للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

قراءات في الشعر الإسلامي العالمي

مع الشاعر الطاجيكي عُبيد رجب

محمد شلال الحناحنة

الشعر هذا الطائر الذي يناجي أشواق أرواحنا، ينقش تغاريده على صفحات

مرهفة من وجداننا، فكيف نتفيأ ظلال جنانه؟ ! وكيف نرتشفُ رحيق جماله،

ونخوض غمار صدقه ورهافة بيانه؟ ! كيف نتذوّق نفحات السّحَر عبر تضاريسه؟

كيف نسْمو لشموخه لنحظى بأسرار كنوزه؟ ! وكيف نحسّ الكون إبداعاً شفيفاً

جميلاً لربّ رحيم خبير لطيف؟ !

تلك الأسئلة المفتوحة المجنّحَة قفزتْ إلى ذاكرتي وأنا أجوبُ إحدى قصائد

الشاعر الإسلامي الطاجيكي عبيد رجب، وهو شاعر معاصر، عُرِفَ بإيمانه

الصادق، وحبّه لعقيدته، وتمسّكه بحبل الله المتين، ودماثة أخلاقه ودفاعه عن

شعبه ووطنه ولغته أمام ما تتعرّض له من طمس وحقد روسيّ لإلغائها، وجعل اللغة

الروسية هي اللغة الرسمية، إمعاناً في تذويب الهويّة الإسلامية الطاجيكية، يقول

الشاعر في هذه القصيدة التي بعنوان: (تبقى الإنسانية ما بقي العالم) مادحاً ألفاظ

لغته:

(يا له من لفظ

يا للطفه ورقّته

يتجلى في الروح الحضور

وعلى وقع أنغامه

يرقصُ اللّسان

ويستنير البصر) [١]

هذا اللفظ الرقيق النيّر يغدو نغماً روحيّاً حاضراً، يغدو نداءً مشرقاً عذباً،

يتجلّى بكلّ صفائه وجماله، ويغدو نسمةً لطيفة تملؤنا بالحبّ والإعجاب بهذا الشاعر

القابض على دينه ولغته:

(لفظٌ بلون الزهور الحمراء

على حوافّ الجبال

هو أعذبُ وألذّ

من قضم السكّر

هو أقومُ وأعزّ

من نَصائح الأمّهات) [*]

ونلاحظ قدرة شاعرنا على المزج بين الصور الحسيّة والمعنوية، وانظر هذا

التقابل بين الجمال الحسيّ والمعنوي في تصوير القيم والمثل العليا التي يجسّدها لفظ

لغته فهو: (أعذبُ وألذُ من قضم السكّر) ويقابل هذه الصورة الحسية الشفيفة صورة

معنوية: (هو أقوم وأعزّ من نصائح الأمّهات) ويشخّص هذه اللغة التي أحبّها،

فيوحّد بينها وبين مظاهر الطبيعة البكْر؛ فاللفظ في لغته له وقع خاص في النفس:

(له جمال البنَفسج وشذى الدلال

يستمدّ صفاءه من النبع

وتدفّقه من ماء الغدير)

تلك لوحة تصويرية رائعة، يرسمها الشاعر عبر لغة مُتدفّقة، وعبارة مشرقة

تحفل بالمشاهد الشعرية الموحية، ونرى عبر هذه المشاهد إلحاح الشاعر وتكراره

لكلمة (لفظ) بشكل مباشر، أو باستخدامه للضمائر العائدة إليها، ليسند كلّ الجمال

والبلاغة والقوّة والأصالة لهذه اللغة؛ فهي في الطليعة دائماً؛ فنلحظ تكرار الضمير

(هو) مرّات عدّة في القصيدة سواءً كان مُنْفصلاً أو متّصلاً، ممّا يثري هذه الطاقة

العظيمة في إبراز هذا اللفظ الذي له جمال البنفسج وشذى الدلال. إنّ هذا الارتباط

الحميم باللغة، والاعتزاز بعراقتها، ومعانيها السامية يتجلى لدى شاعرنا في جميع

مقاطع القصيدة، ولا بدّ أن نفرح بالمشاركة بهذا الوجدان الإسلامي الزاخر بالمحبة

والصدق، إنّه وجدان العقيدة الصافية، والإيمان المرهف، والتحدّي لكل أشكال

الظلم والقهر الذي مارسته الشيوعيّة الهالكة ضدّ المسلمين في الجمهوريات الإسلاميّة:

(اللفظ الذي يحمل عقيدتي ووجودي

لفظ يجعلني أسجد في مواضع السجود

كتراب وطني

كدهشة الطفولة

هو عندي كذرات نور البصر

هو عندي كبوارق قبسات السّحَر)

تنطلق شرارة هذه الرؤية من نبض الإسلام، وتَركَنُ إلى شيء من الكشف

الهادئ العميق؛ حيث تتلاحق الصيغ الشعرية عبر تشبيهات تبني نسيجها من خلال

معجم الطبيعة الكوني المفعم بالحركة، لذا فالشاعر يُمْعِنُ في استقصاء جماليات لفظ

لغته:

(ما أعجبه، هُو كتغريد البلابل

وما أروعه كأنّه الشلال

بفورانه وموجه

بشهده الصافي العذب

يذوب القلب

تغمره السعادة

ويملؤه الحبّ)

هكذا يشجينا الشاعر الإسلامي الطاجيكي عبر هذه اللمسات الشفيفة والتجاوب

الإيقاعي بين مفرداته بالمزيد من التفاعل والحوار الحيّ معه [٢] . إنّه دفء لغته

الغالية التي أضحت (كذرّات نور البصر، وقبسات السّحر) وهي التي تحفزه

للسجود في مواضع السجود، فتبعث في نفسه الحبّ الصافي والسعادة الغامرة. وقد

لجأ الشاعر إلى أسلوب طلبي يُراوح بين الاستفهام والنداء والتعجب، معبراً عن

عميق جرحه لما تعانيه لغته من محاولات وأدها وتهميشها لا سيما حين قيلت هذه

القصيدة عام ١٩٦٧م، ورغم ذلك الأسى لم تزل حيّة بكل عنفوانها كتغريد البلابل،

وهو يرفض مَوْتها واندثارها مهما تكالبتْ قوى الطغيان والشرّ:

(أأحيا، ويذهب من عِينيّ كالدخان؟ !

أيتبدّدُ ويفنى؟ !

لا، لا أصدّقُ! !)

وليس عجباً أن تبقى هذه اللغة الجميلة حيّة ناهضة؛ لأنها، لغة المحبة

والعقيدة الراسخة، والهوية الواضحة، والموروث الثقافي العريق منذ عشرات

السنين:

(فهذه المحبّة في قلب

من منح الحبّ

تبقى على الدوام

شابّة فتية

ما بقي العالم

وما بقيت الإنسانية)

تُرى أين هذا الصدق العفوي الآسر عند شاعرنا الإسلامي عبيد رجب تجاه

لغته ممّا ينفثُه العلمانيون الحاقدون ضد لغتنا العربية الفصحى، وتراثنا الخالد؟ !

لذا لا عجب أن نعانق مع شاعرنا شموخ الرؤى والإيقاع من خلال أناشيد لغته

المجيدة:

(أنا أحمل اسمها

يعلو رأسي لأوج السّما

بالشوق أطيرُ

تبدّى لعيني رجالُ العُلا

لأني نظمتُ بها منطقا

ونظمي القويّ بها قدْ جَلا)


(١) كتب عن اللغة الطاجيكية، الأستاذ الدكتور محمد السعيد جمال الدين، أستاذ اللغة الفارسية بجامعة عين شمس، ونشر ذلك في مجلة الأدب الإسلامي في العدد السابع ممّا أفادنا في هذه القراءة.
(*) إن لم يكن هناك خطأ في الترجمة؛ فإننا نخالف الشاعر في هذه النظرة؛ لأن نصائح الأمهات هي من أعظم ما ينطلق من رحمة المخلوق للمخلوق البيان (٢) لعلّ لنا وقفات مع آداب الشعوب الإسلامية في أعداد قادمة إن شاء الله.