للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

منبر الشباب

فاعتبروا يا أولي الأبصار

موزة بنت محمد

عندما تمر عليك آية من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من

خلفه تدعو أو تأمر بتفكر أو أخذ عبرة.. فلابد لك من التوقف والنظر ولا يجوز أن

تمر عليها بدون ذلك وتكون كمن قال فيهم-عز وجل: [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ

عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] [محمد: ٢٤] .

وقال تعالى [سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ *

هُوَ الَذِي أَخْرَجَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن

يَخْرُجُوا وظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ

فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي

الأَبْصَارِ] [الحشر: ١٢] .

هذا أمر ودعوة من الله -عز وجل- إلى عباده [أولي الأبصار] ، الذين

يبصرون ويفقهون، وليس إلى الذين قال عنهم: [لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ

أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ولَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ

هُمُ الغَافِلُونَ] [الأعراف: ١٧٩] .

دعوة لهم للنظر بعين البصيرة والاعتبار لهذا الحادث والذي نورده هنا وهو

قصة إجلاء بني النضير عن المدينة المنورة وذلك كما ورد في السيرة.

كان سبب ذلك الجلاء أنه لما قتل أصحاب بئر معونة من أصحاب رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا سبعين رجلاً، وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري، فلما كان في أثناء الطريق راجعاً إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر انتقاماً لأصحابه، وكان مع القتيلين عهد وأمان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يعلم به عمرو فلما رجع وأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -

قال: " لقد قتلت رجلين لأودينهما " وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر، فلما أتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعينهم

قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - وكان رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - قاعداً إلى جنب جدار من بيوتهم - فمن رجل يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك أحدهم فصعد البيت ليلقي عليه الصخرة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي -رضي الله عنهم- فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعاً إلى المدينة ثم تبعه أصحابه حتى انتهوا إليه، فأخبرهم بما كانت يهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتهيؤ لحربهم، فسار حتى نزل بهم فتحصنوا منه بالحصون واستمر حصاره لهم عدة أيام اختلفت في عددها. وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول لله - صلى الله عليه وسلم - أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة وهي السلاح، ففعل، وتم إجلاؤهم على ذلك.

يتصور الكثير منا أن اليهود في المدينة المنورة ما كانوا سوى قوم مستضعفين

لاحول لهم ولا قوة، اللهم إلا في الدسائس وإشعال نار الفتنة من خلف الستار.،

وبهذا التصور لا يكون إخراجهم أمراً يستدعي الاعتبار والتبصر ولكن الحقيقة

ليست كذلك وهذا ما يدل عليه سياق الآية الكريمة.

يقول الدكتور صابر طعيمة: " من الأشياء التي تثير الدهشة أنه في بدء دعوة

الإسلام كانت أرض العرب في منطقة الحجاز مقسمة قسمة عجيبة بين نفوذ العرب

ونفوذ اليهود وسيطرتهم، ففي بدء بعثة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -

كانت قوة اليهود الاقتصادية والسياسية كبيرة ومزعجة في شمال الحجاز، ولقد

بلغت القوة اليهودية في السيطرة على شمال الحجاز ما تعادل به نفوذ قريش وقوتها

في جنوبه. ويمكن القول إن سيطرة قريش كانت تشمل جنوبي الحجاز من منطقة

يثرب (المدينة) حتى الطائف وكذلك كان نفوذ اليهود يمتد من شمال الحجاز إلى حد

يمكن معه القول إن هذا النفوذ كان يمتد من المدينة حتى تيماء في أقص حدود

الحجاز الشمالية ملتقياً بحدود سوريا لمسافة تقدر الان بحوالى ٤٥٠ كيلو متراً ".

وما يهمنا هنا هو منطقة يثرب (المدينة المنورة) فلقد كانت تسكنها قبائل يهود

(بني قينقاع) و (بني النضير) و (بني قريظة) ويبين الدكتور محمد السيد الوكيل

مواقعهم فيقول: " واننا لنلاحظ أن هؤلاء قد انتشروا في يثرب ولم يقيمواً جميعا في

منطقة واحدة فيها " فقد استوطن (بنو النضير) أسفل المدينة و (بنو قريظة) نزلوا

بأعلى المدينة أما (بنو قينقاع) فقد نزلوا في وسط يثرب بين العالية والسافلة،

وهكذا أحاط اليهود بقبائلهم الثلاث بيثرب من أعلاها وأسفلها وفيما حولها من الشرق

والغرب، وكأنهم أرادوا بهذا الانتشار في المدينة أموراً قد خططوا لها من قديم

الزمان نجملها فيما يلي:

١- الناحية السياسية:

لقد أفادهم تفرقهم هذا من الناحية السياسية فائدة كبيرة، حيث كانوا لا

يظهرون بمظهر المتكتلين أمام السكان الأصليين، وعندئذ لا تثور ثائرتهم ولا

يتحرشون بهم فيعيشون آمنين على مستقبلهم غير متعرضين للفتن والقلاقل، كما أن

تفرقهم هذا مكنهم من محالفة قبائل متعددة، ومكنهم من حرية الحركة والعمل مما

كان له أكبر الأثر في الناحيتين الاقتصادية والعسكرية.

كما أن انتشارهم هذا ومحالفتهم لقبائل متعددة أوجد لهم نفوذاً هائلاً تسلطوا

بواسطتة على مقاليد الأمور في يثرب. ولقد اعتمد اليهود في سياستهم على مبدأ

إثارة الأحقاد - فرق تسد - حتى يشتغل عدوهم بنفسه ولا يفكر فيهم وهذا ما حصل

حتى سيطروا وتملكوا.

٢ - الناحية الاقتصادية:

نزل اليهود أخصب مناطق المدينة زراعياً وأجودها تجارياً فحفروا الآبار

وغرسوا البساتين وكانوا صناعاً، وأحدثوا سوقاً لهم في يثرب، وبذلك استطاع

اليهود أن يسيطروا على الناحية الزراعية والتجارية والصناعية وكانت لهم اليد

العليا في اقتصاد يثرب زيادة على ما أرهقوا به العرب من الربا والاحتكار.

٣ - الناحية العسكرية:

كان هذا التوزيع لمراكز القوة اليهودية يكفل لليهود وقتها القدرة على الانتشار

وأن يمدوا أيديهم على مساحة كبيرة من الأرض يعملون على استغلالها واستثمارها، ولذا كان عليهم أن يقوموا بتحصين أماكن تجمعهم وإمدادها بالقوة العسكرية

وتخزين كميات من السلاح وإعداد مجموعات منهم للقتال بنية الحفاظ على ما

اكتسبوه حتى يمكن لهم دوام السيطرة والبقاء، زد على هذا إحساسهم بأنهم أغراب

وغير مرغوب فيهم، من هنا فقد اشتهر اليهود بصناعة الأسلحة من سيوف، ونبال، ودروع، وسهام، ونصال، فكانوا يصنعونها ويتخذون منها لأنفسهم ويبيعونها

لغيرهم.

وإلى جانب هذه الأسلحة تفننوا في بناء الحصون والآطام يلجأون إليها إذا

دهمهم عدو أو فاجأهم خصم، وهذه الحصون تعتبر في زمانهم كالتحصينات

العسكرية في زماننا، وكانوا يخزنون فيها الماء والقوت والوقود وجميع ما يحتاجون

إليه بكميات تكفي لفترة طويلة من الزمان حتى إذا حوصروا أو اضطروا إلى المكث

فيها مدة طويلة كان عندهم ما يغنيهم فلا يحتاجون إلى شيء من خارج هذه الحصون

ومما يؤيد ذلك حصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبني النضير خمس

عشرة ليلة، ولبني قريظة خمساً وعشرين ليلة. وكانوا يشيدون هذه الحصون من

الحجارة الصلبة المنحوتة بأشكال هندسية ويجعلون سمك الجدار فيها متراً أو اكثر

وكانت تقام من طابقين أو ثلاثة.

ويدل على هذا قوله سبحانه [من صياصيهم] أي حصونهم، كما يدل على

قوتهم وتدربهم على القتال ما جاء في ردهم على رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - حين قال لهم بعد أن نصره الله في بدر: " يا معشر اليهود احذروا من الله - عز وجل- مثل ما نزل بقريش من النقمة ... وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وفي عهد الله إليكم " فأجابوه: " يا محمد إنك ترى أننا كقومك؟ ! لا يغرنك أنك لقيت قوماً لاعلم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة. إنا والله لئن حاربتنا لتعلمن أننا نحن الناس "!

وسياق الآية الكريمة يؤكد اعتدادهم بقوتهم وحصونهم وتقدير المسلمين

والعرب لهذه القوة وذلك بقوله تعالى [مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ

حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ] فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم، ولاهم كانوا يسلمون في

تصور وقوعه فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن

تخرجوهم منها كما أخرجوا، وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا

تردها الحصون [فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ]

فسبحان الله! ما أشبه اليوم بالأمس [فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ] .

المراجع:

- سيرة ابن هشام.

- تفسير ابن كثير.

- (بنو إسرائيل بين نبأ القرآن وخبر العهد القديم) الدكتور: صابر طعيمة.

- يثرب قبل الإسلام، الدكتور محمد السيد الوكيل.

- في ظلال القرآن، سيد قطب.