للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

(التراث الإسلامي بين الأصالة والتزييف)

[تراث مصطلح التراث]

تساؤلات مشروعة!

جمال سلطان

حتى وقت قريب من تاريخ الفكر الإسلامي الحديث، لم يكن مصطلح التراث

قد ظهر في حوارات المتحاورين أو كتابات الكاتبين، حتى بدأت كتابات الاستشراق

ومناهجها تتغلغل في أوساط النخب العربية والإسلامية الجديدة، وبدأ الحديث عن

مشخصات وجود الأمة وإنسانها، ومكونات الشخصية المسلمة وما يمتزج بها من

علوم ومعارف وآداب وفنون ونحو ذلك، بوصفه (تراثاً) ، وإطاراً معنوياً منفصلاً،

يتيح للمعاصرين أن يقفوا منه موقف الانتقاء، أو يضعوه على مشرحة النقد أو في

ميزان المفاضلة بينه وبين (الوافدات) الفكرية الجديدة من الخارج؛ بحيث ينظر

المسلمون إلى كلا الجهتين على قدم المساواة باعتبارها معاني منفصلة متمايزة عن

الشخصية وهويتها، ويبحثون فيما يمكن أن يأخذوه من هذا (التراث) أو يتركوه،

ثم انتشر استخدام هذا المصطلح الفكري والمنهجي بعد ذلك بسهولة ويسر عبر

الكتابات المختلفة؛ بحيث أصبح أحد أبرز المحاور التي تشكل اتجاه التفكير والنظر

في الأبحاث الفكرية المتصلة بالإسلام وتاريخه وحضارته.

والحقيقة أن ميلاد مصطلح (التراث) في تاريخ فكرنا الحديث بحاجة ماسة إلى

جهد علمي بحثي دؤوب، يجمع لنا الخطوات الأولى التي بدأها، والتحولات الدقيقة

التي مر بها استخدامه حتى صار إلى ما صار إليه؛ فإذا تأملنا هذا المصطلح الجديد

ومحاولات توظيفه منهجياً لإعادة تشكيل العقل الإسلامي وفق تصور اغترابي كامل، لرأيناه يقسم الشخصية الإسلامية ويشطرها إلى أجزاء عدة مبعثرة ومتمايزة

ومنفصلة بعضها عن بعض، كما يجعل الإنسان المسلم ينظر إلى سلفه الصالح

وعطاءاته، ليس على أنها أساس بنائه العقلي والديني والحضاري والقيمي؛ بل

على أنها تمثل بعض كتب تركها القوم الغابرون، ويتوجب علينا أن نتعامل معها

بحذر وتوجس، وتحليل صارم لمكوناتها وأفكارها وشخصيات من وضعوها، ومن

الضروري وفق التصور الاغترابي أن يكون هذا التحليل وفق المناهج النقدية

الحديثة، أي المناهج الغربية التي أصبح لها الهيمنة والمرجعية في تقييم وتقويم

مجمل تراث العالم الإنساني على مر العصور.

على أن مصطلح (التراث) عندما دخل إلى حياتنا الفكرية، قد حرص من

روجوه وصنعوه على أن يضفوا عليه هالة من السحر والغموض في آن واحد،

فالمصطلح له سحر الجدة والطرافة، ولكنه في النهاية والقيمة العلمية والعملية

مصطلح يفتقر إلى الضبط العلمي، والتحديد المنهجي. وذلك أن هذا (القديم) الذي

ورثناه عن سلفنا، منه ما هو فكر، ومنه ما هو دين، ومنه ما هو فن، ومنه ما

هو قيم وأعراف، ومنه ما هو علوم متعلقة بالشريعة وأحكامها والكتاب والسنة

ودلائلهما، كما أن منه ما هو علم مدني عام مثل: الأبحاث والقواعد المتعلقة بعلم

الفلك والحساب والهندسة، وعلوم البحار والجغرافيا، ونحو ذلك من العلوم

والمعارف الدنيوية العامة؛ فأي ذلك ينطبق عليه وصف (التراث) ؟ ثم هل يمكن أو

يليق أن يتحدث باحث جاد ومحترم عن (التراث) وهو يضع في هذا القالب

الفضفاض كل هذه الأبعاد والعلوم والمعاني المتباينة منهجياً وعملياً، ويتحدث عنها

بخطاب عام واحد؟ بمعنى آخر: هل يمكن أن يتحدث عاقل راشد عن (الجامع

الصحيح للإمام البخاري) وكتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني بوصفهما تراثاً،

وبحيث يمكنني التعامل معهما بالمنهج نفسه والمنطق نفسه والآليات نفسها؟ أم أن

هناك فروقاً جوهرية تحتم عليّ التفرقة بين الاثنين، والتعامل مع كل منهما بمنهج

مختلف وروح مختلفة ودافع مختلف عن الآخر تماماً؟ وهل يمكننا إذ ذاك أن نفهم

مدى جدية عنوان من العناوين الشائعة التي يستعملها العلمانيون العرب بوفرة وكثرة

في لغة الفكر المعاصر، من مثل: (الموقف من التراث) أو (التراث والمعاصرة) ؟

أم أننا سنرى بوضوح أن مثل هذه العناوين إنما تعبر عن غباء منهجي وسطحية

ورعونة، ولا تعبر أبداً عن منهج راشد أو منطق سليم؟ كذلك كيف يمكنني أن

أتعامل منهجياً مع (القرآن والسنة) بوصفهما تراثاً؟ ! !

وليلاحظ القارئ أن العلمانيين العرب يحرصون كل الحرص على القفز على

هذه الجزئية تحديداً؛ فهم يتحدثون عن (التراث) الإسلامي هكذا، ولا يفصلون جهد

البشر عن الوحي، في تعمد صريح لتعميق اللبس، وذلك أن المنهج النقدي الذي

تتعامل به مع ما تؤمن أنه (كلام الله) سيختلف حتماً مع المنهج النقدي الذي تتعامل

به مع (كلام البشر) . فإذا سلمنا بهذه البديهة فإننا لا بد من أن ننظر إلى ما هو أبعد

من ذلك. فاللغة التي نزل بها القرآن، والتي لا نفهم القرآن والسنة إلا بها هل

سنعتبرها (تراثاً) بحيث يجوز لنا أن نأخذ منها وندع؟ أم أن المنهج هنا سيختلف؟

لأنك إذا بدلت أو غيرت في (لغة الوحي) فقد غيرت بالضرورة في (الوحي ذاته) ،

ودع عنك التفاصيل في الحديث عن (جهود حفظ الوحي) وجهود نقله، وجهود حفظ

السنة وجهود نقلها، ونحو ذلك، ثم إذا تعدينا (النصوص) إلى المضامين، فلنا أن

نتساءل: كيف يمكنني تصور أن (عقيدتي) التي أدين بها وأعبد الله وفقها (تراث) ؟

وما الموقف (النقدي) الذي سوف أقفه منها إذا أردت (إخضاعها) منهجياً إلى البحث

العلمي؟ وكذلك بالنسبة لمنظومة القيم التي يلتزمها المسلمون خلفاً عن سلف، وهي

في جوهرها (دين) يدينون لله تعالى بها؟ كيف يمكن النظر إليها على أنها (تراث) ؟ كيف يكون تحريم الحرام وتحليل الحلال (تراثاً) ؟ وكيف تكون الآداب العامة

والسنن والهدي الظاهر (تراثاً) ؟ ثم ما هو تصنيف (العبادات) : هل نصنفها

(منهجياً) بأنها أيضاً (تراث) ؟ وما المنهج الذي سنتعامل به مع هذا (التراث) ؟

وهل عندما نقول: (التراث والمعاصرة) في مقارناتنا وكتاباتنا نكون قد قصدنا

(العبادات) أيضاً في هذا التعبير؟ !

حاصل القول أننا في حاجة إلى إعادة النظر في استخداماتنا (السخية)

و (الطيبة) لهذا المصطلح الجديد والطريف، وينبغي أن نلزم كل من يستخدمه بأن

يحدد مقصوده منه على وجه الدقة والتحديد، وينبغي ألا نسمح لأحد بأن يتجاوز هذه

الخطوة المبدئية في الحديث عن (التراث) إلى غيرها من الخطوات والبناءات

الفكرية والمنهجية قبل أن يجلي لنا مقصوده الدقيق من هذا المصطلح، وإنني لعلى

يقين من أننا إذا فعلنا ذلك بصرامة وتصميم، فإن الكثير من الزيف والبريق الذي

يحيط بهذا المصطلح سوف يسقط، كما أن الكثير من ألوان (الزندقة) و (النفاق

الفكري) المتستر خلف مثل هذه العبارات الفكرية الفضفاضة سوف تتساقط،

ويتساقط أصحابها، أو أن يجدوا أنفسهم مندفعين إلى إعلان مواقفهم الاعتقادية

صريحة وعارية بغير لبس، وبغير لباس يستر عوارها وخروجها على الأمة ودينها.