المسلمون والعالم
آسيا الوسطى
وتلاقي المصالح على حرب الإسلام
حسن الرشيدي
في السابع من أكتوبر جيَّشت الولايات المتحدة جيوشها، وأقبلت بأساطيلها
وحاملات طائراتها، واستنهضت همم حلفائها أو أذيالها، وقامت بشن غارات
وحشية بالصواريخ والطائرات على بلاد الأفغان في حملة تسميها أمريكا: «حرب
الإرهاب» . وتحير كثير من المراقبين حول حقيقة الأهداف التي تنوي أمريكا
تحقيقها من هذه الحملة وخاصة أنها أي الولايات المتحدة حريصة على إحاطة
هجماتها تلك بالغموض والتعتيم الإعلامي من حيث نوايا هذه الحملة؛ فانهالت كثير
من التحليلات المتضاربة التي تضرب أخماساً بأسداس في حقيقة النوايا الأمريكية،
وهل هدفها فقط تحطيم الإرهاب وجذوره، أم أن الأمر أبعد من ذلك بكثير؟
وباستقراء الاستراتيجية الأمريكية في العالم وخاصة منذ نهاية الحرب الباردة
يمكن تلمس أهداف ما يعرف بقطب العالم الأول أو الأوحد في هذه الحرب الجارية
الآن؛ حيث يمكن تقسيمها لأهداف معلنة وأخرى خفية.
أما المعلنة فظاهرها القضاء على ما يسمى بخطر مجموعة القاعدة وعلى
رأسها أسامة بن لادن وخاصة عندما قال الرئيس بوش في تعبير غريب جداً على
رئيس دولة عظمى وحيدة في العالم: أريد رأس أسامة بن لادن حياً أو ميتاً.. وكأن
القضية تم تشخيصها وتجسيدها في شخص واحد هو ابن لادن إضافة إلى تنظيم
القاعدة.. وهذا هو الهدف الأمريكي قصير الأمد. ومنها أيضا إزاحة حركة طالبان
من السلطة في أفغانستان وتفكيك أوصالها.
أما الأجندة الخفية فعلى رأسها تمدد الهيمنة الأمريكية لتشمل آسيا الوسطى
باعتبار أن الهدف الاستراتيجي لأي حرب يكمن في إحداث تغيير في ميزان القوى
والوضع السياسي في إقليم بكامله، وبذلك أصبحت منطقة آسيا الوسطى التي كانت
من أكثر مناطق العالم انزواء وهدوءاً منذ أكثر من ١٠٠ سنة خلت أصبحت واحدة
من المناطق الحامية في عالم اليوم.. ولكن ما سر هذا الاهتمام بهذه المنطقة الذي
يبدو في نظرنا مفاجئاً، ولكنه في واقع الأمر غير ذلك؟
آسيا الوسطى:
يقسم الجغرافيون آسيا إلى ست مناطق جغرافية متباينة هي: جنوبي آسيا
(الهند، وباكستان، وبنجلاديش، وبوتان، ونيبال، وسريلانكا، ومالديف) ،
وشمال شرقي آسيا (اليابان، والصين، والكوريتان، ومنغوليا) ، وجنوبي
شرقي آسيا (تايلاند، وكمبوديا، ولاوس، وفيتنام، وماليزيا، وسنغافورة،
وإندونيسيا، وبروناي، والفليبين) ، وجنوب غربي آسيا (أفغانستان، وإيران،
والعراق، وتركيا، وسوريا، ولبنان ودول شبه الجزيرة العربية) ، ووسط
آسيا والقوقاز (قازاخستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، وقيرغيزيا،
وتركمانستان وأذربيجان، وجورجيا، وأرمينيا) وأخيراً آسيا الروسية بما في
ذلك سيبيريا.
فمع انهيار وزوال الاتحاد السوفييتي في أوائل عقد التسعينيات من القرن
الماضي، ظهرت إلى الوجود حقيقة جيوسياسية جديدة تمثلت في خمس دول أعيد
إدماجها في خريطة العالم المعاصر، وتقع في منطقة وسط آسيا، وكانت تسمى
بالجمهوريات السوفييتية الآسيوية وهي: كازاخستان، وأوزبكستان، وتركمانستان،
وطاجيكستان، وقرغيزستان.
هذه الجمهوريات هي في الواقع مناطق تصنف تاريخياً في مربع الإسلام؛
فمن ذا الذي ينسى دور حواضر إسلامية مثل بخارى وسمرقند وغيرها الكثير التي
خرَّجت العلماء والدعاة، وسطرت صفحات مجيدة في الزود عن الإسلام وأهله.
ولكن مع قدوم الحقبة السوفيتية في أوائل القرن العشرين تغيرت كثيراً
ديموغرافية هذه البلدان وتركيبتها السكانية؛ ففي كازاخستان ذات السبعة عشر
مليوناً بلغت نسبة الروس فيها ٣٨% ويشكل الكازاخستانيون٤٠% معظمهم كانوا
بدواً استقروا في القرن العشرين؛ والنسبة الباقية يتوزعها الأوزبكيون والتركمان.
وتأتي أوزبكستان بالدرجة الأولى من ناحية السكان؛ إذ يبلغ تعداد نفوسها ٢٢
مليون نسمة، منهم ٧١% أوزبكيون والنسبة الباقية تتوزع بين الروس وفئة قليلة
من التركمان. أما تركمانستان التي يبلغ تعدادها أكثر من أربعة ملايين نسمة،
فيحتل التركمان نسبة ٧٢% منها، والروس١٠% والباقي أوزبكيون. ودولة
قيرغيزستان التي تضم اكثر من أربعة ملايين نسمة فتنقسم تركيبتها السكانية إلى
٢١% من الروس، ١٢% من الأوزبك، و ٥٢% من القيرغيز، ولا يزال قرابة
مليون قيرغيزي عبر تخوم الصين. وفي طاجيكستان التي يقترب عدد سكانها من
ستة ملايين نسمة نجد أنهم يتوزعون بين ١١% من الروس، ٢٣% من الأوزبك،
٨٥.٨ % من الطاجيك، والباقي يتوزعون بين اليوغرور والقيرغيز وسكان
البامير من الشيعة، وللطاجيك في كسينج بانج الصينية أكثر من ٣٠٠ ألف طاجيكي.
ويتوضح من ذلك أن الخليط السكاني في وسط آسيا تشكل نتيجة الضم القسري
الروسي لهذه الدول، وحرص الاتحاد السوفييتي السابق على خلخلة الهيمنة
الإسلامية على هذه الجمهوريات بتهجير الروس إليها، ومنحهم امتيازات كبرى في
الوظائف العامة وغيرها.
وبالرغم من ذلك توضح دراسة قامت بها جامعة هارفارد الأمريكية أن هذه
الجمهوريات تشترك في العقيدة الإسلامية السائدة وفي اللغة ذات الأصل التركي
(باستثناء طاجيكستان) .
وكان من الطبيعي أن يحدث اندماج بين هذه الجمهوريات الخمس ذات
الأصول الإسلامية؛ ولكن مع تولي النخب العلمانية وأغلبها شيوعية سابقة مقاليد
الحكم في هذه الجمهوريات تراجع الرابط العقيدي إلى أدنى مستوياته؛ وخاصة بين
النظم التي تسوس أمور هذه الدول.
هذه الدول الخمس الفقيرة سياسياً والغنية بثرواتها وموقعها الاستراتيجي؛
فضلاً عن الصحوة الإسلامية القائمة على أراضيها والتي انتعشت بوصول طالبان
لحكم أفغانستان؛ جعلها نهباً لنزاع يجري بين أحلاف توشك أن تقوم في آسيا وبين
أحلاف قائمة تريد أن تزداد قوة على قواعد آسيا. فبين أمريكا وهيمنتها العالمية،
والصين وطموحاتها الإقليمية، والروس وأحلامهم القومية، والإيرانيين وتطلعاتهم
الرافضية، والأتراك وروابطهم العرقية والثقافية بين ذلك كله تتمزق دول آسيا في
الداخل الصغير والخارج الكبير؛ مما أدى إلى انقسام هذه الجمهوريات إلى كتلتين:
الأولى: تحمل اسم: «رابطة (كومنولث) الدول المستقلة» ، وتضم
روسيا وبيلاروس (روسيا البيضاء) وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان
وطاجيكستان.
الكتلة الثانية: وتحمل اسماً غير مطروق إلى حد ما وهو (جووآم) وتضم
جورجيا، وأوكرانيا، وأوزبكستان، وأذربيجان، ومولدوفا.
وهكذا حدث تكريس لانقسام عميق وخطير في منطقة آسيا الإسلامية الوسطى
بعد أن أصبحت كل من كازاخستان وأوزبكستان وهما أكبر وأهم الكيانات السياسية
في المنطقة منضمة إلى كتلتين تقف كل منهما في مواجهة الأخرى.
ولفهم حقيقة الصراع على آسيا الوسطى لا بد لنا من شرح أسباب الصراع
ومكوناته، ثم استعراض الرؤى الاستراتيجية للقوى الطامعة في هذه المنطقة.
أسباب الصراع:
تنحصر أسباب الصراع (مكونات الصراع) في حقيقتين تتنازع عليهما
الأطراف المختلفة لتحقيق الهيمنة، وكما يقول تقرير ألماني: «إن الصمود القوي
للإسلام بعد زوال الاتحاد السوفييتي السابق والاكتشافات النفطية والغازية هما أبرز
عاملين زادا من تحفيز الدوائر الغربية واهتمامها بهذه المنطقة» .
أولاً: المد الإسلامي:
عندما سقط الاتحاد السوفييتي السابق وانهارت العقيدة الشيوعية وجدت شعوب
آسيا الوسطى نفسها في حالة فراغ روحي كبير؛ ذلك أنه على مدى سبعة عقود
متوالية لم تسمح سلطات الكرملين ببناء مسجد، أما المساجد التي كانت قائمة قبل
الثورة البلشفية فقد تحول معظمها إما إلى مخازن ومستودعات أو إلى مكاتب
ومحطات للنقل الداخلي أو حتى إلى مسارح محلية.
السكان الأصليون في هذه الدول يدينون بالإسلام؛ ولكن أكثريتهم لا تفقه منه
سوى بعض العادات والتقاليد؛ وبالرغم من ذلك فإن الأنظمة العلمانية التي استلمت
الحكم بعد الانهيار الشيوعي اتخذت طريق مجابهة الإسلام والجماعات التي تدعو
إليه وإلى تطبيقه في دنيا الواقع، وغرقت الحكومات العلمانية كغيرها في الشرق
الأوسط في مطاردة الحركات الإسلامية المحلية، ويكاد يسود اعتقاد بأن كل من
يتردد على المسجد يشكل قنبلة موقوتة؛ حتى إن لجنة الحريات الدينية في وزارة
الخارجية الأمريكية أخذت تبحث عن أكبر اضطهاد للمسلمين في العالم لكي تخرج
تقريراً متوازناً فلم تجد إلا دولة تركمانستان؛ حيث أدرجتها على لائحة الدول التي
تنتهك الحريات الدينية؛ ليس لأنها تمنع أو تعترض على عمل المبشرين الإنجيليين
القادمين من الولايات المتحدة وأوروبا؛ ولكن لأنها تسرف في اضطهاد المسلمين
من أهل البلاد حسب ما يقول التقرير.
وقد سجلت مؤسسة حقوق الإنسان الدولية ثمانمائة انتهاك للحريات الدينية في
أوزبكستان في عام ١٩٩٩م وحده وكان معظم ضحاياها من المسلمين أيضاً، وينص
القانون هناك على فرض عقوبة السجن على كل من يصلي في غير المساجد التابعة
للدولة. وشهدت هذه الدولة ظهور الحركة الإسلامية فيها بقيادة جمعة نامنغاني،
بالإضافة إلى ظهور حزب التحرير. وقد دعت الحركتان إلى الإطاحة بالحكومة
العلمانية في أوزبكستان وإقامة جمهورية إسلامية تضم كافة الأراضي الواقعة ضمن
وادي فيرغانا.
ودخلت جمهورية طاجكستان في دوامة حرب أهلية بين الإسلاميين بزعامة
حزب النهضة، والحكومة التي ورثت الحكم في طاجكستان بعد زوال الاتحاد
السوفييتي، وبدا واضحاً أن حكومات هذه الدول تسير في اتجاهين لمحاربة المد
الإسلامي:
الأول: عن طريق المشاركة مع الدول الأخرى مثلما حدث في منتدى شنغهاي
التي تضم عضويته خمس دول هي: الصين وروسيا وطاجكستان وكازخستان
وقيرغستان، في عام ١٩٩٦م، وقد تمثل الغرض الرسمي لتكوينه في حل
النزاعات الحدودية القائمة والمحتملة بين هذه الدول التي نشأت عقب استقلال
جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. لكن الحقيقة هي أن الهدف الأساس لتوحد
هذه الدول الآسيوية هو مواجهة الحركات الإسلامية في أراضيها؛ فالصين تعاني
مشاكل مع المسلمين في تركستان الشرقية، وروسيا مع الشيشان، ودول آسيا
الوسطى الثلاث تواجه مداً إسلامياً مسلحاً. كذلك حدث اتفاق بين دول (كومنولث
الدول المستقلة) بحضور رؤساء ست دول أعضاء في هذا التجمع هي روسيا
وكازاخستان وقرغيزستان وروسيا البيضاء وطاجيكستان إلى جانب أرمينيا؛ وذلك
بالاتفاق على تشكيل قوة تدخل عاجلة مؤلفة من وحدات روسية وقرغيزية وكازاخية
وطاجيكية للوقوف بوجه ما وُصف بأنه «غارات المجموعات الإسلامية» .
وكانت الفكرة هي أن تعاون هذه الدول المتجاورة يمكن أن يكون كافياً لعزل
المجاهدين، ولقيت فكرة استخدام أمن الحدود والتعاون الإقليمي بوصفها «تكتيكاً»
وغطاء دبلوماسياً لما يجري من اضطهاد كثيف لسكان هذه الدول لقيت ترحيباً حاراً
من قِبَل الحكومات الشيوعية السابقة لدول آسيا الوسطى التي أقلقها انبعاث حركة
الإحياء الإسلامي من جديد إثر سقوط مبدأ الإلحاد الذي كانت تدعمه وتفرضه
الإدارة السوفييتية السابقة.
والثاني: يتمثل في تشجيع المنظمات التنصيرية البروتستانتية والكاثوليكية؛
حيث تحركت مجموعتان تنصيريتان: واحدة كاثوليكية انطلقت من الفاتيكان ومن
مجلس الأساقفة الكاثوليك في أوروبا. أما الثانية فإنجيلية انطلقت من الولايات
المتحدة وهولندا والدول الإسكندنافية؛ حتى إن تعاظم نشاط هاتين الكنيستين
أغضب الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا، وأثار نشاط الحركتين قلق الكرملين الذي
أعطى الضوء الأخضر إلى مجلس النواب الروسي الدوما فأقر المجلس تشريعاً
يحظر التبشير الديني في الاتحاد الروسي. وحدد التشريع الأديان الرسمية للدولة
بثلاثة فقط هي: الأرثوذكسية، والإسلام، والبوذية. وبموجب هذا التشريع الذي
مر علي إقراره عدة سنوات فإن أي عمل تبشيري يقوم به غير أتباع هذه الأديان
الثلاثة يعتبر انتهاكاً للوحدة الوطنية للدولة.
من أجل ذلك نددت الولايات المتحدة بالتشريع الروسي واعتبرته انتهاكاً
لحرية الممارسة الدينية. ومن أجل ذلك أيضاً رفض البطريرك الأرثوذكسي ولا
يزال يرفض مجرد لقاء البابا يوحنا بولس الثاني؛ حتى إن زيارة البابا الأخيرة
إلى أوكرانيا اعتبرتها الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تحدياً لها واستفزازاً،
وتعرضت بسبب ذلك إلى الكثير من النقد الجارح.
هذه الكنائس تتسلح بعاملين أساسيين:
العامل الأول: هو القدرة المالية الإغرائية التي تتمتع بها وخاصة أن معظم
شعوب دول آسيا الوسطى وحتى روسيا نفسها تعاني من الفقر المدقع.
أما العامل الثاني: فهو تفاني الشباب المثقف من المنتمين إلى هذه الكنائس في
العمل التبشيري؛ حتى إن مدرسي اللغة الإنجليزية في العديد من مدارس
كازاخستان مثلاً هم من هؤلاء المبشرين الذين يعملون بتفان دون أن يتقاضوا أي
تعويض.
ثانياً: بحر قزوين:
في قزوين ثروة نفطية يتراوح احتياطيها بين ٣٠ مليار برميل وفق التقديرت
الرسمية، و٢٠٠ مليار برميل حسب تقديرات وزارة الخارجية الأمريكية في تقرير
قدمته للكونجرس عام ١٩٩٧م.
وأصل المشكلة حوله تنبع من سببين:
- من يتحكم فيه من الدول المطلة عليه.
- والحاجة إلى مد خطوط أنابيب جديدة لنقله وتوزيعه بأقل تكلفة إنتاجية
ممكنة؛ أي مالك البترول وناقله.
فأما الدول المطلة عليه فهي إيران، أذربيجان، روسيا، كازاخستان،
وتركمانستان، وهي مختلفة فيما بينها: هل بحر قزوين بحيرة أم بحر؟ فاذا كان
قزوين بحيرة فإن الدول المطلة عليه تتمتع بحقوق متساوية في هذه الثروة أياً كان
موقعها من الآبار المكتشفة؛ أي أن الثروة النفطية تصبح ملكاً مشتركاً بين هذه
الدول، وهي إيران، أذربيجان، روسيا، كازاخستان، وتركمانستان.. أما إذا كان
قزوين بحراً، فعند ذلك ترسم الحدود البحرية للدول المشاطئة بموجب القانون
الدولي. وكل ثروة نفطية يعثر عليها في المياه الإقليمية التابعة لكل دولة تصبح
بكاملها حقاً وطنياً لها وحدها.
في نظر إيران وروسيا (وهما الدولتان الوحيدتان اللتان تملكان قوة بحرية في
قزوين) وتركمانستان، أن قزوين بحيرة؛ ولذلك تدعو هذه الدول الثلاث إلى
استثمار مشترك لثروته من النفط والغاز، أما أذربيجان وكازاخستان فتعتبران أنه
بحر، ولذلك اتفقتا على رسم حدودهما البحرية المتقابلة، وعقدت كل منهما اتفاقيات
مع شركات نفط دولية للتنقيب، والاستثمار داخل هذه الحدود. وبموجب هذا
التخطيط يقع حقل النفط الوف الغني جداً في القسم الجنوبي من المياه الإقليمية
لأذربيجان أي قريباً من مياه إيران الإقليمية، وتتولى شركة بريطانية استثماره
بموجب اتفاق عقدته مع حكومة باكو؛ وقد انتقلت المعارضة الإيرانية لهذا الاتفاق
من الاحتجاج الدبلوماسي (سحب السفير) إلى القيام بمظاهرة مسلحة في منطقة
عمل الشركة البريطانية مما حملها على التوقف.
أما مسألة نقله فهي العقبة الرئيسة في تطوير وتصدير بترول منطقة بحر
قزوين؛ فبحر قزوين محاط بالأراضي من كل جانب، وخط الأنابيب الموجود منذ
عهد الاتحاد السوفييتي السابق لا يمكنه نقل سوى حجم محدود من بترول المنطقة
عبر روسيا التي تعتبر في حد ذاتها مشكلة باعتبارها دولة عبور للخط؛ ولذلك فإن
تطوير طرق جديدة للتصدير احتل أسبقية أولى بالنسبة للشركات والدول التي
تستضيفها على حد سواء.
ويكمن في جذور المشكلة أن الخطوط العابرة للحدود تواجه مشاكل اقتصادية
وسياسية؛ فلكي ينجح خط أنابيب يتكلف الملايين يجب أن يحظى بدعم سياسي من
الدول المعنية التي سيمر بها الخط، ويجب أن يكون هذا الدعم قوياً بالقدر الذي
يمكنه أن يتغلب على أي معارضة سياسية من بعض الدول الخارجية، وفي الوقت
ذاته يجب أن يحظى الخط بدعم من الكيانات التجارية التي لها صلة بالمشروع،
وهذه الكيانات التجارية تتكون أساساً من الشركات التي ستقوم بإنتاج ونقل البترول؛
كما تشمل الهيئات التي تمد بالمال أو المستثمرة في المشروع؛ هذا بالإضافة إلى
دعم الدول الأجنبية ذات المصلحة في هذا البترول.
تتمحور مشاريع نقل البترول حول التمدد بثلاثة خطوط برية محمية ومأمونة:
المسار الأول: عبر إيران، ومنها إلى مضيق هرمز ثم المحيط الهندي.
المسار الثاني: عبر روسيا، ومنها إلى البحر الأسود، ثم مضيق الدردنيل
وإلى البحر المتوسط.
المسار الثالث: عبر أفغانستان ثم باكستان إلى الهند والصين وبقية دول
جنوب شرق آسيا وحتى اليابان.
أي أن هذه المسارات يقع أحدها في يد روسيا، والآخر مفتاحه إيران، أما
الثالث فيبدو أن الصين هي المتحكمة فيه.
استراتيجيات القوى المختلفة بالنسبة لآسيا الوسطى:
الولايات المتحدة:
بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط الإمبراطورية السوفييتية كان أمام صُنَّاع
السياسة الأمريكية ثلاثة خيارات: إما العزلة والتقوقع داخل أمريكا؛ أو العودة إلى
تعدد القطبية وتوازن القوى، والخيار الثالث هو الزعامة العالمية أو الهيمنة الشاملة،
وهي تقتضي منع ظهور منافس عالمي آخر يكون معادياً لها وتحول في الوقت
نفسه دون العودة إلى تعدد القطبية، وأصبح هذا هو الاختيار الأول بالنسبة للساسة
في أمريكا خاصة منذ عهد ريجان في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي.
هذا الهدف الأسمى لدى الطبقة السياسية في أمريكا، وهو فرض الهيمنة
الأمريكية على العالم كان لا بد له من استراتيجية لتطبيقه، ويتضمن الشق السياسي
في هذه الاستراتيجية رسم إطار استراتيجي لهذه المناطق تراعى فيه المصالح
الحيوية لأمريكا، وتبقى هذه المناطق تدور دائما في الفلك الأمريكي. وهذا يتم عن
طريق الآلة العسكرية والعقوبات. أما الشق الاقتصادي من استراتيجية الهيمنة
فغرضه السيطرة على رأس المال وربط الاقتصاد العالمي بالاقتصاد الأمريكي عن
طريق آليات ومنظمات.
ومنذ استقلال جمهوريات آسيا الوسطى في بداية التسعينيات وخروجها من
الفلك السوفييتي نظرت الولايات المتحدة لهذه المنطقة بعدة اعتبارات:
١ - أنها منطقة خارج النفوذ الأمريكي ويجب إدخالها في نطاق الهيمنة.
٢ - وجود النفط فيها باحتياطات كبيرة؛ وصناع السياسة الأمريكية
حريصون في مجال النفط على الآتي:
أولاً: تعدد مصادر النفط والطاقة عموماً، أي عدم الاعتماد بصفة أساسية
على بترول الخليج الذي يشكل حوالي ثلثي الاحتياطي العالمي من النفط، وهنا نجد
أن نفط بحر قزوين الذي يقدر مخزونه بحوالي ٢٠٠ مليار برميل هو الداعم
الأساسي لأمن طاقتها.
ثانياً: تعدد طرق النقل وخطوط الإمداد؛ إذ لا يكفي تعدد المصادر بل يجب
تعدد المسارات لتقليل احتمال تعرضها للمخاطر، ومن هنا كان رفض واشنطن
القاطع لمرور خط بترول قزوين بإيران رغم قلة تكاليفه؛ لأنه في النهاية سيصب
في الخليج العربي ليمر بناقلاته مع بترول الخليج عبر مضيق هرمز فتزداد مخاطر
تأثير أي صراعات أو تغييرات في الخليج على إمدادات المصدرين معاً، وللسبب
ذاته رفضت واشنطن مروره بروسيا؛ فالبحر الأسود، فمضيق البوسفور.
ثالثاً: الحصول على النفط بأسعار مناسبة «رخيصة» وهو ما يوفره تعدد
المصادر وتعدد الطرق الآمنة، وقد كان لضخامة تقديرات بترول قزوين الأثر في
دفع الدول المنتجة إلى المسارعة بزيادة إنتاجها قبل دخول بحر قزوين حلبة الإنتاج
فتنخفض الأسعار.
رابعاً: حرمان أعداء واشنطن من تكنولوجيا النفط.
خامساً: استخدام النفط ورقة مساومة لفرض الهيمنة الأمريكية على بقية الدول
الكبرى كالصين واليابان وأوروبا.
ويزيد من الاهتمام الأمريكي وفق مصادر كثيرة أن حاجة الولايات المتحدة
والمجتمعات الغربية للنفط تزايدت؛ ففي عام ١٩٩٨م بلغت حاجة الولايات المتحدة
والاتحاد الأوروبي واليابان ٣٧ مليون برميل من البترول يومياً، استوردت منه ٢٥
مليون برميل، أي أن هذه الدول حصلت على ٦٨% من احتياجاتها من النفط عن
طريق الاستيراد.
وتصدر دول الخليج ١٨ مليون برميل من إنتاجها النفطي الذي يبلغ ٤٠
مليوناً في اليوم إلى هذه الدول، وحسب تقديرات وزارة الطاقة الأمريكية فإن حصة
دول الخليج من تصدير النفط العالمي التي بلغت ٤٥% عام ١٩٩٨ سترتفع الى ٦٥
% في عام ٢٠٢٠م؛ ومن هنا تأتي أهمية نفط بحر قزوين في العقدين المقبلين.
وتبقى المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة في مسارات نقل النفط؛ فالولايات
المتحدة لا تريد أن تكون مسارات النفط في يد روسيا أو إيران، أو أن يتجه النفط
والغاز إلى الصين وسط غابة من الدول ليس بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية
اتفاقات وتحالفات واضحة ومحددة. وأخيراً نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في
إقناع الشركات البترولية، وكذلك دول منطقة القوقاز، وبحر قزوين، بقبول
مشروعين لنقل النفط والغاز على النحو الآتي:
المشروع الأول: لنقل الغاز عبر خط أنابيب يبدأ من تركمانستان ثم أذربيجان،
وعبر جورجيا، وينتهي عند تركيا، وأطلق عليه اسم: خط أنابيب ترانزكاسبيان
لنقل الغاز.
المشروع الثاني: لنقل البترول الخام عبر خط أنابيب من كازاخستان
وأذربيجان وتركمانستان عبر جورجيا، وينتهي عند تركيا أيضاً، وأطلق عليه اسم
خط أنابيب قزوين لنقل النفط.
وكلا الخطين يمتدان لمسافة طويلة جداً، لا تقل عن ١٧٠٠ كيلو متراً.
وقد تمت مراسم التوقيع على المشروعين بقصر شيجاران الفخم العثماني الطراز
بالعاصمة التركية أنقرة أواخر الخريف من السنة الفائتة وبحضور رؤساء
جمهوريات: تركيا، أذربيجان، كازاخستان، تركمانستان، جورجيا، والولايات
المتحدة الأمريكية ممثلة في الرئيس السابق بيل كلينتون الذي ذكر في كلمته بعد
انتهاء مراسم الاحتفال: هذان الخطان من الأنابيب يشكلان معاً بوليصة تأمين العالم
أجمع، ويتيح ذلك إمكانية تصدير النفط والغاز عبر بدائل عدة لا تمر بأي عوائق
أو مناطق اختناق.
وبطبيعة الحال فإن (بوليصة) التأمين هذه ستحتاج لحماية، سواء بوسائل
عسكرية لتلك الغابة من خطوط نقل الغاز، والنفط عبر ذلك العدد الهائل من
الكيلومترات، أو بتوافر نفوذ سياسي قوي لا تملكه سوى قوة كبرى تحمي مصالح
الشركات البترولية العاملة هناك وسط الخلافات السياسية والقانونية بين دول القوقاز
وبحر قزوين.
ولو أن الحملة العسكرية الحالية نجحت في تثبيت الوجود الأمريكي في آسيا
الوسطى، فمن شأنه هيمنة الولايات المتحدة على خروج النفط من هذه المنطقة إلى
العالم الخارجي، ثم إن الوجود الأمريكي سوف يهيمن على البديل الآسيوي لمسار
الغاز من القوقاز وبحر قزوين إلى الصين، ويقلب بذلك الحسابات الاقتصادية
الصينية بالنسبة لخطتها التنموية.
٣ - احتواء الصين:
بدأ أكبر شرخ في العلاقة الصينية الأمريكية سنة ١٩٩٦م بإلغاء اتفاق البلدين
على قيام الاتحاد السلمي بين الصين وتايوان وفق مبدأ بلد واحد في نظامين. ومع
تنامي معارضة تايوان للاتحاد أصبحت الصين أكثر ميلاً لاستخدام القوة العسكرية
خصوصاً بعد أن اعتمدت الولايات المتحدة برنامج مبيعات سلاح متطور تقنياً
لتايوان في الوقت الذي تعلن فيه أنها مع إعادة الوحدة سلمياً! مما أفسد المكاسب
التكتيكية الصينية في مضيق تايوان. ومن أحدث التطورات احتمال توسيع أمريكا
لبرنامج الدفاع الصاروخي ليشمل تايوان، وبدء الصين مقاومة التحالف العسكري
الجديد الذي يهدد مصالحها في شرق آسيا. وفي حين كانت الصين وأمريكا تحاولان
حل المشكلات النووية في كوريا الشمالية وجنوب آسيا كان نظام الدفاع الصاروخي
الأمريكي يركز على احتواء الصين بعد زوال الخطر التقليدي السوفييتي نهائياً،
ولم تعد هناك قوة عظمى تستطيع أن تحل محله سوى الصين.
أدرك الصينيون ذلك بوضوح أكبر من السابق، ودفعهم طموحهم أن تكون
دولتهم قوة إقليمية إلى مقاومة محاولة السيطرة الأمريكية التي تقضي على عزمهم
في بناء عالم متعدد الأقطاب. وقام القادة الصينيون منذ منتصف ١٩٩٦م بالتأكيد
على أن الصناعات الدفاعية لديهم ضيقت الفجوة التكنولوجية مع الغرب، وجعلتها
في وضع مواز لأعلى المستويات في العالم.
وهذا ما دفع وزارة الخارجية الأميركية والبنتاغون إلى إلغاء بيع التكنولوجيا
العالية إلى الصين. وكان الصينيون في الوقت نفسه مدركين أن الصناعات
العسكرية الأمريكية لا تستطيع الاعتماد على البنتاغون لشراء كل إنتاجها،
وصارت ذات مصلحة كبرى في سوق السلاح الصينية المتوسعة.
بدأ رد الفعل الصيني على الضغط الأمريكي بلعب ورقة السوق الصينية،
فتوجه الزعماء الصينيون إلى أوروبا وصناعاتها الدفاعية في الوقت الذي شجعوا
الصناعات الدفاعية الأمريكية للضغط لتغيير موقف واشنطن تجاه هذا الموضوع،
وإن كان احتمال النجاح في ذلك ضعيفاً. ثم لجأت الصين إلى إسرائيل، فعقدت
معها صفقة لتحديث صواريخ بتقنيات أمريكية متقدمة؛ مما أغضب واشنطن؛
فعنفت تل أبيب على تسريبها بعض أسرار سلاحها الذي قد يستخدم ضد حليفتها
تايوان، وهذا ما أثبتته الأحداث اليوم.
وجاءت حادثة طائرة التجسس الأمريكية لتشعل حرب المعلومات بين الصين
وأمريكا.
٤ - وقف المد الإسلامي في وسط آسيا:
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أضحى الإسلام العدو الأول لأمريكا والغرب،
والمتتبع للدراسات المنشورة والمعبرة عن مفكري الغرب أمثال فوكوياما
وهنتنجتون يلحظ أن تلك المسألة باتت تسيطر على عقلية الغرب؛ وهذا الموضوع
ليس جديدًا ولكنه منذ قرون طويلة وهو يستعر في نفسية الغربي حتى إن مصطلح
الحروب الصليبية الذي أطلقه بوش مؤخراً واصفاً حملته على أفغانستان، وكذلك
تصريحات رئيس وزراء إيطاليا بريلسكوني تدخل في هذا السياق.
والتحذير من الإسلام السياسي في منطقة آسيا الوسطى جاء في الدراسة
المنشورة بقلم شيرين أكنر بمجلة هارفارد الأمريكية للشؤون الدولية في عدد ربيع
عام ٢٠٠٠م يصف الاتجاه إلى الإسلام في جمهوريات آسيا الوسطى: أنه يشمل
حركة مترامية وفضفاضة تضم عديداً من دعاة التجديد والإصلاح، ومنهم من تتمثل
مقولاته وطروحاته في العودة إلى الجذور النقية الأولى للعقيدة الإسلامية، وفي هذا
الإطار لا يتورع هؤلاء الدعاة عن توجيه النقد إلى الحكومات وسياساتها، بل عن
أن يرشقوا بألسنة حداد أحياناً بعض قادة المؤسسات الدينية؛ إذ يتهمونهم بالفراغ
الروحي وربما التواطؤ مع الساسة والنخب الحاكمة. وعندنا أن رصد ومتابعة هذه
الجماعات أمر مطلوب علمياً وأكاديمياً وسياسياً من أجل فهم دعواتهم واستباق ما قد
تسفر عنه هذه الدعوات، وبعضها مقبول ومفهوم، وبعضها الآخر متشدد إلى حد
منذر بأخطار التطرف والغلو في تشكيل مصائر الشعوب المسلمة في آسيا الوسطى؛
فمن هؤلاء من يبشرون بالإسلام النقي الخالص الذي يتخذ إطاره المرجعي في
حقبة الراشدين رضوان الله عليهم، ومنهم من يتبنى دعوة إحياء الخلافة بوصفها
مؤسسة سياسية، ومنهم من يرفض استخدام العنف سبيلاً لإقامة النظام الإسلامي
الذي ينشده.
ويلاحظ أن تواجد أمريكا في آسيا الوسطى من خلال القواعد التي وفرتها لها
حكومات هذه الدول أتاح لها احتواء المد الإسلامي ليس في هذه الجمهوريات فقط
ولكن في أفغانستان وباكستان كذلك.
ويجب علينا ملاحظة مدى خطورة هذه الدراسات وأثرها الكبير في صناعة
القرار السياسي الأمريكي.
هذه الأهداف الاستراتيجية الأربعة كانت أهم ملامح المصالح الأمريكية في
آسيا الوسطى، ولتحقيق تلك الاستراتيجية اعتمد الرئيس الأسبق بوش الأب على
التحالفات الثنائية التي كانت قائمة آنذاك.
واستندت هذه الرؤية وفق دراسات كثيرة ومتنوعة إلى فرضية مفادها أن
أفضل بنية أمنية للمنطقة تتألف من تكوين يشبه المروحة قاعدته في أمريكا الشمالية
وتمتد أذرعه غرباً عبر المحيط الهادي إلى شركاء الولايات المتحدة في منطقة آسيا -
المحيط الهادي.
وقد أكدت إدارة كلينتون حينها على التحالفات الأمنية القائمة رغم ذلك،
ودعت إلى إيجاد آلية جديدة ذات طبيعة متعددة الأطراف لدعم الترتيبات الأمريكية
الثنائية عند التعامل مع المشاكل الأمنية القائمة والمحتملة؛ حيث كان ذلك واضحاً
في سياسة كلينتون الذي قال: «إن التحدي الذي يواجه منطقة آسيا في هذا العقد
يتمثل في وضع ترتيبات جديدة متعددة الأطراف لمواجهة التهديدات المتعددة
والظروف المختلفة، وهذه الترتيبات تعمل كصفائح الدروع الواقية المتداخلة بعضها
بعض؛ إذ يوفر كل منها الحماية المنفردة لكل دولة على حدة، ثم تتكامل معاً لحماية
الجسد بكامله ضد التهديدات الأمنية المشتركة التي تواجهنا. يجب أن تتحول
التهديدات الأمنية التي تواجهنا إلى تهديدات تشاركنا بها آسيا. إن المصيرين ينبغي
أن يرتبطا معاً؛ هذه استراتيجيتنا» ، إلا أن وجود هذه المنظمات أو الترتيبات بدأ
يقلق الولايات المتحدة عندما أوشكت أن توجه طاقاتها للاستفادة من اقتصادها ودفع
القوات الأمريكية ومصالحها بعيداً عن المنطقة.
فما الذي أثار قلق واشنطن بعد أن كانت سياساتها الهادفة تدمجها تدريجياً في
التشكيلات الآسيوية؟
ظهور التحالفات والاتفاقيات الاقتصادية الجديدة كان له الأثر في التعجيل
بالوجود الأمريكي المكثف في المنطقة وتغيير منهجها في تنفيذ استراتيجيتها من
سياسة الخطوة خطوة إلى سياسة الاقتحام.
كان أولاً التحالف الاقتصادي التجاري الـ «آسيوي روسي إسلامي» على
طريق الحرير الجديد، وهو مشروع طموح لربط البنى التحتية للنقل والطاقة بين
دول القارتين: أوروبا وآسيا.
ثم وقعت روسيا والصين معاهدة الصداقة الاستراتيجية قبل أشهر معدودة؛
حيث هدفت إلى تقوية التعاون السياسي والاقتصادي بين الدولتين في مجالات النقل
والطاقة والتجارة والتبادل التكنولوجي والتسليحي خلال العشرين سنة المقبلة.
وكانت كل من الهند وروسيا قد أسستا في ١٥ مايو الماضي «اتحاد النقل
الأورو آسيوي» ، وهي اتفاقية ترانزيت تجارية لنقل البضائع، ويعني فتح ممر
تجاري بين آسيا وأوروبا يختصر مدة نقل البضائع بمقدار الثلث، وفي الوقت نفسه
تقوية التحالف الإيراني الدولي؛ يضاف إلى ذلك تأسيس منظمة شانغهاي للتعاون
في يونيو الماضي.
وعلاقات الدول حول بحر قزوين أو وسط آسيا بدول آسيا المحيطة متشابكة
ومعقدة لتعقد المصالح وتشابكها، وقد غيرت فترة ما بعد الحرب الباردة طبيعة هذه
العلاقات مثلما تغيرت التحالفات الاقليمية.
ولذلك رأت أمريكا ضرورة التدخل العسكري مباشرة في هذه المنطقة.
ويلاحظ أن قرار التدخل جاء منذ مدة طويلة ولكن كان في انتظار الظروف
المناسبة؛ حيث جاءت عمليات تفجيرات ١١ سبتمبر مسوِّغاً للتدخل المنتظر.
روسيا:
لا تزال روسيا تميل إلى بسط هيمنتها على دول ما يعرف بالاتحاد السوفييتي
السابق وبالذات منطقة آسيا الوسطى؛ وذلك من خلال منظور استراتيجي قائم على
عدة ركائز أهمها:
* الأمن القومي الروسي؛ حيث يعد علماء الاستراتيجية منطقة آسيا الوسطى
بمثابة البطن لروسيا.
* تخشى روسيا من خطورة امتداد النزاعات داخل هذه الجمهوريات إليها.
* الدفاع عن مصالح الأقليات الروسية الكبيرة العدد داخل هذه الجمهوريات.
مارست روسيا شتى الضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية لجعل هذه
الدول تدور في فلكها ولا تبتعد عن سياساتها؛ وفي هذا الصدد نشرت صحيفة
«إزفستيا» الروسية وثيقة صادرة عن هيئة الشؤون الدولية لمجلس السوفييت
الأعلى جاء فيها: «بصفته وصياً معترفاً به دولياًً على الاتحاد السوفييتي السابق،
ينبغي على الاتحاد الروسي أن يستند إلى مبدأ يقوم على أساس إعلان المجال
الجيوسياسي للاتحاد السوفييتي بأسره دائرة نفوذ حيوية، وينبغي على روسيا أن
تحصل من المجتمع الدولي على الاعتراف بدورها الضامن للاستقرار السياسي
والعسكري في أراضي الاتحاد السوفييتي السابق. ومن المناسب الحصول من
بلدان» مجموعة السبع «على المساعدة للقيام بهذه المهمة، وحتى لتمويل قوات
التدخل الروسية» .
لقد تعامل الروس مع هذه المنطقة في مرحلتين: الأولى كانت تقوم على
الاعتماد على روسيا وحدها في فرض الهيمنة والبروز بدور شرطي المنطقة التي
يضبط إيقاعها، وقد سلمت الولايات المتحدة لروسيا بهذا الدور وخاصة في عهد
بوش الأب وكلينتون؛ حيث أثبتت السياسات الروسية حينئذ نجاعتها؛ حيث تمكنت
من بسط هيمنتها على طاجيكستان وجورجيا وباتت روسيا البيضاء محمية طبيعية
للروس، ولكن مع بروز العامل الإسلامي بوضوح والتأثير الكبير لطالبان على
المنطقة، وعجز روسيا وحليفاتها من المعارضة الشمالية الأفغانية على بسط هيمنتها
على أفغانستان مفتاح استقرار المنطقة ومنذ عدة سنوات كشفت الصحيفة الروسية
«روسيا» عن وجود تقرير أعدته المخابرات الألمانية لا يستبعد أن يتورط الكرملين
في حرب قد تشتعل في جمهوريات آسيا الوسطى السوفيتية سابقاً بعد أن تقوم
جماعات مسلحة بغزو أوزبكستان وطاجيكستان وقرغيزيا. وتشير الجريدة إلى أن
خبراء جهاز المخابرات الألمانية يتكهنون بأن تغزو هذه الجماعات منطقة آسيا
الوسطى في الربيع المقبل ويقدرون عدد المهاجمين بـ ٢ إلى ٣ آلاف شخص.
والهدف من الغزو المرتقب وفقاً لتقرير المخابرات الألمانية والذي سوف تسانده
حركة طالبان الأفغانية هو إقامة الخلافة في المنطقة؛ ولهذا لن تجد روسيا مفراً من
الدخول في المعارك.
وتابعت الصحيفة الروسية قولها: إن وزير الخارجية الألماني (يوشكا فيشر)
أثناء زيارته الأخيرة لروسيا أبلغ القيادة الروسية بتقرير الاستخبارات الألمانية؛
وأعرب عن قلقه من الوضع في آسيا الوسطى. ويرى الخبراء الألمان أن القوات
الروسية الموجودة في آسيا الوسطى حالياً لا تستطيع صد غزو المجموعات المسلحة
ولا بد لها من جلب المزيد من قواتها. كما تشير الاستخبارات الألمانية إلى
صعوبة محاربة الغزاة في هذه المنطقة لكونها منطقة جبلية لا يمكن استخدام الأسلحة
الثقيلة فيها.
لقد ظهر جلياً للغرب العجز الروسي عن صد الأخطار المحدقة بآسيا الوسطى؛
وبذلك بدأت روسيا تدخل المرحلة الثانية وهي الدخول في المظلة الأمريكية على
وسط آسيا مع حفظ مصالحها في المنطقة، ويبدو أن هناك صفقة بين أمريكا
وروسيا تحصل روسيا بمقتضاها على منطقة القوقاز تاركة آسيا الوسطى للولايات
المتحدة بالإضافة إلى المكاسب الاقتصادية الناشئة مع هذا التحالف، وتخفيف ديونها
المتراكمة، واحتمال انضمامها لحلف الناتو.
إيران:
نظرت إيران لمنطقة آسيا الوسطى من خلال منظورين:
منظور اقتصادي يرمي إلى استغلال ثروات المنطقة بشتى الوسائل؛ فقد
اقترحت إيران مد خطوط سكك حديدية وطرق مواصلات ووسائل اتصال بينها
وبين الجمهوريات الداخلية في آسيا الوسطى، وصولاً إلى ربطها بمياه الخليج،
ومن ثم المياه الدولية الحرة. وقد تجسد هذا العرض في اتفاقية وقعت في ديسمبر
١٩٩١ تلتها اتفاقية أخرى بين إيران وروسيا لإنهاء القيود الحدودية بين إيران وتلك
الجمهوريات. كذلك تحدث مسؤولون إيرانيون عن إنشاء سوق اقتصادية مشتركة
تتطور في مرحلة لاحقة إلى توحيد الأهداف السياسية فيما بين هذه الدول، وأشاروا
إلى التكامل فيما بين دول الإقليم دون الإيحاء بأن هذا يتضمن إنشاء سلطة إقليمية
فوق الدول. وقد دفعت إيران في هذا الاتجاه من خلال ضمن قنوات أخرى منظمة
التعاون الاقتصادي التي كانت إيران قد أسستها مع تركيا وباكستان من قبل؛ فعقب
انضمام أفغانستان لهذه المنظمة سرعان ما لحقت بها الجمهوريات المسلمة في آسيا
الوسطى وأذربيجان في نوفمبر ١٩٩٢م، إلا أن إيران نسقت فيما بعد مع باكستان
سياسات البلدين تجاه جمهوريات آسيا الوسطى؛ وخاصة الأسواق والاستثمارات
هناك، في وجه المنافسة التركية. ورغم ظروفها الاقتصادية الصعبة وتعثر تنفيذ
مشروع مد خط الغاز الطبيعي التركماني ما زالت إيران تمتلك موارد كافية لتقديم
بعض أشكال الدعم لشركائها الجدد في منظمة التعاون الاقتصادي.
ولكن العقبة الكأداء بالنسبة لإيران هو نفط بحر قزوين؛ حيث تسعى إيران
إلى امتلاك الجزء الكبير منه أو على الأقل مروره عبر أراضيها.
أما المنظور الثاني فهو منظور مذهبي يرمي إلى نشر المذهب الرافضي في
هذه الجمهوريات، ولم تتردد إيران في المساعدة في بناء مساجد ومدارس دينية
شيعية في مختلف الجمهوريات المسلمة في الإقليم، وبدأت في توجيه إرسال إذاعي
موجه لهذه الجمهوريات.
وبحلول نهاية ١٩٩٢م، نجحت إيران في إنشاء تجمع ثقافي للدول الناطقة
بالفارسية، (إيران، أفغانستان وطاجيكستان) . ونظمت إيران لاحقاً مؤتمراً حول
التقاليد اللغوية والأدبية الفارسية ودعت إليه الجمهوريات المسلمة المستقلة في آسيا
الوسطى وبحر قزوين.
ويجب أن نذكر هنا عقد الحكومة الإيرانية بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة
للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) مؤتمراً حول التعاون الثقافي والتربوي والعلمي
مع جمهوريات آسيا الوسطى في نوفمبر ١٩٩٢م، مع التركيز على اللغة الفارسية
والثقافة الإيرانية باعتبارها روابط إقليمية. وقد ركز المسؤولون الإيرانيون الذين
خاطبوا المؤتمر على مركزية دور الإسلام الرافضي في علاقة بلادهم مع دول
الإقليم؛ حيث إن العامل الديني يحمل في طياته عنصري التاريخ والثقافة. وقد دعا
أولئك المسؤولون بمن فيهم وزير الخارجية د. علي أكبر ولاياتي إلى إحياء الهوية
الأصيلة لشعوب الإقليم؛ وتعزيز التعاون الإقليمي والأمن الجماعي من خلال إقامة
إطار مؤسسي للتعاون الاقتصادي والسياسي والعلمي والثقافي الذى سيكون معادياً
للهيمنة ويجمع بين خصوصية احتياجات كل دولة والمصالح المشتركة فيما بين دول
الإقليم. وقد أشار الدكتور ولاياتي إلى الدوافع العرقية، والثقافية، التاريخية
والدينية للدور الإيراني في آسيا الوسطى وبحر قزوين مؤكداً على الانسجام الثقافي
في ضوء الإرث الرافضي والثقافة الإيرانية واللغة الفارسية بوصفها سبلاً لتحقيق
الاستقلال السياسي وتأكيده.
ولذلك تقوم استراتيجية إيران للحفاظ على هذه المصالح على التحالف مع
روسيا، وتشديد التعاون معها لتكون من خلالها جسراً إلى هذه الجمهوريات،
فشجبت أعمال المجاهدين في الشيشان وطاجيكستان وغيرهم من الجماعات الجهادية
داخل هذه الجمهوريات. يقول أحد زعماء حركة النهضة الإسلامية الطاجيكية:
«سمعت كثيراً عن تورط إيران في حركة الإسلام السياسي في آسيا الوسطى؛
ولكنني لم أعثر على أي علامة أو أثر مع الأسف؛ إن إيران ترفض عموماً التدخل
في شؤون آسيا الوسطى» .
وفي بداية الحرب الأمريكية على الشعب الأفغاني تخوفت إيران من مقدم
القوات الأمريكية وتأثيرها على مصالحها في المنطقة، ولكن يبدو أن الإدارة
الأمريكية قد طمأنت إيران لتشركها في اللعبة القادمة في آسيا الوسطى طرفاً معترفاً
به له دور إقليمي في الترتيبات التي ستتم في المنطقة على غرار الدور الروسي؛
وهذا ما ستكشفه الأيام القادمة.