للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا ثقافية

[بين الثقافة والعرف]

جمال سلطان

يمثل مصطلح (الثقافة) واحداً من أشهر المصطلحات التي عرفها الفكر

الإنساني في تاريخه المعاصر؛ وذلك على الرغم من أنه مصطلح حديث نسبياً،

ولم يعرفه الفكر القديم بتلك الدلالات التي حملها في القرن الميلادي الأخير، وعلى

الرغم من ذلك فإن معظم من كتبوا عن هذا المصطلح وتاريخه أجمعوا على صعوبة

وضع تعريف واضح ومحدد له، وهذه هي آفة المصطلحات المعاصرة بشكل عام،

وربما كان الأمر فيه قُصد قصداً؛ حيث تفعل مساحات التطاوع والغموض في

المصطلح فعلها الكبير في إمكانيات توجيه المصطلحات إلى غير ما وِجهة، وبحيث

يكون لها عند كل فريق معنى، وبطبيعة الحال يكون من يملك الإمكانيات التسويقية

والإعلامية الأكثر هو الأكثر قدرة على تسويق المعنى الذي يريد والإيحاءات التي

يرغب.

ومن أجل ذلك حذَّرتُ وحذَّر كثير من الناصحين في (الفكر الإسلامي) من

خطورة التسليم بالمصطلحات الوافدة، وخطورة أن نخلي لها في خطابنا الدعوي

مكاناً أو ركناً، والأخطر أن نستبدلها بمصطلحاتنا التراثية والعلمية الأصيلة التي

ضُبطت وحُررت واختُبرت على مر القرون حتى ضبطت لنا معالم الشريعة وعالمنا

الفكري الإسلامي. ولا يمكن التساهل في هذا السياق وفق مقولة: «لا مُشاحَّة في

المصطلح» ؛ إذ إن هذه وإن كانت كلمة حق إلا أنها توضع في غير مكانها

وتاريخها وسياقها، بل إن أصل النزاع الحضاري الآن إنما مفتاحه ومدخله هو

المصطلح؛ فكيف لا تكون فيه مشاحة ومنازعة؟ !

وبعيداً عن هذا الاستطراد الضروري نعود إلى مصطلح (الثقافة) فنجد أنه

حمل أكثر من معنى وأكثر من دلالة؛ فهناك من وَجَّهه وجهة المعرفة والعلم؛

فكانت الثقافة عنده أن تعلم شيئاً عن كل شيء؛ بحيث تكون لك رؤية موسوعية ولو

سطحية عن مختلف الأفكار والآراء والعلوم والمعارف والفنون والآداب ونحو ذلك،

وهناك من جعلها دلالة نخبوية بمعنى أن المثقف هو من استجمع بعضاً من قيم

وخصوصيات فكرية وفنية رفيعة في المجتمع، وهناك من جعلها دلالة على مجمل

القيم العامة في المجتمع والسلوك الإنساني فيه، وهي تلك القيم الحاضنة للنمو

الاجتماعي وتواصل الأجيال وفق أذواق معينة ومفاهيم إنسانية وأخلاقية معينة،

وهذا هو الأكثر قبولاً في أوساط دارسي المصطلح، وهو الألصق بالاشتقاق اللغوي

للمصطلح في كثير من اللغات الأوروبية المعاصرة، حيث تشتق الثقافة من مادة

الحرث والنماء (CULTUER) ، وفي تقديري أن هذا هو التوجيه الأكثر دقة،

والأكثر قرباً وضبطاً لمصطلح الثقافة، وهو الأكثر قرباً من الإطار الإسلامي كذلك؛

لأنه يعطي دلالة أقرب إلى مفهوم (العرف) [١] في السياق الإسلامي، ومن

المعروف أن (العرف) معتبر لدى الجمهور من الأصوليين، بوصفه مصدراً من

مصادر التشريع، له حجيته وإلزاميته في بعض القضايا والأحكام، وقد خرَّج

بعضهم على ذلك قاعدة: «المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً» ، ولعل هذا الربط

بين دلالة مصطلح الثقافة ومصطلح العرف إن صح وجاز؛ يعطي ثقافة المجتمع

موقعاً شديد الحساسية والخطورة في الوعي الإسلامي المعاصر، ويكشف الغطاء

عن محاولات التزوير والتخدير التي تمارس ضد العقل الإسلامي لحرمانه من

ممارسة واجبه المشروع في حماية ثقافته من عمليات الاختراق الأجنبي

المتنوعة؛ حيث شاعت في العقود الأخيرة الكتابات التي تهزأ من الحديث عن

(الغزو الثقافي) ، والأخرى التي تنفي وجود شيء اسمه (الغزو الثقافي) ، وتحاول

أن تربط ذلك بالتشدد أو التطرف الديني أو العنصرية القومية أو ما شابه ذلك

من اتهامات وتلويحات، يحدث ذلك على الرغم مما تحمله لنا التقارير والأخبار

من حالات سخط واستنفار في دوائر المثقفين والأجهزة الرسمية في بعض الدول

الأوروبية مثل فرنسا ضد ما يسمونه «الغزو الثقافي الأمريكي» ؛ وذلك من

خلال المسلسلات والأفلام والمطاعم الأمريكية وغيرها التي تصبغ المجتمع بصبغة

غريبة وطارئة، وتمزق العرف العام في المجتمع وتشوه الأجيال الجديدة، وهذا كله

صحيح بالنسبة لفرنسا، ولكنه أكثر صحة وخطراً بالنسبة لنا نحن المسلمين؛

وذلك أن أواصر القربى بين الثقافتين الأمريكية والفرنسية أكثر من أن تحصى، فإذا

كان الفرنسيون يفزعون من الغزو الثقافي الأمريكي، وهم على هذا الوجه من

القربى؛ فكيف بنا ونحن على النقيض من الثقافة الأمريكية قيماً وأخلاقاً ونظام

حياة وسلوكاً أسرياً وديناً وحضارة؟ !

إن (الثقافة) أو (العرف) إن شئنا الدقة هو البوتقة التي تنصهر فيها

فعاليات البشر في المجتمع، وهي ماء الحياة فيه؛ لأنها تمنح الناس الحساسية

الإنسانية تجاه الذوق الاجتماعي وتجاه محددات (العيب) ، و (الجائز وغير

الجائز) من السلوك.

إن الناس قد ينسون الأصل الشرعي لحرمة الفعل أو عيبه أو نكرته، ولكنه

يبقى في وعيهم أن هذا عيب أو حرام أو منكر. وعندما يقع التشتت والتمزق في

الوعي الثقافي يتبعه التمزق في النسيج الاجتماعي، والتمرد على القيم والتقاليد

الحافظة لتَواصُل المجتمع ونقائه ومجمل أخلاقه؛ ولذا فلا غرو في أن الغزو الثقافي

يؤثر جوهرياً في الأصل العام في الإسلام ألا وهو «الأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر» ؛ وذلك أن (المعروف والمنكر) رغم أنهما ينبعان من الأصل الديني

مباشرة إلا أنهما في غالب السلوك الاجتماعي وعي ثقافي عند العامة بشكل أساس،

وعرف عام تغلغل في نسيج المجتمع، وعندما يضعف إلمام الناس بالشريعة

وعلومها وحججها يبقى هذا العرف الاجتماعي أو «الثقافة» التي تصبغ نسيج

المجتمع وعفويته تبقى هي الحافظة لمعنى المنكر والمعروف. صحيح أن بعضاً من

الخلط والانحراف يقع، وهذا أمر محتوم، ولكن يبقى أن النسيج العام للمجتمع

يعرف المعروف وينكر المنكر.

ولعل القرآن الكريم قد ضرب لنا مثلاً واضحاً في خطورة التخريب الثقافي

الذي يصل إلى حد الانقلاب في العرف العام في المجتمع من خلال قصة «قوم لوط»

ومقولتهم العجيبة: [أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ]

(النمل: ٥٦) ، ولعلنا نرى الآن في بعض الدول الأوروبية كيف أن العرف قد

انتكس بالفطرة الإنسانية إلى قريب من هذا الدمار الذي حدث مع قوم لوط في أخلاق

الناس وفوضى السلوك الاجتماعي، وينبغي أن نتذكر جيداً أن هذه الانتكاسات لم تأت

عبر خطب أو بيانات أو إقناعات مباشرة أو منطق مفترض، وإنما أتت عبر

عمليات التآكل المستمرة في القيم والأعراف، والتي تؤدي مع الوقت إلى اختراق

«ثقافة المجتمع» وإفقادها مناعتها وحصانتها، وبذلك تخرج أجيال جديدة متمردة

ومفرغة من كل قيمة أو وعي رشيد؛ فإن استمر هذا التفريغ انتهى الأمر إلى انتكاسة

الفطرة بكاملها، أو أن يقيض الله للمجتمع من يوقف هذا الانهيار ويجدد عهد الناس

بالقيم والدين منبع العرف في المجتمع الإسلامي والبوتقة التي تنصهر فيها كل

فعاليات المجتمع المسلم على مر التاريخ لتتحول إلى وعي ثقافي عام يطبع نسيج

المجتمع بطابعه، بل يصبح هو نسيج المجتمع ولُحْمته.

ويبقى أن نشير إلى باب آخر من أبواب الغزو الثقافي ينبغي التحذير منه في

هذا السياق، ألا هو الحديث الشيق الطريف عن «العالم الذي أصبح قرية واحدة» ،

وهي المقولة التي تنسرب الآن في المقالات والكتابات حتى الإسلامية منها مع

الأسف غير منتبهة إلى أنها مزلق يُستغل لتخدير الوعي الإسلامي وشله عن

المقاومة للغزو الثقافي، بل لإصابته باليأس أصلاً باعتبار أن الطوفان التغريبي قدر

مقدور، ولأن العالم أصبح قرية واحدة؛ فكيف نستطيع أن نتحوط منه ونتحصن

ثقافياً وقيمياً؟ ! ورغم أننا في هذا العالم الذي أصبح قرية واحدة نجد في أمريكا

وبريطانيا وألمانيا وفرنسا العديد من حالات مصادرة الكتب أو المحاكمات على

أفكار نشرت، وحظر برامج تلفزيونية أو حتى حجب مواقع على الإنترنت، وهذا

يعني أن العالم لم يكن قرية واحدة ولن يكون، صحيح أن قدرات التواصل مع ما

يدور في العالم أصبحت أكثر وأوفر، ولكن تبقى هناك حواجز مهمة وخنادق يمثلها

قوة العرف في المجتمع وحيويته الثقافية بما في ذلك حضور الدين حياً وفاعلاً في

ضمير أجياله الجديدة.


(١) مع ملاحظة أن العرف أقرب إلى العمل، والثقافة أقرب إلى العلم.