ملفات
الحرب على الحجاب مدخل للتغريب
[ثورة أوروبا ضد الحجاب.. أم ضد الهوية الإسلامية؟]
خليل العناني
k_anany٢٠٠٠@yahoo.com
لم تكد تمر أسابيع معدودة على صدور قرار الرئيس الفرنسي جاك شيراك
بحظر ارتداء الحجاب للطالبات المسلمات في المدارس الفرنسية، حتى اندلعت في
أوروبا جدالات ونقاشات واسعة حول قضية الحجاب في المجتمعات الأوروبية
بشكل عام، وبدا أن هناك بوادر «ثورة» غير معلنة ضد الحجاب الإسلامي في
القارة العلمانية سواء في بلجيكا أو في ألمانيا؛ وبالطبع فقد انطلقت شرارتها الأولى
في فرنسا.
ولعل ما يثير الغرابة والاستهجان من هذه القضية هو ذلك التناقض الذي تقع
فيه أوروبا؛ فهي من ناحية تعد القارة الأولى التي تحترم الحريات الفردية وتقدسها،
ولكنها من ناحية أخرى تفرض قيوداً على الحريات الدينية تحت غطاء سياسي،
وتقدم مسوغات وحججاً واهية تقلل إلى حد كبير من نقاء الصورة التي رسمتها
أوروبا طيلة القرون الماضية في أذهان وعقول الشعوب الأخرى.
وواقع الأمر؛ فإنه لتحري الموضوعية والحيادية في تناول قضية الحجاب في
أوروبا تجدر الإشارة إلى أن هذه المسألة ما هي إلا مجرد وجه واحد من الصورة
الكلية التي للمسلمين في أوروبا، أي أن مناقشة هذا الأمر يجب ألاَّ ينظر إليها
منفردة، بل بتناول حقيقة التعايش الإسلامي في أوروبا.
* أوروبا العلمانية في مواجهة أوروبا الدينية:
بادئ ذي بدء تجدر الإشارة إلى أن قضية الحريات الدينية خاصة فيما يتعلق
بالمسلمين في أوروبا ترتبط ببعدين أساسين:
أولهما: يتعلق بمدى القدرة على الحفاظ على أكبر قدر من التوازن بين
ممارسة الحريات، وبين فصل الانعكاسات السياسية لهذه الحريات عن المجتمعات
الأوروبية، أي فصل الدين عن الدولة فيما يعرف مجازاً بـ «العلمانية» .
والبعد الثاني: هو مدى التأثير الذي يمكن أن تتركه ممارسات المسلمين في
أوروبا على غيرهم من ذوي الديانات الأخرى.
وباختبار هذين البعدين يتضح لنا حقيقة الإشكالية التي تواجهها أوروبا في
كيفية الحفاظ على منهجيتها العلمانية من جهة، والضغوط التي تمارسها لتقليل
الصبغة الدينية لبعض الممارسات الحياتية في المجتمع الأوروبي. ويغلف هذين
البعدين بالطبع نوع من خصوصية العلاقة بين مسلمي أوروبا وغيرهم من ذوي
الديانات الأخرى؛ فأوروبا التي يعيش فيها ما يقرب من ثلاثين مليون مسلم وفق
بعض التقديرات تجد نفسها مضطرة للاعتراف بخصوصية هؤلاء المسلمين، وهي
ظلت لعقود طويلة تحافظ على هذه الخصوصية.
بيد أن ما يثير اللغط والتضارب هو مدى قدرة أوروبا على استيعاب
وامتصاص المشاعر والتقاليد الإسلامية بها، وهي ظلت أيضاً لسنوات طويلة
تحاول جاهدة الحفاظ على آلية الامتصاص هذه؛ بيد أن الأمر قد اتخذ منحى آخر
حين ترددت الأحاديث حول المدى المسموح به لممارسة الطقوس والعادات الدينية
الإسلامية في البلدان الأوروبية، وهو ما قد يقذف في الأذهان فكرة عدم استعداد
أوروبا لامتصاص المزيد من السلوكيات والتصرفات الإسلامية في مجتمعاتها،
ولربما يدفعها في هذا المنحى وجود هواجس قوية حذرة تجاه هذه السلوكيات يدعمها
القلق من أمرين:
أولهما: التخوف من أن تتأثر بقية الشعوب الأوروبية بهذه السلوكيات، وهو
ما قد يمثل خطراً داهماً على الطبيعة المسيحية لأوروبا.
والأمر الثاني: هو ارتباط الصورة الذهنية للمسلمين في أوروبا بالعنف
والإرهاب.
ولا ننسى في هذا الصدد الإشارة إلى الدور المؤثر الذي لعبته أحداث سبتمبر
في رسم الصورة السيئة الحالية للمسلمين بشكل عام، وكلا الأمرين ربما يدفعان
أوروبا إلى مراجعة استراتيجياتها ونهجها في التعاطي مع إشكالية الأقليات المسلمة
الموجودة على أراضيها.
* الحجاب وعلمانية المدارس في أوروبا:
لعل ما أثار الجلبة والبلبلة في قضية الحجاب «الفرنسي» هو أنه جاء
متناقضاً مع ما تعود عليه المسلمون في الغرب عموماً وفي أوروبا على وجه
الخصوص؛ فالمسلمون في أوروبا يتمتعون بحقوق وحريات تفوق ما كانوا
يمارسونه في بلادهم الأصلية بمراحل عديدة، ولذا يصبح من الصعب عليه تقبل
فكرة تقليص هذه الحريات أو العبث بها تحت أي مسمى أو ادعاءات لا تخلو من
الجهل السياسي. فغالبية الدول الأوروبية لا تمتلك تشريعات حول وضع رموز
دينية في المدرسة تاركين للمدارس والسلطات المحلية حرية تدبير هذه الأمور حالة
بحالة. لكن هناك حالة خاصة هي تركيا البلد المسلم الذي يتمتع بنظام علماني؛
حيث ارتداء الحجاب محظور في المدارس والجامعات والمباني العامة، وقد بقيت
مسألة الرموز الدينية في المدارس موضع نقاش متجدد في فرنسا وألمانيا، وفي
الأولى تم البت فيها بمنع أي رموز دينية إسلامية كانت أو غيرها، وفي ألمانيا فإن
التشريع حول الرموز الدينية في المدرسة هو من اختصاص المقاطعات المحلية التي
تمتلك الصلاحيات في مجال التربية والتعليم. وفي نهاية سبتمبر الماضي اعتبرت
المحكمة الدستورية أن سلطات مقاطعة (بادن - فورتمبرغ - جنوب غرب ألمانيا)
لا يمكنها أن تمنع مدرِّسة من أصل أفغاني من ارتداء الحجاب في الصف، لكنها
أكدت على أن المناطق يمكنها إصدار قوانين تمنع ارتداء ملابس لها دلالة دينية في
المدارس الحكومية مع الحرص على التوصل إلى «تشريع يقبله الجميع» .
ولنضع خطوطاً طويلة وعديدة حول هذه العبارة الأخيرة، فلا يجوز لأي مقاطعة
فرض إجراء معين يتعلق بالحريات الدينية إلا بعد حصد الموافقة والقبول لهذا
الإجراء.
ويذكر أن مقاطعتيْ «بادن - فورتمبرغ وبافاريا» قد رفعتا الصلبان في
الصفوف (اللتان يحكمهما المحافظون وكذلك مقاطعة برلين التي يحكمها
الاجتماعيون الديموقراطيون والشيوعيون الجدد) وتستعدان لإصدار تشريعات لمنع
وضع الحجاب.
في حين لا تمتلك بلجيكا قانوناً فدرالياً يحكم وضع علامات دينية في المدارس
التي لها في المقابل حرية وضع أنظمة خاصة بها في هذا الإطار لمنع ارتداء
الحجاب إذا اقتضت الضرورة، وقد عاد الجدل إلى الواجهة في سبتمبر الماضي؛
وذلك حين أعرب المسلمون عن تحفظهم على قرار اتخذته مدرسة رسمية في منطقة
بروكسل بمنع وضع الحجاب خلال العام المدرسي الجديد.
وفي الدول الأخرى لا يثير ارتداء علامات دينية ظاهرة أي جدل بشكل عام؛
ففي بريطانيا يترك لكل مدرسة حرية اعتماد نظامها الداخلي الخاص في ما يختص
بالزي المدرسي، وبشكل عام يسمح بارتداء الحجاب والقلنسوة اليهودية والعمائم،
وفي هولندا يحظر القانون أي تمييز ديني، ويسمح بشكل عام بوضع الحجاب
والرموز الدينية الأخرى في المدارس الرسمية. وفي الدانمارك يسمح بوضع
الرموز الدينية لكنه غير منتشر كثيرا في المدارس. ولا تعتمد أسبانيا أي تشريع
وطني بهذا الخصوص، ولا تخضع العلامات الدينية في المدرسة ومنها الحجاب
لأي جدل علني. وفي حال وقوع نزاعات يعود القرار النهائي إلى المناطق التي
تتمتع باستقلال ذاتي، وفي إيطاليا يسمح قانونان أقر العام ١٩٢٤ و ١٩٢٧م بوجود
علامات خاصة بالديانة الكاثوليكية في المدارس.
وعليه فإن التفرقة بين سلوكيات المسلمين وعاداتهم بشكل عام وبين سلوكيات
وتصرفات الأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية تثير تساؤلات عديدة حول حقيقة
التعاطي الأوروبي مع الأقليات المسلمة في أوروبا بشكل عام.
* الحجاب وصراع الهوية:
في نفس الوقت فقد لفتت قضية الحجاب في أوروبا إشكالية الصراع بين
العنصرية من جهة والمحافظة على الهوية الوطنية داخل البلدان الأوروبية في الجهة
الأخرى، فالمسلمون في أوروبا رغم عددهم القليل إلا أنهم ذوو تأثير كبير في
نفوس الآخرين مما ولد مخاوف من إمكانية انتقال هذا التأثير إلى مستويات
وقطاعات عريضة من السكان المحليين. فضلاً عن هذا ترى بعض الدول
الأوروبية ومن بينها فرنسا بالطبع، أن مسألة الحجاب تثير حساسيات داخل جدران
المدارس بما قد يؤثر على العملية التعليمية، ويحدو بها بعيداً عن هدفها الأساسي.
بيد أن هذا القول مردود عليه؛ لأن هناك العديد من المدارس الفرنسية والألمانية
والأمريكية في العديد من البلدان الإسلامية تمارس فيها سلوكيات وتقاليد بلدان كل
مدرسة دون أن يكون هناك تخوف من امتداد تأثير هذه السلوكيات خارج الصرح
التعليمي.
الأكثر من ذلك أن بعضاً - خاصة في فرنسا - ينظر للحجاب باعتباره غطاء
لمفاهيم إسلامية أخرى، وينتج في نفس الوقت ثقافة عنيفة؛ فعلى سبيل المثال بات
يُنظر إليه في فرنسا باعتباره عنواناً للأقلية المسلمة التي تعيش هناك، وتحولت
المعاداة والريبة من قطعة القماش إلى النسيج الاجتماعي نفسه، ومن الحجاب إلى
الديانة الإسلامية. وأصبحت مناطق الحظر تتوسع، وأخذ إطار الحرية لهذه الأقلية
يتقلص شيئاً فشيئاً. فمن المدرسة أصبح الحديث عن المستشفيات، وطالب بعضٌ
بأن تحترم العلمانية من طرف الطبيب والمريض؛ حيث تبين أن بعضاً من الطاقم
الطبي النسائي يلبسن الحجاب؛ فقبل أن تكون طبيباً أو مريضاً عليك أن تكون
علمانياً، ثم تم غلق مسبح كان يسمح فيه لسويعات معدودة في الأسبوع للنساء
المسلمات بالترفيه عن أنفسهن بعيداً عن أعين الغرباء، حتى لا يتناقض مع مياه
العلمانية التي ترفض الفصل بين المواطنين! ثم قام رئيس بلدية إحدى الضواحي
الباريسية (marne sur Nogent) برفض الإشراف وقبول الزواج المدني
لعروس؛ لأنها رفضت نزع الخمار، بدعوى عدم احترام القيم العلمانية للدول؛
لأن مقر البلدية رمز ومكان مبجل للجمهورية، ثم تلاه رفض أحد مديري المدارس
دخول أولياء متحجبات إلى المدرسة لحضور حوار داخلي دعت إليه الدولة لمناقشة
دور المدرسة، بدعوى علمانية المكان.
وكل هذه المظاهر الجديدة في المجتمع الفرنسي ليست شواذاً، ولكنها تعبير
خطير عن عقلية جديدة بدأت تُنسج خيوطها في البيت السياسي أولاً، ثم تفشت في
النسيج الاجتماعي، وهي الخوف والتوجس من هذا الدين ومن أصحابه، واعتبار
أن جزءاً من هذا الوطن غير مرغوب فيه. وبالرغم من أن الرئيس الفرنسي قد
حذر من هذا المنعطف، إلا أن القانون الذي أصدره بحظر الحجاب، قد يؤدي إلى
نتائج خطيرة ترتبط بطبيعة العلاقة بين مختلف الطوائف بعضها ببعض، وإلى
التدرجات الاجتماعية داخل الوطن الواحد، وسيشعر جزء منه أنه مضطهد، وأنه
مواطن من الدرجة الثانية لاختلافه في المعتقد والدين. فهل هو عجز المجتمع
الفرنسي عن استيعاب هذا الدين وتفهم ثقافة حامليه والقبول بالظاهرة الإسلامية؟ أم
أن الخوف من الاحتواء الإسلامي للثقافة الأوروبية ولتاريخها يسوِّغ مثل هذه
القوانين ويبشر بالمزيد منها؟
في نفس الوقت فقد كشفت قضية الحجاب في فرنسا أن العلمانية لم تعد
تمارس حضورها كوعاء حاضن للاختلاف والتعدد أي لا تمارس علمانيتها إلا من
خلال الأطر الثقافية والاجتماعية المهمشة، أو تلك المفرغة من أية مضمون أو بنية
«عقائدية نضالية» ، والتي لا تمثل تهديداً لـ «هويتها الثقافية» وليس
لـ «علمانيتها السياسية» ، مثل الجماعات الداعية إلى «عبادة الشيطان»
أو «البوذية» أو «الزواج المثلي» أو الحرية الجنسية، وذلك على سبيل
المثال لا الحصر. ومن هنا فإن فرنسا لم تخفق في محاولتها دمج المسلمين في
المجتمع الفرنسي، وإنما تعمدت تهميشهم، وحصارهم داخل المناطق والجماعات
المهمشة، وحشرهم داخل الأطر المشابهة، غير المؤهلة بطبيعتها للتمدد والتأثير
الثقافي. هنا وهنا فقط تظل العلمانية الفرنسية محتفظة بوظيفتها كمظلة يستظل
بها التعدد والاختلاف؛ وهذا شرط أساسي من الشروط التي تستقي منه العلمانية
الفرنسية حيويتها. ولذا فإن فكرة دمج المسلمين في المجتمع الفرنسي، ربما تكون
«واقعاً» ، ولكن عندما يستسلم المسلمون لثقافة فرنسا وهويتها المسيحية، وليس
الانصياع كما يُدعَى لمبادئ العلمانية، فليس ثمة مشكلة في الأخيرة؛ فهي في
روحها وقوانينها تقبل هذا الاندماج، متى تحررت من القيود الحضارية
(أو الثقافية) ، وكذلك من أعباء الحفاظ على الجذور المسيحية للهوية الفرنسية.
من جانب آخر قد يتساءل أحد: ولماذا تثار حفيظة المسلمين نتيجة إلغاء هذه
القطعة من القماش «الحجاب» باعتبارها ليست دليلاً قائماً على إيمان العبد وقربه
من ربه خاصة في البلدان المسلمة؟ وهنا يأتي الجواب من مسلمي أوروبا؛
فالحجاب بالنسبة لهؤلاء ليس مجرد سترة تستتر بها الفتاة أو المرأة المسلمة التزاماً
بتعاليم دينها، بقدر ما هو تعبير عن الهوية الإسلامية والتخوف من انصهارها في
الهوية الغربية المسيحية كما يأمل الأوروبيون. وعليه يصبح التفريط في حق
ارتداء الحجاب بمثابة التفريط في ركن أصيل من أركان الهوية الإسلامية التي
يجاهد المسلمون في أوروبا في التمسك بها والمحافظة عليها.