الإسلام لعصرنا
[فصل الدين عن الدولة]
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
أصبحت قضية فصل الدين عن الدولة، أو ما يسميه الغربيون فصل الدولة
عن الكنيسة، من القضايا المسلَّم بها في الفكر الغربي السياسي، ومن ثم في الفكر
السياسي العالمي الدائر في فلك الحضارة الغربية. ودعاة فصل الدين عن الدولة قد
يعترفون بأن هذا أمر حدث لظروف تاريخية خاصة بالحضارة الغربية، وبالديانة
النصرانية؛ لكنهم مع ذلك يرون أنه أصبح أمراً لازماً لكل دولة حديثة، ويسوِّغون
هذا بأن الأساس في الدولة الحديثة هو المواطنة، وما دام المواطنون في الدولة
الواحدة لا ينتمون في الغالب إلى دين واحد، بل تتقاسمهم أديان متعددة، وقد يكون
بعضهم ملحداً لا يؤمن بدين؛ ففي التزام الدولة بدين واحد من هذه الأديان افتئات
على حقوق المواطنين المنتمين إلى الأديان الأخرى أو المنكرين لها كلها لأنه:
- يفرض عليهم ديناً لا يؤمنون به.
- ويحرمهم من ممارسة الدين الذي اختاروه إما كله أو بعضه.
- ويحرمهم من حقهم في شغل بعض الوظائف الكبيرة كرئاسة الدولة، وقد
يكون سبباً لخلافات ونزاعات عميقة تفقد الدولة معها الاستقرار اللازم لتطورها.
ويرون لذلك أن تكون الدولة دولة علمانية محايدة لا تلتزم بالدين ولا تحاربه
ولا تنكره، بل تترك أمره للمواطنين يختارون ما شاؤوا من عقائد، ويلتزمون بما
يريدون من قِيَم، ويمارسون ما يروق لهم من عبادات.
هذه الصورة للعلمانية التي حرصت على أن أجعلها براقة كأشد ما يريد
المدافعون عنها أن تكون، تنطوي على افتراضات هي أبعد ما تكون عن الحقيقة.
ومن ذلك:
أولاً: أنها تفترض أن العلمانية يمكن أن تكون محايدة بالنسبة لكل الأديان؛
لكنها لا تكون كذلك إلا إذا كان مجال الدين مختلفاً عن مجال الدولة، أي إذا كان
الدين والدولة يعيشان في منطقتين مستقلتين لا تماسَّ بينهما، وأن دعاة الدولة
الدينية يقحمون الدين في مجال غير مجاله، ولذلك يضرون به وبالدولة.
فهل هذا الافتراض صحيح؟ إنه لا يكون صحيحاً إلا إذا كان الدين
محصوراً بطبعه في بعض المعتقدات وبعض الشعائر التعبدية، وبعض أنواع
السلوك الشخصي الذي لا علاقة له بالجماعة، ولا يدخل لذلك في مجال الدولة، لكن
الواقع أن هذا الوصف لا ينطبق على أي من الأديان الكبيرة المشهورة:
اليهودية والنصرانية والإسلام؛ فما منها إلا وله حكم في العلاقات بين الجنسين،
وفي العلاقات الأسرية، والاجتماعية، وفيما يحل أكله وشربه، وما يحرم،
وهكذا. وكلها أمور تدخل بالضرورة في مجال الدولة.
كيف حل الغربيون هذا الإشكال؟ حلوه بنوع من المساومة: فهم قد أخذوا
بعض القيم النصرانية وجعلوها قوانين للدولة، وهم يجعلون اعتباراً كبيراً لقيمهم
الدينية في سياستهم الخارجية، ولا سيما في معاملة الإسلام. لكنهم في الجانب
الآخر تركوا أشياء من دينهم، وساعدهم على ذلك تاريخهم المليء بتحريف الدين
إما في نصوصه أو في تأويله، ثم جاءت في العصور الأخيرة حركات فكرية
تحررية أذاعت القول بأن ما يسمى بالكتاب المقدس ليس كلام الله تعالى، وأنه من
كتابة بشر عاديين تأثروا بالجو الثقافي في المرحلة التاريخية التي عاشوا فيها،
ولذلك فإن ما قرره هذا الكتاب في مسائل مثل الشذوذ الجنسي ينبغي ألا ينظر إليها
إلا على أنها قيم مجتمعات سابقة. هذا كلام لا يقوله السياسيون والحكام فحسب،
وإنما يقوله كثير من رجال الدين، والمختصين بدراسته، لكن حتى هؤلاء
المتحررون يشعر الكثيرون منهم الآن أن العلمانية لم تعد محايدة بين الأديان، بل
صارت هي نفسها ديناً يدافع عنه أصحابه ويحاربون به النصرانية، وأذكر أن
أحدهم قال لي في أحد المؤتمرات ناصحاً: لا تُخدَعوا كما خُدِعنا، فتظنوا أن
العلمانية موقف محايد؛ بل هي الآن دين، أو كما قال ذاك الناصح.
فكيف تُحَل هذه المشكلة بالنسبة لأناس كالمسلمين يرون أن القرآن كلام الله
تعالى لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن ما صح من سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم هو أيضاً وحي الله؟
وكيف إذا كان دينهم لا يقتصر على ما ذكرنا من أمور تدخل في نطاق الدولة،
بل يتعداها إلى أخرى هي من أخص خصائص الدولة؟
ماذا يفعل هؤلاء؟ لا خيار لهم بين الحكم بما أنزل الله ورفض العلمانية، أو
الحكم بالعلمانية والكفر بما أنزل الله تعالى.
إن أكثر ما يتعلل به دعاة العلمانية في بلادنا هو اختلاف الأديان في البلد
الواحد. يقولون: بأي حق تفرض على أناس ديناً غير دينهم، وقِيَماً ليست قيماً
لهم؟ ماذا إذا لم يكن في البلد إلا مسلمون، أو كان غير المسلمين أفراداً قلائل؟
لماذا يفصل هؤلاء بين دينهم ودولتهم؟
وحتى لو كان المنتسبون إلى غير الإسلام من أصحاب الديانات الأخرى
يمثلون نسباً كثيرة، فإن العلمانية ليست هي الحل العادل؛ لأن أصحاب هذه
الديانات إما أن يكونوا في السياسة علمانيين، وإما أن يكونوا ممن يريد للدولة أن
تستمسك بعقائده وقيمه وتدافع عنها. فإذا كان من الفريق الأول يكون المسلمون قد
تنازلوا عن دينهم بينما هو لم يتنازل عن شيء؛ لأن العلمانية هي مبدؤه سواء كان
هنالك مسلمون أو لم يكن. أذكر أنني قلت ذات مرة لبعض الجنوبيين المثقفين عندنا
في السودان: إنكم لا تعترضون على الحكم إذا كان اشتراكياً كما كان الحال في
أوائل حكم الرئيس نميري، ولا تعترضون عليه إذا أقر الرأسمالية أو الليبرالية؛
لأنكم تعتقدون أن الدين لا دخل له بهذه المسائل، فلماذا إذن تعترضون على الحكم
الإسلامي؟ إن الإسلام لا يفرض عليكم ديناً بالمعنى الذي حصرتم الدين فيه، أعني
العبادات والأحوال الشخصية، فلماذا لا تعاملون جانبه السياسي معاملتكم للاشتراكية
والرأسمالية؛ لأنه يعطيكم أكثر مما تعطيكم إياه العلمانية؟
يقول أنصار العلمانية في الغرب وفي البلاد الإسلامية: إن هذا قد يكون
صحيحاً؛ لكنكم في الحكم الإسلامي تفرقون بين الناس بسبب دينهم، فتمنعون غير
المسلم من أن يكون رأس دولة، وأقول لهم دائماً: ولكن العلمانية هي الأخرى تفعل
ما نفعل. إنها تشترط على الإنسان أن يكون علمانياً لكي يكون رأس دولة، تشترط
عليه أن يؤدي القسم للولاء لدستور يفصل الدين عن الدولة، أي أنها تشترط على
المسلم أن يعلن كفره بجزء من دينه. وإذا فعل هذا عن اعتقاد كان كافراً خارجاً عن
الإسلام، وإذن فكما أن الإسلام يشترط في رأس الدولة المسلمة أن يكون دائناً بدين
الإسلام؛ فإن العلمانية تشترط في رئيس دولتها أن يكون دائناً بدينها، فما الفرق؟
يقولون: لكن العلمانية ليست ديناً. ونقول هذا في مفهومكم أنتم. أما في لغتنا
العربية، وديننا الإسلامي، فإن كل ما يلتزم به الإنسان من عادات وتقاليد، ومن
باب أوْلى من قيم وعقائد، هو دينه، سواء كان مبنياً على إيمان بالله أو كفر به.
ألم تسمع قول الشاعر العربي عن ناقته:
إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين
تقول إذا شددت لها وضيني ... أهذا دينه أبداً وديني؟
أكل الدهر حل وارتحال؟ ... أما ... أما يقيني؟
فإذا كان دوام الحل والارتحال ديناً فما بالك باعتياد معتقدات وقيم وسلوك؟ ألم
يقل الله تعالى عن سيدنا يوسف: [مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ
اللَّهُ] (يوسف: ٧٦) . يعني ما نسميه نحن الآن بقانونه؟ العلمانية ليست إذن
حلاً لبلد يكون فيه المسلمون أغلبية، بل ولا حتى أقلية معتبرة؛ إذ إن ما تطلبه
العلمانية من المسلمين إنما هو التخلي عن دينهم من أجل دين العلمانيين.