سيما صغار السن وقليلي العلم منهم. ومما يساعد على تأثيرها الضار كونها هي الآن الحضارة القوية اقتصادياً وتقنياً، وعسكرياً، والناس كما قيل مولعون بتقليد الغالب. ومما يساعد على التأثير كون إعلامها القوي المتطور يعرضها بصورة جذابة تغري بها.

كيف العمل؟

هذا سؤال كبير، لكن نختصر الإجابة عنه فيما يلي:

يجب أولاًَ أن نعمل ما استطعنا للتقليل من فرص وصول جوانبها الضارة إلينا، وهي الجوانب المتمثلة في كثير من الأفلام والقصص، والجرائد والمجلات كما يجب أن نسعى للتقليل من شرها بنقد أباطيلها والرد عليها مقتدين في ذلك بكتاب ربنا كما رأينا في الآيات التي أوردناها. والرد يكون رداً مباشراً على أباطيل معينة، كما يكون وذلك هو المهم بتزويد الناس بقواعد وأصول وأدوات وسائل الإعلام العامة. وأما الرد المباشر فيجب أن يكون عملاً يومياً تقوم به المواقع الإسلامية على الشبكة العالمية، كما تشارك فيه الصحف والمجلات التي تروي لنا أخبار الغرب وأقواله. وتكون الوقاية منها أيضاً بتقديم البديل الذي يغني عنها: [ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً] [الفرقان:٣٣] . ...