[الخصائص الأخلاقية والسلوكية لأهل السنة والجماعة]
اختيار: محمد المصري
تمهيد:
هذه مختارات مما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية، توضح بعض خصائص أهل السنة والجماعة، والمميزات الاعتقادية، والأخلاقية، والسلوكية لهم، اختيرت بعناية، وعلّق عليها بتعليقات ربطت بين فقراتها، وألقت بعض الضوء على مناسباتها ومواطن الاستشهاد بها.
وسنعرض للمواصفات العامة لأهل السنة والجماعة في حلقة قادمة إن شاء الله.
التحرير
أهل السنة والجماعة هم حملة ميراث النبوة في جانبيها العلمي والعملي، ولا
شك أن أبرز الجوانب العملية في الهدي النبوي هو الجانب الأخلاقي، ولذلك فإن
أخلاق النبوة - من الرحمة ومحبة الخير للناس واحتمال أذاهم، والصبر على
دعوتهم إلى آخر ذلك.. - هي المنبع الذي يستقي منه أهل السنة خصائصهم
السلوكية والأخلاقية، والتي لا تقل أهمية - في منظور الحق - عن ميراث العلم
والهدي الذي اختص به الله هذه الفرقة الناجية بفضله ورحمته.
الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعثه الله تعالى هدىً ورحمةً للعالمين،
فإنه كما أرسله بالعلم والهدى والبراهين العقلية والسمعية.، فإنه أرسله بالإحسان
إلى الناس، والرحمة لهم بلا عوض، وبالصبر على أذاهم واحتماله فبعثه بالعلم
والكرم والحلم: عليم هاد، كريم محسن، حليم صفوح.
فهو يعلم ويهدي ويصلح القلوب، ويدلّها على صلاحها في الدنيا والآخرة بلا
عوض، وهذا نعت الرسل كلهم وهذه سبيل من اتبعه، وكذلك نعت أمته بقوله:
[كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ، قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس: تأتون
بهم في السلاسل حتى تدخلوهم الجنة، فيجاهدون - يبذلون أنفسهم وأموالهم -
لمنفعة الخلق وصلاحهم، وهم يكرهون ذلك لجهلهم، كما قال أحمد في خطبته:
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون
من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى،
ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائهٍ قد
هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم! .. إلى آخر كلامه.
وهو -سبحانه وتعالى- يحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها، وهو يحب
البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات، وقد
قيل أيضاً: وقد يحب الشجاعة ولو على قتل الحيات، ويحب السماحة ولو بكف
من التمرات) ج ١٦ ص ٣١٣-٣١٧.
وأهل السنة والجماعة في أخلاقهم وسلوكهم يأتمون بالكتاب والسنة، سواء في
علاقتهم مع بعضهم، أو مع غيرهم.
(يأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمرِّ القضاء
ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه
وسلم: " أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا "، ويندبون إلى أن تصل من قطعك،
وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام،
وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك،
وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق،
ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفاسفها، وكل ما يقولونه من هذا أو غيره، فإنّما هم فيه متَّبعون للكتاب والسنة) ج ٣، ص ١٥٨.
وأهل السنة لذلك هم أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا هو
الأصل الأول والقاعدة العظيمة التي جعلتهم خير أمة أخرجت للناس، ولكنهم
يقومون بذلك على ما توجبه الشريعة، فيلتزمون في الوقت نفسه أملاً آخر وقاعدة
أخرى عظيمة، هي الحفاظ على الجماعة، وتأليف القلوب واجتماع الكلمة، ونبذ
التفرق والاختلاف.
(يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، على ما توجبه الشريعة، ويرون
إقامة الحجج والجهاد، والجمع والأعياد مع الأمراء - أبرارًا كانوا أم فجارًا -
ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمّة، ويعتقدون معنى قوله -
صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " وشبّك بين
أصابعه - صلى الله عليه وسلم - وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " مثل المؤمنين
في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له
سائر الجسد بالحمى والسهر) ج٣، ص١٥٨.
(ويجب على أولي الأمر وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها أن يقوموا
على عامتهم، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فيأمرونهم بما أمر الله به
ورسوله، وينهونهم عمّا نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -) ج ٣،
ص ٤٢٣.
(ويزن جميع ما خاض الناس فيه، من أقوال وأعمال، في الأصول والفروع
الباطنة والظاهرة بكتاب الله وسنّة رسوله غير متبعين لهوى: من عادة أو مذهب أو
طريقة أو رئاسة أو سلف، ولا متبعين لظن: من حديث ضعيف أو قياس فاسد -
سواء كان قياس شمول، أو قياس تمثيل - أو تقليد لمن لا يجب اتباع قوله وعمله،
فإنّ الله ذم في كتابه الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، ويتركون اتباع ما
جاءهم من ربهم من الهدى) ج ١٢ ص٤٧٦.
فأهل السنة والجماعة، إذن، ولاؤهم الأول للحق وحده، ومن هذا المنطلق
فإنهم ينظرون إلى كل فرد، أو طائفة، أو تجمع، على هذا الأساس وحده، وليس
على أساس من التعصب الجاهلي للقبيلة، أو المدينة، أو المذهب، أو الطريقة،
أو التجمع، أو الزعامة.
(وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم والحب والبغض، والموالاة والمعاداة،
والصلاة واللعن، بغير الأسماء التي علّق الله بها ذلك، مثل: أسماء القبائل،
والمدائن، والمذاهب، والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ، ونحو ذلك مما
يراد به التعريف، فمن كان مؤمناً وجبت موالاته، من أي صنف كان. ومن كان
كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان. ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطي من
الموالاة بحسب إيمانه، ومن البغض بحسب فجوره، ولا يخرج من الإيمان بالكلية
بمجرد الذنوب والمعاصي، كما يقوله الخوارج والمعتزلة، ولا يجعل الأنبياء،
والصديقون، والشهداء، والصالحون، بمنزلة الفساق في الإيمان والدين، والحب
والبغض، والموالاة والمعاداة) ج ٢٨، ص ٢٢٧- ٢٢٩.
وأهل السنة والجماعة لذلك يوالي بعضهم بعضًا، ولاءً عامًا -بغض
النظر عن انتماءاتهم المختلفة لحزب، أو جماعة، أو اتجاه، أو اجتهاد معين- بل الأصل أن يكونوا جميعًا، يدًا واحدةً، ويعذر بعضهم بعضًا، ولا يسارعون إلى اتهام أو تضليل بعضهم بعضًا.
(الواجب أن يقدّم من قدّمه الله ورسوله، ويؤخّر من أخّره الله ورسوله ويحب
ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه
ورسوله، وأن يرضى بما رضي به الله ورسوله، وأن يكون المسلمون يدًا واحدةً،
فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره، وقد يكون الصواب
معه، وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من
أمور الدين؛ فليس كل من أخطأ يكون كافرًا، ولا فاسقًا، بل قد عفا الله لهذه الأمة
الخطأ والنسيان) ج ٣، ص٤٢٠.
وأهل السنة والجماعة لا يمتحنون الناس بأمور ما أنزل الله بها من سلطان ولا
يتعصبون لأسماء، أو شعارات، أو تجمعات، أو زعامات، بل يوالون ويعادون
على أساس الدين والتقوى، ولا يتعصبون إلا لجماعة المسلمين، بمعناها الحقيقي،
وهي الجماعة التي ترفع راية القرآن والسنة، وهدي السلف الصالح -رضي الله
عنهم-.
( ... بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها - مثل انتساب الناس إلى إمام،
كالحنفيِّ، والمالكيِّ، والشافعي والحنبلي، أو إلى شيخٍ، كالقادريِّ والعدويِّ
ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل، كالقيسيِّ، واليمانيِّ، وإلى الأمصار،
كالشاميِّ، والعراقيِّ، والمصريِّ- فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي
بهذه الأسماء، ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم، من أىِّ طائفةٍ
كان) ج ٣، ص ٤١٦.
(فكيف يجوز - مع هذا لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن تفترق
وتختلف، حتى يوالي الرجل طائفةً ويعادي أخرى، بالظن والهوى، بلا برهانٍ من
الله تعالى وقد برّأ الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - ممّن كان هكذا فهذا فعل أهل
البدع كالخوارج، الذين فارقوا جماعة المسلمين، واستحلوا دماء من خالفهم. وأمّا
أهل السنة والجماعة، فهم معتصمون بحبل الله، وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل
من يوافقه على هواه، وإن كان غيره أتقى لله منه! ... وكيف يجوز التفريق بين
الأمة بأسماء مبتدعة، لا أصل لها في كتاب الله، ولا سنة رسوله - صلى الله عليه
وسلم -؟ ! وهذا التفريق الذي حصل من الأمة: علمائها، ومشايخها، وأمرائها،
وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله
ورسوله. فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به، وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب) ج ٣، ص ٤١٩ -٤٢١.
وأهل السنة والجماعة يعملون دائمًا في إطار من الاجتماع والتآلف ومحبة
الخير لكل المسلمين، والعفو والتجاوز عن إساءة المسيء، وخطأ المخطيء،
ودعوته إلى الصواب، والدعاء له بالهداية والرشاد والمغفرة.
(تعلمون أن من القواعد العظيمة، التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، فإن الله تعالى يقول: [فَاتَّقُوا اللَّهَ
وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف،
وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن
الخارجين عنه هم أهل الفرقة. وجماع السنة، طاعة الرسول.
وإني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين -فضلاً عن أصحابنا- بشيءٍ
أصلاً؛ لا باطنًا، ولا ظاهرًا، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم أصلاً،
بل لهم عندي من الكرامة والإجلال، والمحبة والتعظيم، أضعاف أضعاف ما كان،
كلٌ بحسبه، ولا يخلو الرجل، إمّا أن يكون مجتهدًا مصيباً، أو مخطئاً، أو مذنباً.
فالأول؛ مأجور مشكور، والثاني؛ مع أجره على الاجتهاد، فمعفوٌ عنه، مغفورٌ له، والثالث؛ فالله يغفر لنا وله ولسائر المسلمين ...
وتعلمون أنّا جميعاً متعاونون على البر والتقوى، واجبٌ علينا نصر بعضنا
البعض، أعظم مما كان وأشد..
وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي وأهل القصد الصالح يشكرون على قصدهم، وأهل العمل الصالح يشكرون على
عملهم، وأهل السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم) ج ٢٨، ص ٥٥-٥٧.