الإسلام لعصرنا
الأمم المتحدة.. ما حدود صلاحياتها؟ !
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
أظهرت الجلسة الأخيرة الخاصة للأمم المتحدة قضية يجدر بالدول الأعضاء -
ولا سيما الإسلامية منها - أن توليها قدراً كبيراً من العناية، لما يترتب عليها من
آثار خطيرة بعيدة المدى.
سميت الجلسة بالخاصة؛ لأنها إنما عقدت لإجازة «القرارات» التي كان
مؤتمر بالصين قد أجازها قبل خمس سنوات. ولذلك سميت الجلسة
«بيجن/٥» [*] وقد أعطيت المنظمات غير الحكومية فرصة لحضور هذه
المناسبة لمناقشة القرارات والتأثير على الممثلين الرسميين، وإن لم يؤذن إلا
للقليل جداً منهم بحضور جلسات الجمعية نفسها.
لقد كانت مقررات «بيجن» كلها متعلقة بالمرأة، وكان فيها كثير من
الاقتراحات الجيدة والمفيدة، كتلك المتعلقة برفع المعاناة عن الشعوب ولا سيما
النساء فيها، وكتلك التي تتحدث عن الجوانب السلبية للعلمنة الاقتصادية. لكن
المقررات تضمنت أيضاً دعوة إلى الإباحية الجنسية من شذوذ بين الرجال وشذوذ
بين النساء، وأن البنت لها الحرية في أن تتصل بمن تشاء وأن تتزوج من تشاء
من غير اعتبار لدين، ولا لرأي أسرة.
كنت فيمن شهد هذه الجلسة فرأيت فيها عجباً أثار في نفسي كثيراً من الآراء
والمقترحات للجماعات الإسلامية، أرجو أن أتعرض له في مناسبات أخرى. أما
الآن فيكفي أن أقول: إن معظم المنظمات غير الرسمية التي شهدت هذه الجلسة
كانت من النوع المتحمس للإباحية الجنسية والداعي لها بقوة، حتى إنك تكاد ألاَّ
تسمع صوتاً غير أصواتها، وقد بذلتْ جهداً كبيراً ومنظماً في التأثير على الممثلين
الرسميين أصحاب القرار. ولولا لطف الله تعالى ثم اعتراض بعض المنظمات
الإسلامية وكان من أهمها رابطة العالم الإسلامي والدول الإسلامية لأجيزت هذه
التوصيات الإباحية.
لكن عرض هذا الموضوع على هيئة الأمم أثار في ذهني سؤالاً مهماً انتهزت
فرصة وجودي في هيئة الأمم للتعبير عنه بين الجماعات الإسلامية، وللكتابة عنه
في نشرات رابطة العالم الإسلامي. والموضوع هو: ما حدود صلاحيات الأمم
المتحدة؟ قلت: إنه ليس من حق منظمة الأمم المتحدة أن تصدر قرارات في مسائل
تتعلق بالمعتقدات والقيم التي يختلف فيها الناس اختلافاً كبيراً. وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: إنه بما أن الدول المكونة للأمم المتحدة يختلف كثير منها ذلك الاختلاف
الكبير في المعتقدات والقيم؛ فإنه لا يمكن لهؤلاء الأعضاء أن يستمروا متعاونين
لمواجهة المشكلات التي تهمهم جميعاً إلا إذا كانوا مستعدين لأن يتعايشوا ويتحمل
بعضهم بعضاً رغم هذه الخلافات. إن التغيير في هذه المسائل الجوهرية الأصولية
لا يأتي إن أتى وسواء كان إتيانه إلى خير أو إلى شر إلا بالتدرج وبالطرق السلمية.
لكن الذي نراه الآن هو أن بعض الجماعات الغربية تريد أن تستغل المنظمات
العالمية لكي تفرض معتقداتها وقيمها على المجتمعات الأخرى. وقلت: إنني موقن
بأن بعض الدول ومنها الدول الإسلامية لن تنفذ هذه القرارات. وأن هذا سيؤدي إلى
عدم احترام قرارات الأمم المتحدة، وربما أدى في النهاية إلى إضعاف المنظمة
وعدم فعاليتها.
إننا نحن المسلمين مثلاً لا نأخذ معتقداتنا وقيمنا من الأمم المتحدة أو غيرها من
المنظمات، ولا نعدها مصدراً مشروعاً لها، وإنما نأخذها من كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم.
والغريب الذي لا يعلمه كثير من الناس أن موقف أمريكا شبيه بموقفنا
الإسلامي هذا؛ فالدستور الأمريكي والقوانين الأمريكية هي عند الأمريكان فوق كل
ما سواها من قرارات واتفاقات، فلا شيء من هذا يصير ملزماً قانوناً إلا إذا أجازته
الهيئة التشريعية، وهي لا تملك أن تجيز أمراً مخالفاً للدستور. ولذلك فإن وزيرة
الخارجية الأمريكية اعتذرت في خطابها بهيئة الأمم بهذه المناسبة بأن بلدها لم
يستطع إجازة مقررات «بيجن» بسبب معارضة بعض الشيوخ!
ونحن نضع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فوق كل قانون وكل قرار
وكل اتفاق، بل ونفسر ما نوافق عليه منها في حدود هذا القانون الأعلى [يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]
(الحجرات: ١) ، [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا]
(الحشر: ٧) .
ثانياً: إن إعلان حقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة يعطي الناس حق
الحرية الدينية؛ فماذا يبقى للناس من هذه الحرية إذا أعطت الأمم المتحدة نفسها
الحق في أن تفرض عليهم كيف يفهمون دينهم، وماذا يأخذون منه وماذا يدعون،
وإلا كانوا معرضين للعقوبات؟ إن المسلم لا يظل مسلماً إذا هو أباح ما حرم الله
تعالى، وإن من أشد المحرمات في دين الله جرائم الزنا وعمل قوم لوط. فكأن الأمم
المتحدة تطلب من المسلمين إذن أن يتخلوا عن دينهم! ! كيف يستقيم هذا مع اعتبار
الحرية الدينية حقاً من الحقوق الإنسانية التي تدافع عنها الأمم المتحدة؟
إن الدين في المفهوم الإسلامي هو منهاج الحياة الذي يختاره الناس لأنفسهم،
سواء كان هذا المنهاج قائماً على أسس من دين أنزله الله تعالى، أو كان شيئاً
اختاره الناس وتصالحوا عليه. فما يسمى بالعلمانية هو بهذا الاعتبار دين،
وقرارات «بيجن» هي أيضاً دين. فإذا فرضتها الأمم المتحدة على الشعوب تكون
قد أكرهتهم على الالتزام بدين لا يؤمنون به؛ فأين حرية الدين إذن؟
ثالثاً: ماذا يبقى للدول من سيادة قومية إذا كانت قرارات الأمم المتحدة ستكون
فوق ما تقرره الشعوب في أوطانها، حتى لو كانت قراراتها صادرة عن هيئات
تشريعية كتلك التي توجد في البلاد الغربية؟ لكن الواقع أن هذا التطاول على
السيادة القومية لن يمارس إلا على الشعوب الفقيرة والضعيفة. أما الشعوب الغنية
والقوية فلن يجرؤ على مساءلتها أو محاسبتها ومعاقبتها أحد. وهذا يعني أن ما
تقرره أو ترضى عنه الشعوب في الدول القوية هو الذي يفرض عن طريق الهيئات
العالمية على الشعوب الفقيرة. هذا على افتراض أن الشعوب هي فعلاً التي تقرر.
أما في الواقع الذي نراه فإن شعوب تلك البلاد هي نفسها مستغلة ومسخرة لأهواء
جماعات أقلية غنية نشطة.
إذا كانت الحكومات القطرية تحدد صلاحيات الحكومة الفدرالية أو المركزية
وصلاحيات حكومات الولايات أو الإمارات؛ بحيث لا يجور بعضها على بعض،
أفلا يكون من العدل أن تحدد صلاحيات منظمة الأمم المتحدة، وصلاحيات
الحكومات القطرية المكونة لها؟
(*) «بيجن» أي: بكين، وهي عاصمة الصين.