الإصلاح كلمة جميلة سهلة الإخراج من اللسان، خفيفة الوقع على الأذن، تنشرح لسماعها الصدور، وتألفها القلوب؛ لأن الإصلاح موافق للفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ ولهذا قال نبي الله شعيب ـ عليه السلام ـ لقومه لما دعاهم إلى عبادة الله وحده، ونهاهم عن إنقاص المكاييل والموازين، وأمرهم بتوفيتها، قال لهم:{إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}[هود: ٨٨] .
ولما كانت هذه الكلمة بهذه المنزلة، فقد ادعاها كثيرون: من يريد الإصلاح حقيقة، ومن هم مقيمون على الفساد والإفساد، لكنَّ هناك ضابطاً يميز بين المدَّعين وسواهم؛ إذ الإصلاح كله مضمَّن فيما جاء به الشرع، أو دل عليه وأرشد إليه، أو قَبِلَه؛ فمن زعم الإصلاح بما يخالف الشرع فهو مفسد، وإن زعم غير ذلك، ومن رام الإصلاح من غير أن يتخذ الشرع هادياً وإماماً له فهو يمشي في عماية، لا يدري أية سِكَّة سلك؛ فقد يسلك سِكَّة للإصلاح، كما قد يسلك سِككاً للإفساد، ونهاية أمره التخبط والفساد؛ لأن العقول وإن اهتدت إلى ما فيه بعض الصلاح والإصلاح في بعض الأمور، لكنها لا تستقل بإدراك الصلاح كله في الأمور جميعها، فلا مندوحة لأحد يدعو إلى الإصلاح عن الرجوع إلى الشرع، والركون إليه، والانطلاق منه، وعلى هذا فإن كل دعوة للإصلاح مهما كان حجمها، وأياً كان منطلقها أو الصائح بها، أو الجهة التي تقف خلفها، إذا لم تكن قائمة على اتباع الشرع المنزل من ربِّ العالمين جميعهم؛ فهي دعوة للإفساد، ومآلها إفساد المجتمع وتخريبه، ولذا فإن شعار «الدعوة للإصلاح» لا يصلح أن يرفعه بحقٍّ إلا من اتخذ الشريعة له قائداً وهادياً ودليلاً، أما من لم يجعل الشريعة دليله وقائده وجعلها وراءه ظهرياً، فإنه يقيم على الفساد وهو يظن أنه قائم على الإصلاح، ويدعو إلى الفساد وهو يزعم أنه من دعاة الإصلاح، وهذه هي حال المنافقين؛ فهم يفسدون ويزعمون أنهم مصلحون. قال الله ـ تعالى ـ:{وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}[البقرة: ١١ - ١٢] ؛ فهم قائمون على الفساد داعون للإفساد ويزعمون أن الصلاح في أقوالهم وأفعالهم وسلوكهم، وهذا شأنهم في تغيير المعاني وقلب الأفكار وانعكاس المعايير، فتراهم يدعون إلى تماسك الشعوب وعدم تفتيتها وتقسيمها على أساس الديانة والحفاظ على الوحدة الوطنية، ويقولون: هذه دعوة للإصلاح؛ فإذا بحثت وفتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة إلى إقصاء الشريعة الإسلامية وتحكيم القوانين الوضعية، وهذا هو الإفساد. وتراهم يدعون إلى عدم التمييز بين طبقات المجتمع، وعدم التحيز لفئة ضد فئة أخرى، ويقولون: هذه دعوة للإصلاح؛ فإذا فتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة إلى المساواة التامة بين الذكر والأنثى، حتى فيما فرقت فيه النصوص القطعية، وهذا هو الإفساد، وتراهم يدعون إلى المحافظة على حقوق الإنسان وإعطائه الحرية، ويقولون: هذه دعوة للإصلاح؛ فإذا فتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة إلى إباحية مطلقة من كل قيد حتى يأتي الرجلُ الرجلَ والمرأةُ المرأةَ وهذا هو الإفساد. وتراهم يدعون إلى التسامح وإشاعة ثقافة الحوار والانفتاح على الآخر المختلف ثقافياً ويقولون: هذه دعوة للإصلاح؛ فإذا بحثت وفتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة إلى إذابة الفوارق بين المسلمين والكفار، وإضعاف معاني الولاء والبراء إلى حد الإلغاء، وهذا هو الإفساد. وتراهم يدعون إلى الاستفادة من الصور المعاصرة في كيفية تنمية رأس المال مع الأمان من تقلبات الأحوال والمعاملات الاقتصادية، ويقولون: هذه دعوة للإصلاح فإذا بحثت وفتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة إلى التعاملات الربوية عن طريق البنوك التي يقوم أمرها على الربا، وهذا هو الإفساد. وتراهم يدعون إلى عدم المتاجرة بالدين وعدم إقحامه في المسائل الدنيوية ويقولون: هذه دعوة للإصلاح؛ فإذا فتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة للعلمانية بكل ما تحمله من معنى وهذا هو الإفساد. ولو ظللنا نتتبع كثيراً من ألفاظهم التي يتلاعبون بها وجدناها لم تخرج عن حد الكلام الذي تكون حقيقته مخالفة لظاهره؛ وهذا هو النفاق {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}[البقرة: ١١] ؛ فإذا أردت أن تفرق بين من تكون دعوته للإصلاح بحق، وبين من يدعو للإفساد تحت عباءة الإصلاح فانظر أين موضع الشريعة من دعوته تعرف ذلك!