للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

[عالم جديد.. عالم قديم]

شريعة الغاب

د. محمد مورو [*]

بعد اندلاع العدوان الأمريكي على العراق، وتعرض المدن العراقية لكمية

هائلة جداً من القنابل والصواريخ، وأسلحة الدمار الشامل الأمريكية، بدأت كل

المسائل تصل إلى حافتها؛ فكثير من الأمور والمعاني قد سقطت وأخرى حلت

محلها، ويجب في كل الأحوال، ومهما كانت مرارة النتائج، وأياً كانت نتيجة

الحرب الجائرة أن نتعرف أن عالماً جديداً قديماً قد تشكل بالفعل وانتهى الأمر،

وعلينا مواجهة قواعد وآليات هذا العالم الجديد القديم!! وليس هناك مناص من ذلك.

اندلع العدوان الأمريكي الإنجليزي الأسترالي، بدون أخذ موافقة مجلس الأمن،

أي خارج ما يسمونه بالشرعية الدولية ... وهذا لا يعني أن شرعيتهم الدولية

كانت عادلة مثلاً أو أنها كانت تحمي حقوق الشعب؛ لأن تركيبة مجلس الأمن أصلاً

سمحت بالنفوذ والسيطرة لعدد محدود من الدول الكبرى، أي تعكس علاقات القوى

بينها على حساب الآخرين أو لصالحهم على حسب الظروف وليس وفقاً للحق

والعدل، ولكن رغم ذلك، فإن العدالة الجوهرية والشكلية أيضاً تم تجاهلها. وهكذا

سقط عملياً الشكل الباقي من تلك الشرعية المزعومة، وأصبحنا مباشرة أمام قانون

الغاب، ليس على مستوى المضمون فقط كما كان يحدث عادة ولكن على مستوى

الشكل أيضاً، أي أن أمريكا أعلنت مباشرة وبدون لف ولا دوران نهاية مجلس

الأمن ونهاية المنظمة الدولية، وأن الحق لا يدور مع العدل بل كل شيء يدور مع

«التوماهوك والكروز والبي ٥٢» .

وحتى بعد أن وقع العدوان بالفعل، وسقطت الصواريخ على المدنيين، لم

يتحرك مجلس الأمن لإصدار قرار بالإدانة حتى لو تعرض للفيتو الأمريكي وجاء

كلام كوفي عنان، ليكرس حقيقة غياب العدل والحق والجوهر والشكل في المنظومة

الدولية، فاكتفى بكلام غير واضح ولا محدد ولا مفيد وهو أمر مؤسف جداً بالطبع.

كل التحرك الذي حدث في مجلس الأمن كان بإزاء محاولة عدم ترك أمريكا

تنفرد ببترول العراق ... ومحاولة وضعه تحت إشراف دولي أي تقسيم الكعكة

وليس معاقبة المعتدي، أو إنقاذ شعب العراق ومقدرات العراق ومرافق العراق التي

تتعرض للتدمير بلا هوادة.

بالطبع يوجد تميز في الموقف الفرنسي والروسي والألماني، ولكن علينا ألا

نعوّل بعد الآن على مجلس الأمن أو الأمم المتحدة، وأن نبحث لأنفسنا عن أطر

أكثر فاعلية أو أقل خداعاً!! وإذا كان العالم ينقسم من جديد ... فإن الخطر كل

الخطر أن يتم تحييد موقف الدول المعارضة لأمريكا بالتلويح بشيء من الكعكة، أو

تجاهلها كما هو متوقع وهذا أو ذاك مختلف طبعاً على مستوى إدارة صراع

صهيوني سياسي واقتصادي وعسكري «مقاومة» ضد النظام العالمي الفاسد

والمجرم والمعتوه.

أسقطت الحرب ما يقال عن وجود ديمقراطية في البلدان الغربية عموماً،

وأمريكا وبريطانيا وأستراليا خصوصاً. بالنسبة لبلد مثل بريطانيا؛ فإن أغلبية

الشعب الإنجليزي ضد الحرب في بداية الأمر، وكل استطلاعات الرأي تقول إن

أقل من ٣٥% هم الذين يؤيدون الحرب، تراوحت استطلاعات الرأي حول ٢٣% -

٣٥%، أي أن أغلبية الشعب الإنجليزي كان يعارض الحرب، وكذا فإن

المظاهرات التي اندلعت في كل مكان تؤكد ذلك ووصل بعضها إلى المليون،

واندلعت مظاهرات في كل المدن تقريباً في اليوم التالي على الحرب، ومع هذا

فاستناد توني بلير إلى تصويت البرلمان الذي صوت عدد من أعضاء حزب العمال

نفسه ضد الحرب، اعتمد على أصوات المحافظين. المهم أن هذا يعني أن هناك

خللاً بنيوياً في موضوع الديمقراطية؛ فكيف يصوت البرلمان على عكس رغبة

أغلبية الشعب؟ الأمر نفسه حدث في أسبانيا، فمؤيدو الحرب من الشعب الأسباني

لم يصل عددهم إلى ١٢%، ومع ذلك سارت الحكومة الأسبانية على عكس إرادة

الشعب مؤيدة للحرب ولأمريكا، وهو ما يمكن أن يقال أيضاً بالنسبة لأستراليا.

من الملاحظ أن الذين شاركوا في العدوان بجنودهم، هم الأمريكيون

والبريطانيون، والأستراليون «وكلهم أنجلو سكسون» !! فهل لهذا معنى مباشر

أو غير مباشر؟ من المعروف أن هناك نظاماً أمنياً خاصاً بالدول الأنجلوساكسونية

يسمى نظام «أتشيلون» . وهل هذه المسألة لها علاقة بموضوع صراع الأعراق

والحضارات المتوقع في عالم جديد ... قديم؟!

نلاحظ أيضاً أننا بإزاء عودة لنظام الاستعمار القديم، كما كان يحدث في

القرن التاسع عشر؛ فهل كل الإنجازات التي حققتها البشرية في حروب التحرير

الوطنية وتصفية الاستعمار كانت وهماً أو خدعة؟! أم أن آلة الغرور والقوة

الأمريكية أطاحت بكل هذا في لحظة واحدة، وأن علينا العودة من جديد إلى قيم

وأفكار وثقافات حروب التحرير الشعبية ومناهضة الاستعمار؟ وهل يمكن تحقيق

هذا في ظل العولمة والإنترنت والأقمار الصناعية، والصواريخ الذكية؟ هل

سيكون الأمر في ظروف أفضل من الحالة الأولى، أم أسوأ؟!

على كل حال الأمر يحتاج لمناقشة. وبصورة أولية؛ فإن تسارع وسائل

الاتصال وانتشارها يعني قدراً من الإيجابية لحركات التحرر، التي ستصبح أكثر

ارتباطاً وتأثيراً، ولكنها تعني في الوقت نفسه أنها أمام قوة عسكرية واستخباراتية

هائلة ولا تحمل أي قدر من الأخلاق، أي أنها ستمارس قمعاً وحشياً ضد أي شكل

من أشكال المقاومة، والمسألة تقتضي بالضرورة التمسك بخيار المقاومة واكتشاف

أشكال مبدعة وغير تقليدية لها، وإلا فإن الكرامة والمصالح ستضيعان معاً، ليس

بالنسبة لمصر أو العراق أو المسلمين، بل للعالم كله، وكذلك ينبغي البحث عن

جزء إنساني مشترك غير طبقي ولا وطني لممارسة هذا النضال العالمي ضد

الاستكبار الأمريكي، بدون تجاهل الدوافع القومية والدينية والوطنية المؤثرة

والفاعلة والمحرضة على المقاومة.

سوف تنقسم القوى إلى معسكرين: معسكر تابع وعميل قليل العدد يبشر

بالخضوع للأمريكان والانخراط في المنظومة ثقافياً وسياسياً وعسكرياً، على أساس

أنه لا طريق هناك للمواجهة لعدم تكافؤ القوى، أو لأن أفكار المقاومة غير صحيحة

أصلاً، أو لأن الأمريكان وما يملكونه هو التحضر والعصرنة. ومشكلة هؤلاء أنه

حتى بصرف النظر عن الكرامة المهدرة، أو الهوية والقيمة الدفينة أو كل شيء،

فإن هذا غير متاح؛ لأن الأمريكان لن يقبلوا إلا بعدد قليل ينخرط معهم في العملية

مقابل الفتات، أما آلاف الملايين من البشر فقد أصبحوا عالة ينبغي التخلص منهم

بالموت بالجوع أو الفقر أو الصراعات أو الأوبئة أو التعقيم الإجباري أو غيرها من

الوسائل!!

أما المعسكر الثاني فيراهن على الإيمان والصبر، وأن أمريكا القوية اليوم لن

تظل هكذا إلى الأبد، وأن المقاومة مهما كانت صغيرة وضعيفة اليوم سوف تقاتل

المارد الأمريكي كما أكل النمل عصا سليمان مع الفارق في التشبيه طبعاً.

الحرب الجائرة على العراق، وأياً كانت نتائجها، كشفت كذب الأمريكان؛

فهم ادعوا أن قنابلهم ذكية تصيب أهدافها بدقة، وثبت أنها لم تصب المواقع

العسكرية بقدر ما أصابت المدنيين، ولم تكن دقيقة لدرجة أن عدداً منها قد سقط في

مدينة عبدان بإيران وأخرى بالسعودية، بل في الكويت أيضاً، وهكذا فإن الحديث

عن حرب نظيفة، ومع تساقط عدد هائل من الضحايا المدنيين، أصبح حديث

خرافة؛ فالحرب هي الحرب مهما كانت درجة التكنولوجيا المستخدمة، ضحاياها

أساساً من المدنيين.

أثبتت تلك الحرب أن النظام العربي حكومة ومعارضة قد أفلس تماماً ولم يعد

قادراً على الاستمرار بأي حال من الأحوال؛ فالحكومات العربية وقفت عاجزة عن

منع الحرب، بل كان موقفها أقل من موقف فرنسا وروسيا وألمانيا، وهناك

حكومات عربية ساعدت العدوان الأمريكي بالفعل، وكذلك لعبت الاستخبارات

الأمريكية على راحتها الكاملة في معظم الدول العربية، للتمهيد اللوجستي للعدوان،

وكانت كل الدول العربية بلا استثناء أقل من الحكومة التركية التي راوغت رغم

ظروف معقدة، واستطاعت أن تفوت ما أمكنها على الأمريكيين معظم مطالبهم،

ورغم خسائرها المادية والاستراتيجية الكبيرة، فهل يرجع ذلك إلى أنها حكومة

منتخبة تحترم إرادة شعبها؟!

وعلى المستوى الشعبي؛ فإن الملاحظ أنه كلما كان هناك هامش من الحرية

في إحدى الدول العربية كانت الحركة الشعبية أقوى في مناهضة العدوان والعكس

صحيح تماماً، وكذلك نلاحظ أن حركة الجماهير العفوية كانت أقوى من الأطر

السياسية المعارضة والحكومية معاً، وفي بلد مثل مصر فإن القوى السياسية

المعارضة كانت أقل في رد فعلها من الجماهير العفوية.

والحقيقة أن العدوان الأمريكي قد أوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن الحكومات

العربية أفلست، وأن المعارضة والقوى السياسية العربية أفلست أكثر منها، وأن

على الجميع أن يرفع كاهله عن الشعوب العربية، ولم يكن على مستوى الحدث إلا

الحركات الجهادية الإسلامية في فلسطين وغيرها، وما عدا ذلك فهو عبء على

الأمة وتكريس لسلبيتها وعليهم الرحيل غير مأسوف عليهم.

نعم! لقد أحرق العدوان الأمريكي مشروعية الحكومات العربية والقوى

السياسية المعارضة في وقت واحد، والأمل كل الأمل في أن يخرج من مرض

الأمة، وعلى ضوء هذا الألم الشديد والفظيع والمعاناة الهائلة التي تعانيها الأمة الآن،

أن يخرج جيل جديد قادر على اكتشاف الطريق الصحيح لانتزاع الحق في الحياة

والكرامة والمواجهة.