[الصراع السكاني على أرض فلسطين]
هل يحسم لصالح الفلسطينيين؟
د. يوسف إبراهيم
لم يكن الصراع بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني صراعاً عادياً، وإنما أخذ هذا الصراع أبعاداً خطيرة تمثلت في الصراع على الأرض، وانتزاعها من أصحابها الأصليين، والسيطرة عليها بكافة الوسائل والطرق. ومع بدايات ظهور هذا الصراع في أوائل سنوات القرن العشرين استطاع اليهود الوصول إلى فلسطين ضمن التسهيلات التي أعطيت لهم من حكومة الانتداب البريطاني التي قدمت لهم المساعدات الكثيرة والمتنوعة من أجل الحصول والسيطرة على كثير من الأراضي الفلسطينية، وتدريب اليهود على السلاح.
ولم يستطع اليهود إعلان دولتهم إلا بعد أن اكتمل العدد الكافي من المهاجرين إلى فلسطين؛ ومن هنا بدأ الصراع يظهر على الأرض، وأخذ في نهايته شكل الصراع السكاني؛ حيث شجعت بريطانيا اليهود على الهجرة إلى فلسطين وإعطائهم الامتيازات والتسهيلات.
والجدول التالي يكفي لإعطاء صورة التوزيع الجغرافي للفلسطينيين واليهود على أرض فلسطين التاريخية؛ حيث لم يكن لليهود وجود سوى ٨% من عدد السكان، ارتفع إلى ٣١.٥% في عام إعلان الكيان الصهيوني لدولة اليهود:
ومن هنا تبلور جوهر الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي الذي جرى على أرض فلسطين منذ قيام الحركة الصهيونية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان صراعاً استهدف انتزاع الوطن الفلسطيني وإفراغه من الوجود العربي لصالح الوجود الصهيوني، وفي الجانب الآخر تحدد الهدف بالمحافظة على الوجود السكاني للشعب الفلسطيني بكافة مقومات الوجود العربي السياسية والأيديولوجية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية.
ومن هنا فإن كافة أطراف الصراع بدأت بتبني الخطط والبرامج والسياسات الاقتصادية منها والاجتماعية لتحقيق الأهداف التي يسعى الكل لها؛ فالطرف الإسرائيلي يسعى إلى حسم المعركة السكانية لصالحه عن طريق تشجيع الهجرة إلى فلسطين، وعن طريق تشجيع الأُسر بزيادة عدد أفراد أُسرهم؛ وذلك بتقديم كثير من المساعدات والهبات وتقديم المنح لهذه الأُسر، والجدول التالي يوضح حجم الهجرة اليهودية لفلسطين قبل إعلان دولة الكيان الصهيوني:
وفي الطرف الفلسطيني ظهرت المقاومة المسلحة لوقف زحف واستيلاء اليهود على الأراضي الفلسطينية، ونشر الوعي الاجتماعي والثقافي بين أفراد الشعب الفلسطيني، وحثهم على المقاومة والصمود في وجه الطغيان الصهيوني للسيطرة على الأراضي الفلسطينية؛ فعندما صدر وعد بلفور عام ١٩١٧م وُضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني من عام ١٩١٨م حتى عام ١٩٤٨م، حيث تم تقديم التسهيلات اللازمة لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وبدأ اليهود بالتدفق بالآلاف، وارتفع عددهم من حوالي عشرة آلاف شخص في منتصف القرن التاسع عشر إلى ما يقرب من ٦٢,٥ ألف شخص عند بداية الانتداب البريطاني، وإلى ما يقرب من ستمائة وخمسين ألف شخص عند نهاية الانتداب المذكور عام ١٩٤٨م؛ وبذلك ارتفعت نسبة اليهود إلى مجموع عدد السكان في فلسطين من ٨,٣% عام ١٩١٩م إلى ٣١,٥% في ١٥/٥/١٩٤٨م.
وقد كان أول تقدير لعدد سكان فلسطين في القرن العشرين في فترة الحكم العثماني؛ حيث أعلن في عام ١٩١٤م ـ وهي السنة التي نشبت فيها الحرب العالمية الأولى ـ أن عدد سكان فلسطين هو ٦٨٩,٢٧٥ نسمة منهم ٨% من اليهود. وبعد خضوع فلسطين للانتداب البريطاني أصبح عدد سكان فلسطين حسب التقدير الرسمي ٦٧٣,٠٠٠ منهم ٥٢١,٠٠٠ من المسلمين و٦٧,٠٠٠ من اليهود و٧٨,٠٠٠ من المسيحيين و٧٠٠٠ من المذاهب الأخرى (١) .
وقد نجم عن نكبة فلسطين وإعلان قيام دولة اليهود تشريد القسم الأكبر من السكان الأصليين العرب؛ حيث تركوا منازلهم رغبة في النجاة بأرواحهم؛ نتيجة الوحشية التي اتبعها العدو الصهيوني في احتلاله للقرى الفلسطينية، وقد نجم عن هذه النكبة تقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق جغرافية:
ـ أراضي عام ١٩٤٨م: وهي الأراضي التي احتلها اليهود بعد حرب عام ١٩٤٨م؛ حيث أقاموا دولتهم على هذه الأراضي، وقد شغلت ٧٦,٧% من مساحة فلسطين.
ـ الضفة الغربية: وتشغل ٢٢% من مساحة فلسطين.
ـ قطاع غزة: ويشغل ١.٣% من مساحة فلسطين.
ولم يكتف العدو الصهيوني بأن تبقى رقعة دولتهم على أراضي ١٩٤٨م، وإنما قاموا بالعدوان على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة في عام ١٩٦٧م، وقاموا باحتلالها؛ وبذلك أصبحت فلسطين جميعها تحت السيطرة اليهودية، وعلى أثر هذا العدوان الجديد نزح العديد من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، وانخفض عدد السكان في الضفة الغربية إلى ٥٨١,٧٠٠ نسمة، كما انخفض عدد السكان في قطاع غزة إلى ٩٣٧,٦ ألف نسمة، بينما كان عددهم قبل عام ١٩٦٧م مباشرة في حدود مليون وأربعين ألف نسمة (٢) .
وتشير جميع الدلائل والمؤشرات إلى أن العدو الصهيوني يسعى جاهداً في مضايقة الشعب الفلسطيني، وإجباره على الرحيل من أراضيه؛ وذلك رغبة منه وطمعاً في أرض بلا سكان، وذلك لتحقيق ما يصبون إليه، واستمراراً لنظرية الصراع السكاني على أرض فلسطين، ويتضح ذلك من خلال الممارسات اليومية لهم من سحب هويات أبناء الشعب الفلسطيني، والاستيلاء على أراضيهم، وطردهم منها، واقتلاع الأشجار المثمرة، وإقامة المستوطنات على تلك الأراضي المصادرة، وكان آخر هذه الممارسات بناء جدار الفصل الذي التهم آلاف الدونمات، وشَرّد آلاف الفلسطينيين من قراهم.
- التركيز على القدس:
تنفذ الحكومات «الإسرائيلية» المتعاقبة منذ احتلال القدس عام ١٩٦٧م سياسة هدفها تدعيم سيادة «إسرائيل» على القدس من خلال إيجاد أغلبية حاسمة لليهود في المدينة. كان الهدف المعلن لـ «إسرائيل» هو الحفاظ على ما تسميه بـ «التوازن السكاني» في القدس، والذي يعني بطبيعة الحال الحفاظ على أغلبية يهودية دائمة في القدس، ولكي يتحقق هذا الهدف تعمل «إسرائيل» على مدار سنوات طوال على زيادة أعداد اليهود في القدس الشرقية من ناحية، ودفع الفلسطينيين من سكان القدس الشرقية إلى مغادرة المدينة من ناحية أخرى، ومن الوسائل التي تتبعها «إسرائيل» لتحقيق ذلك:
ـ التمييز المنظم والموجه ضد السكان الفلسطينيين في القدس الشرقية فيما يتعلق بمصادرة أراضيهم؛ بزعم التخطيط والبناء على أسس قانونية منظمة، وفي المقابل نجد عمليات بناء واسعة النطاق واستثمارات ضخمة بهدف إنشاء أحياء سكنية لليهود في القدس الشرقية، لعل آخرها مستوطنتا: رأس العامود، وجبل أبو غنيم. ويترتب على هذه السياسة وجود نقص حاد يصل إلى آلاف الشقق بين السكان الفلسطينيين. ونتيجة لعدم وجود بديل آخر يضطر المواطنون الفلسطينيون إلى مغادرة المدينة والبحث عن حلول أخرى للسكن خارج حدود مدينة القدس (٣) .
ـ تخصيص الحد الأدنى من الاستثمارات في مجال البنى التحتية والخدمات؛ فقد صرح رئيس البلدية «أيهود أولمرت» في هذا الشأن بقوله: «المشكلة الأساسية التي تعاني منها القدس هي الهوة السحيقة بين البنى التحتية في شرق القدس من ناحية وغربها من ناحية أخرى؛ فحالة البنى التحتية في معظم أحياء القدس الشرقية سيئة، وقد بذلت حكومات «إسرائيل» في الثلاثين عاماً الأخيرة جهوداً محدودة وغير كافية في هذا المجال» .
ـ رفض تلبية طلبات جمع شمل الأُسر التي قدمتها نساء فلسطينيات يسكنَّ في القدس من أجل أزواجهن الذين لم يقيموا معهن في القدس منذ عام ١٩٩٤م، ويترتب على هذا أنه لكي تقيم هذه النسوة مع أزواجهن يضطر عدد كبير منهن إلى مغادرة المدينة. وما زالت رغبة «إسرائيل» في فرض سيطرتها الواسعة على القدس وتثبيت سيادتها على كل أجزاء المدينة ـ قائمة ومتأججة أكثر مما كانت عليه في ظل اقتراب التفاوض من المرحلة النهائية من المفاوضات التي سيناقش خلالها «موضوع القدس» . فعلى سبيل المثال لا الحصر بعد نشر التقرير السنوي لمعهد القدس (ماخون يروشالايم) لعام ١٩٩٧م صرح رئيس بلدية المدينة (أيهود أولمرت) بأن «هذا التقرير يحوي أشياء لا أحبها، مثل الزيادة الطبيعية لدى السكان غير اليهود في المدينة» (١) .
- إجراءات وزارة الداخلية «الإسرائيلية» ضد الفلسطينيين في القدس لطردهم منها:
تعمل وزارة الداخلية في القدس الشرقية منذ شهر ديسمبر من عام ١٩٩٥م على تطبيق السياسة العامة لـ «إسرائيل» التي تستهدف الحد من أعداد الفلسطينيين الذين يقيمون في المدينة، وتتخذ الوزارة خطوات عدة في إطار تنفيذ هذه السياسة، ومن هذه الخطوات:
ـ سلب حق المواطنة من سكان القدس الذين أقاموا سنوات عدة خارج حدود المدينة، ونتج عن هذا أن وزارة الداخلية طلبت من آلاف الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية مغادرة منازلهم.
ـ يتم إلغاء حق المواطنة دون أن تتاح للفلسطيني الذي سلب منه هذا الحق إمكانية أن يطعن في القرار، وحتى إذا منح هذا الحق فهو حق شكلي فقط.
ـ تطلب الوزارة بشكل متكرر من الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية أن يقدموا أمام موظفيها ما يثبت أنهم ما زالوا يقيمون في المدينة، ولكن الحصول على الإثبات المطلوب مسألة صعبة جداً؛ فالأشخاص الذين أقاموا في القدس الشرقية طوال حياتهم يصعب عليهم إثبات ذلك؛ فالمستندات تطلب من المواطن حتى إذا كان قد قدّمها منذ فترة وجيزة إلى الوزارة، ولكن ضمن طلب آخر.
ـ رفض تسجيل الطفل الذي ولد لأبوين أحدهما من الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية في سجل المواليد، وكذلك رفض إصدار رقم قومي له، حتى لو كانت وزارة الداخلية قد اعترفت من قبل أن هذه الأسرة تقيم في القدس.
ـ الامتناع التام عن قبول الطلبات الخاصة بجمع شمل الأسر، ويترتب على ذلك أن السكان الفلسطينيين في المدينة غير قادرين على الزيادة إلا في مجال الزيادة الطبيعية. والطريقة الوحيدة الآن التي يمكن من خلالها قبول طلب جمع شمل الأُسر هي إقامة دعاوى قضائية أمام «محكمة العدل العليا» الإسرائيلية.
ومن أبرز الإجراءات التعسفية التي تطبقها وزارة الداخلية «الإسرائيلية» ضد السكان الفلسطينيين في القدس لدفعهم إلى تركها الإجراءات التالية (٢) :
أولاً: إلغاء حق المواطنة:
تنفذ وزارة الداخلية (الإسرائيلية) منذ شهر ديسمبر من عام ١٩٩٥م سياسة جديدة تقضي بأن أي فلسطيني من سكان القدس الشرقية لا ينجح في أن يثبت أمام وزارة الداخلية أنه يقيم في القدس في الوقت الحالي، وكان يسكن بها في السابق بشكل متواصل يمكن أن يفقد وللأبد حقه في أن يعيش في المدينة التي ولد فيها؛ فيصبح مضطراً تبعاً لذلك إلى ترك بيته، كما لا يعود في مقدوره الإقامة في القدس التي تخضع للسيطرة «الإسرائيلية» دون موافقات وتأشيرات خاصة، كما لا تتاح له إمكانية العمل في الأراضي الفلسطينية التي تخضع للمحتل «الإسرائيلي» ، بما في ذلك القدس، وتسلب منه كل حقوقه الاجتماعية التي يضمنها له سداده للضرائب المستحقة عليه، مثل: الانتفاع بخدمات التأمين الصحي، وغير ذلك.
ويمكن القول إن إلغاء حق المواطنة بالنسبة للفلسطينيين من أبناء القدس يأتي نتيجة لتغيير في سياسات الحكومات «الإسرائيلية» في ضوء تطور مباحثات سلام الوضع النهائي مع الفلسطينيين.
فقد بات واضحاً الآن أن سكان المدينة الذين ينتقلون للإقامة في المناطق الفلسطينية سيتم التعامل معهم كما لو أنهم انتقلوا للإقامة في دولة أخرى خارج «إسرائيل» ، ويمكن أن يلغى إلحاقهم في المواطنة خلافاً لما كان يحدث في الماضي؛ حيث لم يكن لذلك أي تداعيات على هذا الحق. وقد كان عدد السنوات السبع يبدأ من جديد بعد كل زيارة للقدس وتجديد تصريح الخروج، ولكن في ظل السياسات الجديدة فإن تجديد التصريح لا يقطع العد، ولا يحافظ على حق المواطنة (٣) .
ثانياً: حق الطعن:
أعلنت وزارة الداخلية «الإسرائيلية» في شهر يونيو من عام ١٩٧٧م أنه يحق لأي مواطن أن يطعن في قرار إلغاء حق المواطنة، وأن يقدم لوزارة الداخلية بيانات تناقض النتيجة التي توصلت إليها، وتزعم وزارة الداخلية بشكل دائم ومتواصل أن حق الطعن مكفول للفلسطينيين أبناء القدس الشرقية الذين أُلغي حقهم في المواطنة. والحقيقة هي أن هذا القول يفتقد الأساس الموضوعي؛ فحتى منتصف عام ١٩٩٧م اعتاد موظفو وزارة الداخلية إرسال خطابات للفلسطينيين أبناء القدس الشرقية الذين سلب منهم حق المواطنة، يبلغونهم فيها أنه ينبغي عليهم مغادرة البلاد خلال خمسة عشر يوماً مع أفراد عائلاتهم. وقد رفضت وزارة الداخلية صراحة أن توفر لهؤلاء الفلسطينيين أي إمكان لنقض القرار، زاعمة أن «حق المواطنة» قد «ألغي من تلقاء نفسه» ؛ من هنا ليس للموظف الذي أبلغهم بذلك أي دور للتدخل في الأمر.
ثالثاً: إثبات «مركز الحياة» :
تقضي المادة الحادية عشرة (ج) من قانون الدخول إلى إسرائيل بأن «صلاحية تصريح الإقامة الدائمة يلغى إذا ترك صاحب التصريح إسرائيل، وأقام خارجها» . وجاء في المادة الحادية عشرة (أ) أن المرء يبدو في نظر القانون أنه «أقام في دولة خارج إسرائيل إذا مكث خارج إسرائيل فترة تصل إلى سبع سنوات على الأقل، أو إذا حصل على تصريح بالإقامة الدائمة أو الجنسية في دولة أخرى» .
تطلب وزارة الداخلية من الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية المتقدمين إليها لتقديم أي طلب من أي نوع أن يثبتوا أن «مركز الحياة» لم يتغير، وأنهم ما زالوا يقطنون في المدينة. وتحقيق الأدلة التي تطلبها وزارة الداخلية مسألة صعبة جداً؛ فحتى الأشخاص الذين يقيمون طوال حياتهم في القدس سيصعب عليهم الحصول عليها. ومن ضمن ما تطلبه وزارة الداخلية موافقات جهة العمل، وإيصالات سداد الضريبة العقارية، وإيصالات سداد استهلاك الكهرباء والمياه والهاتف منذ يوم الزواج، وعقد إيجار السكن وغير ذلك، وفي الحالة التي يسكن فيها الشخص في منزل والديه، وليس لديه عقد إيجار يصبح المطلوب منه أن يقدم شهادة خطية موقعة من محام تفيد بأنه يقيم هناك (١) .
في ضوء هذا الواقع المرير من الصراع السكاني والصراع على الأرض انعكس عنه وجود تيارين متعاكسين من الهجرة؛ فالشعب الفلسطيني يُجبر على الهجرة من أراضيه في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ في حين نشهد هجرة يهودية من كافة أرجاء العالم إلى فلسطين، إلا أن هذه الصورة بدأت في السنوات الخمس الأخيرة تأخذ شكلاً أعنف من أشكال الصراع؛ حيث زاد اليهود من عمليات السيطرة على الأراضي في الضفة الغربية، وبدؤوا بتوسيع مستوطناتهم في الوقت الذي بدأ فيه الشعب الفلسطيني تعود له عافيته في الاستقرار والأمن، وبدأت جموع الشعب الفلسطيني بالعودة من خارج فلسطين إلى داخلها، وبدأت أعداد من العائدين والمستثمرين والقوات الفلسطينية بالعودة إلى فلسطين (الضفة الغربية + قطاع غزة) . وللوقوف على صورة المتغيرات السكانية ومدى أثر الهجرة عليها نرى أن المجموع الكلي لعدد السكان في فلسطين عام ١٩٨٦م (٥,٦ ملايين نسمة) منهم ٣,٥ ملايين نسمة من اليهود أي ما نسبته حوالي ٦٣ % من المجموع الكلي، والباقي من الفلسطينيين، أي ما نسبته ٣٧ % من المجموع الكلي، يقيم منهم في الضفة الغربية وقطاع غزة حوالي ٢٦ % من المجموع، بينما كانت نسبتهم ٣٢ % قبل نكسة حزيران عام ١٩٦٧م، وفي حدود ٥٣% بعد نكبة ١٩٤٨م مباشرة (٢) .
ومع حلول عام ١٩٩٨م بلغ المجموع الكلي لعدد السكان في فلسطين (٨,٠٩ ملايين نسمة) منهم ٥٠,٥٠ ملايين نسمة من اليهود أي ما نسبته حوالي ٦٧,٩ % والباقي من الفلسطينيين أي ما نسبته ٣٢,١ % من المجموع الكلي، يقيم منهم في الضفة الغربية ١,٥٩٦,٤٤٢ نسمة و١,٠٠٠,١٧٥ مليون نسمة في قطاع غزة (٣) ، وخلال الأحد عشر عاماً الماضية استطاعت إسرائيل المحافظة على الميزان السكاني لصالحها على الرغم من ارتفاع نسبة النمو السكاني في الجانب الفلسطيني، ويرجع ذلك إلى موجات الهجرة في هذه السنوات، وخاصة بعد انتهاء المنظومة الاشتراكية، وتفكيك الاتحاد السوفييتي؛ وهو الأمر الذي استغله اليهود في ترحيل أعداد كبيرة منهم إلى دولة إسرائيل، إلا أن الأمور بدأت تنقلب، وخاصة بعد ظهور الهجرة العكسية بعد نشوب انتفاضة الأقصى.
- هجرة عكسية ضخمة:
كشفت مصادر إعلامية صهيونية عن تلقِّي شارون مؤخراً من «تسفي ليفني» وزيرة استيعاب المهاجرين معطيات تفيد بتراجع مكانة الكيان الصهيوني كهدف أول للمهاجرين اليهود؛ حيث كشفت المعطيات عن اختيار ١٨ ألفاً من يهود الاتحاد السوفييتي السابق الهجرة إلى ألمانيا خلال عام ٢٠٠٢م، بينما اختار ١٧ ألف يهودي فقط الهجرة إلى الكيان الصهيوني؛ مما يوضح تراجع مكانة الكيان كهدف أول لهجرة اليهود، وهذا مقابل تزايد نسبة الزيادة الطبيعية لفلسطينيي أراضي ٤٨م، وفلسطينيي الضفة والقطاع، بينما تقل نسبة النمو الطبيعي للسكان اليهود، وتتراجع نسبة الهجرة اليهودية التي تشكل القوة المضادة للنمو السكاني الفلسطيني المتزايد، وكل ذلك يجعل كفة الميزان السكاني تميل لصالح الفلسطينيين؛ وهو ما دفع شارون إلى عقد اجتماع سري لمناقشة انخفاض نمو اليهود، وتراجع الهجرة وإقرار مخطط لرفع تعداد الكيان الصهيوني إلى ١٥ مليون يهودي لمحاربة الزيادة السكانية للشعب الفلسطيني داخل الكيان وخارجه.
وفي المقابل يحدث تزايد معدل الهجرة العكسية؛ حيث أظهرت آخر الإحصائيات الصادرة عن «مركز الإحصاء المركزي» الصهيوني في «هرتسليا» بالكيان العبري حول معدل سفر اليهود في صيف هذه السنة ـ ٢٠٠٤م ـ إلى دول أوروبية والولايات المتحدة أنه وصل إلى قرابة مليون ونصف مليون خلال شهري يوليو، وأغسطس الماضيين فقط. وقد أفادت مصادر أمنية غربية أن تردي الأوضاع الأمنية في الأراضي الفلسطينية وداخل الكيان إثر اندلاع انتفاضة الأقصى وتوالي ضربات المقاومة دفع أعداداً كبيرة من الصهاينة إلى السعي في الهجرة من الكيان إلى الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية، وأوردت صحيفة «أوبزيرفر» اللندنية أن انتفاضة الأقصى المتواصلة أدت إلى موجة هجرة من «إسرائيل» ومن مناطق السلطة الفلسطينية. من ناحية أخرى كشفت تقارير صهيونية رسمية أن بين ٧٠٠ ألف إلى مليون يهودي غادروا «إسرائيل» نهائياً بهجرة عكسية بسبب عدم إحساسهم بالأمن بعد انتفاضة الأقصى والعمليات الاستشهادية التي تقوم بها حماس، والجهاد الإسلامي، وكتائب الأقصى، في حين أعلن رسمياً أيضاً أن أعداد المهاجرين اليهود إلى الكيان الصهيوني في تناقص حاد وخطير، ويرجع ذلك إلى عزوف عدد كبير من يهود العالم عن الهجرة إلى فلسطين خوفاً من الموت، ويتوقع كبار موظفي وزارة الاستيعاب والوكالة اليهودية - وهما الجهتان المسؤولتان عن استيعاب المهاجرين - أن تتواصل وتيرة الانخفاض في عدد المهاجرين الذين يصلون إلى الدولة العبرية، وذلك بفعل تواصل مظاهر انتفاضة الأقصى.
- هجرة من المستوطنات:
أكدت الصحف الصهيونية أن الانتفاضة والوضع الأمني المتدهور والوضع الاقتصادي السيئ دفع بالمستوطنين في الضفة الغربية، وقطاع غزة، وغور الأردن إلى إخلاء المستوطنات والانتقال إلى داخل الكيان، بينما ذكرت وزارة الحرب الصهيونية أن عشرات النقاط الاستيطانية خالية تماماً من سكانها، وأن أفراد الجيش الصهيوني يتمركزون في هذه المناطق الخالية من السكان لحماية الممتلكات. ومن خلال هذه المعطيات فقد أثبتت الانتفاضة في عامها الثالث أن عهد الازدهار الذي وفره «اتفاق أوسلو» لنمو المشروع الاستيطاني الصهيوني وتوسعه قد بدأ يخفت بعد أن أصبح الهمُّ الأساسي للمستوطنين البحثَ عن توفير الأمن الشخصي لهم تاركين خلفهم الأيديولوجية ومقولة: «الاستيطان في كل مكان من أرض إسرائيل» .
وتشير الإحصاءات «الإسرائيلية» في هذا الصدد إلى انخفاض أعداد المستوطنين إلى أكثر من ٧٥ في المائة، بالإضافة إلى تدني بيع الوحدات السكنية داخل المستوطنات إلى النصف؛ وهو الأمر الذي يدل بشكل واضح على عجز شارون وأجهزته الأمنية عن توفير الأمن للمجتمع الصهيوني ومستوطنيه.
وانخفض كذلك عدد المهاجرين إلى الكيان بصورة ملحوظة في السنتين الأخيرتين؛ إذ وصل في النصف الأول من عام ٢٠٠١م إلى نحو ٢٤,٠٠٠ مستوطن، مقابل ٣٢,٠٠٠ في الفترة نفسها من العام ٢٠٠٠م، علماً بأن الرقم وصل إلى ٣٧,٠٠٠ مستوطن خلال الفترة ذاتها من عام ١٩٩٩م.
والجدول التالي يوضح الميزان السكاني في التغيرات في مكونات النمو السكاني لدى الفلسطينيين واليهود:
- قراءة سكانية مستقبلية:
على الرغم من الممارسات الصهيونية والآثار الجغرافية والسكانية المترتبة عن ذلك، إلا أن الوجود اليهودي المنتشر على أرض فلسطين التاريخية لن يشكل أغلبية في عام ٢٠٠٦م إذا ما أخذنا بالاعتبار فلسطينيي عام الـ ٤٨م، الذين يعيشون داخل دولة إسرائيل كمواطنين، ولكنهم يتعرضون للتمييز العنصري في المعاملة والخدمات، وتبقى جذورهم تنحو نحو إخوانهم في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ حيث إن الفلسطينيين سيصبحون على تساوٍ مع اليهود، ومن المتوقع في السنوات القادمة أن يكون التفوق للفلسطينيين؛ والجدول رقم (٣) يوضح الميزان السكاني المتوقع على أرض فلسطين حتى عام ٢٠٠٦م.
ملاحظة: أعداد المستوطنين لا يتم إضافتها إلى إجمالي عدد اليهود؛ لأنهم ـ بالطبع ـ محسوبون على إجمالي عدد اليهود في دولة إسرائيل عام ٢٠٠٦م ـ تقديرات الباحث على أساس ثبات الزيادة السنوية للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة = ١٧٦.١٥٩ نسمة سنوياً / للفلسطينيين داخل إسرائيل = ٣٤٥٠٠ نسمة سنوياً / ولليهود = ٨٣.٥٠٠ نسمة سنوياً.
الزيادة في أعداد اليهود لم تأخذ بالحسبان موجات الهجرة اليهودية الجماعية التي قد تأتي إلى فلسطين.
لم يتم تقدير أعداد المستوطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ لأن ذلك مرتبط بالظروف السياسية.
من خلال الجدول السابق يتضح أن الميزان السكاني سيكون في صالح الفلسطينيين في عام ٢٠٠٦م ـ بغض النظر عن مكان وجودهم سواء في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو في داخل إسرائيل ـ فسيصل عدد الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية في عام ٢٠٠٦م حوالي ٥.٤٦٧.٤٧٢ فلسطينياً، في نفس الوقت الذي سيكون فيه عدد اليهود على أرض فلسطين التاريخية ٥ ملايين يهودي، ويرجع هذا التفوق للفلسطينيين إلى الزيادة الطبيعية؛ في حين أن الزيادة السكانية عند اليهود كانت تعتمد وبشكل مباشر على المهاجرين القادمين من جميع أقطار العالم.
نستنتج مما سبق أن الهجرة الفلسطينية الواسعة وبهذا الحجم الكبير كانت نتيجة التهجير القسري وممارسات العصابات الصهيونية، مقابل قدوم آلاف اليهود من جميع أقطار العالم للاستقرار في فلسطين. وعلى الرغم من ممارسات العصابات الصهيونية إلا أن الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية سيكون لهم الأغلبية، خلافاً لما خططت له الحركة الصهيونية (٩%سنوياً) ؛ حيث إن سلطات العدو ماضية في تنفيذ مخطط المحافظة على الميزان السكاني لصالحها، وهو الأمر الذي يستدعي منها القيام بتنفيذ مخططها الهادف إلى ابتلاع الأرض، وتشريد الأهل من فلسطين وحصرهم في بقع وكنتونات جغرافية غير مترابطة وغير متماسكة ليسهل السيطرة عليهم؛ وهو ما يبشر وينبئ بحدوث انفجار سكاني؛ لأن عوامل النمو السكاني هي في صالح الشعب الفلسطيني (٤%سنوياً) واليهود (١.٩%سنوياً) ، وارتفاع معدلات الخصوبة الكلي (٦.١) للشعب الفلسطيني و (٢.١) لدى اليهود، ومن ثم يعمل اليهود من خلال المؤسسة السياسية والعسكرية على استباق سنوات الحسم السكاني من خلال تكثيف عمليات الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، كما هو حاصل في شبكة الاستيطان المنتشرة على طول الضفة الغربية وقطاع غزة، والجدار الفاصل الذي يلتهم أكثر من نصف مساحة الضفة الغربية، إذا ما تم تنفيذ الجدار الشرقي في أغوار الأردن؛ وهو الأمر الذي يساعد على تقطيع الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى كنتونات صغيرة منفصلة لا يوجد بينها تواصل جغرافي، مما سيعطل إنشاء وتكوين دولة فلسطينية مستقلة ذات خصائص تساعدها على النمو والتطور.
(*) متخصص في شؤون الجغرافيا والديموغرافيا ـ فلسطين.
(١) Luke, H. and Heith, The hand book of Palestine and Trans Hordan Macmillan London, ١٩٣٠, P.٣١.
(٢) Govenment of Palestine. census fof ١٩٢٢, Jerusalem, ١٩٢٣.
(٣) Government of Palestine. census fof ١٩٢٢, Jerusalem, ١٩٣٢.
(٤) حسن عبد القادر صالح، جغرافية فلسطين، برنامج التربية، الجامعة المفتوحة، القدس، ١٩٩٦م، بدون دار نشر، ص ١٢٨.
(٥) مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، الجزء الأول، رابطة الجامعيين بمحافظة الخليل، دار الطليعة، بيروت، ١٩٧٣م، ص ٢٣ ٢٤.
(٦) موسى سمحة، التغييرات السكانية في فلسطين، دراسة في النمو السكاني والصراع الديموغرافي، الجامعة الأردنية، قسم الدراسات السكانية، ص ٣٨٤.
(٧) المصدر: موسى سمحة، التغيرات السكانية في فلسطين، دراسة في النمو السكاني والصراع السكاني، في كتاب (الخصائص الديموغرافية للشعب الفلسطيني) منشورات دار النضال للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ص ٣٨٩.
(١) حسن عبد القادر، جغرافية فلسطين، بدون دار نشر، ١٩٩٦م، ص ١٢٦.
(٢) موسى سمحة وآخرون، الصراع الديموغرافي في فلسطين المحتلة، اللجنة الأردنية الفلسطينية المشتركة، ١٩٨٦م، ص ٨.
(٣) http://www.wahdah.net/demog.html.
(١) المرجع السابق. (٢، ٣) المرجع السابق.
(١) المرجع السابق. (٢) موسى سمحة، مرجع سابق، ص ٩.
(٣) السلطة الوطنية الفلسطينية، دائرة الإحصاء المركزية، نتائج للتعداد العام الذي أجري في نهاية عام ١٩٩٧م.
(*) الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، السكان في الأراضي الفلسطينية ١٩٩٧-٢٠٢٥ رام الله، ص ٤١. =
= - Statistical Abstract of Israel, Jerusalem, ١٩٩٩, No, ٥٠, Table ٢.
- Foundation for Middle East Peace, Israeli Settlement, volume ١٠, No ٦