البيان الأدبي
عذراً ... أبي!
د. حمدي شعيب
أفقتُ على صرخات الإمام، أرى المنبر يرتجُّ أسفل منه، اختلطت كلماته،
تاهت صيحاته، وامتزجت بأصوات الباعة خارج المسجد، عجوزٌ بجواري يغط
في نوم عميق، فيميل على جاره، يهزه الجار بعنف، لقد قطع عليه حبل أفكاره،
فبعد الصلاة هو على موعد مع سامي بك خارج المسجد، ليساعده في الحصول
على ترخيص تزويد عمارته الجديدة بالكهرباء. طفلٌ أمامي يعبث بشعر والده،
شابٌّ خلفي يعاتب صديقه: لِمَ تخلفت عن سهرتنا أمس؟ ! !
ما زال الإمام يصيح:
أيها الناس! أولادَكم، أولادَكم!
«أعينوا أولادكم على البر، بالإحسان إليهم، وعدم التضييق عليهم،
والتسوية بينهم في العطية، من شاء استخرج العقوق من ولده» [١] .
إيهِ أيها الشيخ! هدير صيحاتك لا يجد مكاناً، توجيهاتك لا يصغي لها أحدٌ.
ازدواجية شائهة، فصامٌ شاذ، انفصالٌ غريب بين القول والعمل، بين ما تنادي
به وما هو واقع، بين دموعنا داخل المسجد وحياتنا خارجه! ؟
ما زال هدير الإمام يهز أركان المسجد، ويزلزل جنباته، ولا يتعدى جدرانه؛
هذا هو المسموح!
وما زالت صيحات الباعة تهتز لها أركان المدينة، بل أركان الدنيا كلها، بما
فيها المسجد!
صراعٌ سرمدي، تدافعٌ أبدي، معركة خالدة.
زاغت عيناي، لم تعد تتبين موقع ذلك الهدير، تزاحمت خواطري، لم أعد
أشعر بصرخات الشيخ المسكين، التفتُّ إلى مروحة في سقف المسجد، فدارت معها
أفكاري!
سنواتٌ بعيدة في عمق التاريخ، محطات كثيرة، شقت أخاديد في طريق
حياتي، آلمتني، أعاقت مسيرة حياتي، سأقف عند بعضها، أو عند أهمها، لقد
نشأت في أسرة كثيرة العدد، متوسطة الحال، كنت خامسهم، ورابعنا كان من
نصيبه بل من نصيبنا جميعاً أن يكون ولداً، بعد ثلاث بنات، فاستحوذ على
النصيب الأعظم من الاهتمام الأسري، ومن الرعاية والمحاباة الأبوية، مالت به
كفة الحنان والحب، حتى أثارت حفيظتنا جميعاً. فالحق ما يراه ماهر، والصواب
ما يدلي به ماهر، والخير ما يأتي به ماهر!
حاول بعضنا النصيحة، فكان من نصيبه الزجر، والاتهام بعدم تقدير
المسؤولية، بل وعدم البصيرة!
ذات يوم حاولت أمي القيام بدورها التقويمي، ومسؤوليتها التصحيحية:
أبا ماهر! حذار من هذا الميل الزائد، والاهتمام الملموس، بل والمحاباة، والدعم
لماهر، ولرغبات ماهر، ولآراء ماهر، يا رجل لا تنس أن له سبعة إخوة آخرين
يحتاجون إلى برك وعطفك. يا رجل اعدل! أبا ماهر حذار أن ... !
قاطعها أبي صائحاً فيها:
أم ماهر ... لا أريد فتح هذا الموضوع.
سكتت أمي على مضض.
تزوج ماهر، فزاد الطين بلة؛ حيث كثرت زيارات أبي له دون إخوتي!
ذات يوم سمعت عمي يحادثه في هذا الأمر:
أبا ماهر أليس لك من الأولاد سوى ماهر لتزوره؟ ! !
رد عليه أبي:
يا أخي كما يقولون في المثل: (الرِّجْل تدب إلى ما تحب) .
ابتلعت هذا الرد الغريب. لم أشأ أن أريهما نفسي. توقفت برهة، تنازعتني
صراعات نفسية كثيرة، شعرت بالضيق، أحسست بألم رهيب يعتصرني، ظلامٌ
مركب يهاجمني، ظلام الليل، وظلام غياب العدل، وظلام تلك الأمثال البغيضة
وآثارها. ظلمات بعضها فوق بعض.
تسللت كالقطا إلى صومعتي؛ إلى حجرتي الصغيرة.
صورة إخوة يوسف عليه السلام وهم يرفعون راية التمرد لم تفارق مخيلتي،
لم أكن أتصور أن يتهم نبي كريم، بهذا الاتهام الرهيب [إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ]
(يوسف: ٨) هربتُ من أفكاري، إلى مكتبتي، قلَّبتُ محتوياتها، وقعت
عيناي على إحدى روايات (شكسبير) ، على لسان (الملك لير) ، يقول كلمات
حفرتها في ذاكرتي تجربة صعبة:
(ليس أشد إيلاماً من ناب حية رقطاء غير ابن جحود!
ولكن.. كيف بالله يشكر الأبناء ما لم نعودهم نحن الشكر؟ !
إن الجحود فطر، مثله مثل الأعشاب الفطرية.
والشكر كالزهرة لا ينبتها إلا الري والسقيا.
فإذا لم نعوِّد أبناءنا إجزال الشكر للآخرين، فكيف ننتظر منهم أن يشكرونا
نحن؟ !) .
ألقيتُ بالرواية جانباً سقطت من بين الكتب ورقة، كنت قد أهملتها أسابيع
عدة. عقد عمل أرسله لي صديق يعمل بالخارج. لم تعد هناك مقاومة أو حجة
لرفض هذا الصيد الثمين.
فرصةٌ لتحقيق بعض خططي المستقبلية، أقصد للهروب، والانسحاب من
هذا الواقع!
سافرتُ، ولم تسافر أفكاري، ظلت مرتبطة بالماضي، وآثاره وآلامه.
كنتُ على البعد تأتيني رسائل إخوتي، ولكن لم تزل الأحوال كما هي.
حتى جاء يوم كئيب، برسالة كئيبة، أحضر حالاً، والداك في حالة خطرة،
أثر حادث أليم.
حملتُ حقائبي، وعدتُ في أقرب رحلة.
رجعتُ وكلي أمل.
لكن.. فات الأوان، وجدت الجميع ينتظرني، إخوتي المساكين، أحاطوني
بالحب، فأحطتهم بالحنان.
شد عمي على يدي، أنت الآن رجل الأسرة، أخوك المدلل ماهر لا خير فيه،
بعد صلاة الجمعة سنذهب لزيارة قبر والديك! ؟ ؟
ما زال الإمام يصيح ويهدر.
ولم تزل أصوات الباعة، كل الباعة، تعلو، وتحاصر كلماته، وتصارع
صيحاته، لتظل حبيسة جدران المسجد.
سكت الصياح، وانتهت الصلاة.
خرجت مع الناس، بعد أن فتحت أبواب المسجد، أبواب كثيرة للمسجد،
ومشارب كثيرة للناس، سبحان من وفق وجمع!
على قبر أمي بكيتُ كثيراً.
بكيتُ الحنان الذي لا يعرف تفرقة، الدفء الذي يكفي الجميع، يكفي العالم.
بكيتُ صاحبة المحاولات التوفيقية، والمبادرات التصحيحية.
بكيتُ الود الذي لا يعرف قيداً، الأمل الذي انطفأ! النور الذي خبا!
بكيتُ الشمعة التي حاصرتها كتائب الضباب، فلم تقوَ على المقاومة.
على بعد خطوات يرقد أبي.
رجلاي لا تكادان تحملاني.
صورة إخوة يوسف عليه السلام تحاصرني، كلمات (الملك لير) تصم أذني
أردتُ أن أزور قبر والدي، فلم تطاوعني قدماي.
عذراً ... أبي، لقد تذكرت بعض ما علمتنيه:
(الرِّجْلُ تدب إلى ما تحب) .
أحس عمي بتثاقل قدميَّ
أخذ بيدي إلى قبر والدي
وهو يتلو قوله تعالى: [وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً] (العنكبوت: ٨) .
(١) رواه الطبراني في الأوسط.