للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات في الشريعة والعقيدة

[إنها السنن]

د. عبد الغني بن أحمد مزهر التميمي [*]

أود في هذه الصفحات أن أتناول شيئاً من دراسة الواقع اليهودي في فلسطين،

وما يمتد له من حبل الناس على ضوء السنن الإلهية التي بيَّنها الكتاب العزيز

والسنة النبوية الثابتة، وأختصر قدر ما يسعني الاختصار.

وألخص هذا الموضوع في نقاط تسهيلاً على نفسي وعلى القارئ:

١ - عندما يطرأ حدث كبير أو تقع مشكلة كبيرة لها أثرها وانعكاسها على

الواقع سواء على المستوى الفردي، أو المستوى الجماعي، فأول ما ينبغي على

المسلم أن يفعله لالتماس المخرج هو الحكم الشرعي، أي حكم الله تعالى في ذلك؛

وبناءً عليه يقوم بتحديد موقفه من هذا الحدث أو من هذه المشكلة.

إن ما يميز المسلم عن غيره أنه أعلن استسلامه وأعطى قياده وخضوعه لحكم

الله وشرعه، فلم يعط القياد والطاعة لا لقبيلة، ولا لمصلحة خاصة، ولا لقوم،

ولا لأكثرية ... ولا لغير ذلك. وكل معالجة للمواقف والأحداث لا توزن بهذا

الميزان فهي خطأ ولو وافقت الصواب «أجل خطأ ولو وافقت الصواب» .

٢ - الانتفاضة في فلسطين المحتلة حدث كبير له آثاره وانعكاساته على الأمة،

فينبغي الرجوع ابتداءً إلى الحكم الشرعي لتكييف وتأصيل هذا الحدث، ومن ثم

اتخاذ الموقف الحق منه.

وهذا أمر في غاية الخطورة والأهمية؛ لأن معنى الرجوع إلى الحكم الشرعي

ابتداءً المسارعة إلى الامتثال والعمل بعد وضوح الرؤية؛ فإن لم نستطع نعذر؛

لأننا لم نُكَلَّف فوق طاقتنا [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا]

(التغابن: ١٦) .

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه

فاجتنبوه» [١] .

هذا هو الأصل في تلقي المسلم لأمر ربه؛ وليس النظر ابتداءً إلى الظروف:

هل هي مساعدة على ذلك أو لا؟ أو تمحّل الأعذار لترك العمل؛ وهنا أي في شأن

الانتفاضة ليس المطلوب ابتداءً النظر إلى توازن القوى، أو الظروف الدولية

والإقليمية حتى نحدد الموقف من الانتفاضة على ضوئه، وإلا لم يكن هناك فرق

بين المسلم وبين غيره في هذا.

إن هذا النهج قد أصبح مع الأسف شأن كثير أو بعض من المسلمين؛ وذلك

لتأثر المجتمعات بمنهج «فصل الدين عن الحياة» وهو ما أنشأ ما يسمى بالموقف

الديني، والموقف السياسي أو ما يسمى برجل الدين، ورجل السياسة؛ ليس عن

تنوع اختصاص بل عن افتراق كامل بين الموقفين، وبين الرجلين، وهذا لا علاقة

لدين الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى لعباده به. أما منهج الإسلام فيتمثل في قول الله

جل وعلا: [إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن

يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (النور: ٥١) .

إن موقف المسلم من أي قضية ينبغي ألاَّ يتكون من تأثير بيئة أو عرف

تعارف عليه قومه، أو أكثرية تضغط باتجاهه، أو ظرف دولي مهما بلغ؛ بل

ينبغي أن يكون من رؤية واضحة جلية منبثقة من فهم الحكم الشرعي ثم الاستعداد

التام للانقياد له، وما يطرأ بعد ذلك أو خلاله من ظروف وضغوط تحلل وتدرس

دراسة شرعية على ضوء الأدلة الخاصة والأصول العامة التي تتضمن رفع الحرج،

وإزالة الضرر، وتقدير الضرورات بقدرها، والموازنة بين المصالح والمفاسد..

وغير ذلك من القواعد الشرعية.

٣ - لا ينبغي أن نفهم قضية فلسطين مهما بلغت حماستنا لها، وغيرتنا عليها،

وتألمنا على مسارها إلاّ من منظور الحكم الشرعي، وهذا واجب علينا باعتباره

جزءاً من مفهوم متكامل ومنهج شامل للحياة، وعلى ذلك لا تكون نصرتنا لإخواننا

في فلسطين باعثها الشفقة، ولا العاطفة الإنسانية، ولا الحماسة الوطنية، ولا

المروءة والنخوة العربية والقومية، ولا أواصر الدم أو الجوار، بل يكون باعثها

الالتزام والتقييد بالحكم الشرعي الذي تعيّن علينا معرفته، وما يترتب عليه من

مسؤولية تجاه المسلمين المظلومين في فلسطين، وهذا الفهم هو الذي يظل يضخّ

الحياة في قضايانا الإسلامية المتعددة، ويطبع أعمالنا بطابع التعبد لله سبحانه.

٤ - معرفة الحكم الشرعي وحدها لا تكفي بل لا بد من حشد القوة الإيمانية

وإيجاد الطاقة التربوية التي تدفع إلى امتثال أمر الله واجتناب نهيه برضى وتسليم

وصبر وتضحية.

وإلا فكم من المسلمين يعرفون أن الربا حرام ويأكلونه، والخمر حرام

ويشربونها، والصلاة ركن من أركان الدين ويهدمونه!

٥ - مما يجمّد الطاقة الإيمانية ويقلص أثرها اليأس الناتج عن النظرة

والمقارنة الواقعية بين المسلمين وبين أعدائهم؛ ولهذا لا بد من اقتلاع جذور اليأس

من نفس المسلم، ومما يساعد على ذلك:

أ - إدراك أن اليأس من كبائر الذنوب وموبقاتها، وأنه لا يجتمع مع الإيمان

الحق كما قال تعالى: [يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن

رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ] (يوسف: ٨٧) .

ب - شواهد التاريخ تمنع من وقوع اليأس؛ فإن الأيام دول، والدهر قُلَّب،

وإذا كان المؤمن يأوي إلى ركن الله الوثيق ففيم اليأس؟ أليس الله بكافٍ عبده،

وهو على كل شيء قدير؟ وهو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ولا

يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وكل يوم هو في شأن سبحانه؛ ففيم

اليأس؟ ! لكن على المسلم أن يرى أين موقعه من دين الله: هل في الصفوف

الأولى، أو هو خارج الميدان؟

ج - لقد كان اليهود أقوى حصوناً وأمنع قلاعاً وأكثر مالاً من المسلمين في

المدينة حتى حملهم هذا على ظنّ أنهم مانعتهم حصونهم وقلاعهم، وظن بعض

المسلمين أنهم لن يخرجوا، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا؛ فهم حسبوا حساب

جند المسلمين أن يأتوا من الأبواب، أو من فوق الأسوار، فأخذوا حذرهم، وإذا

بالرعب الذي لا تمنع منه حصون ولا أسوار يتسلل إلى قلوبهم ويقذف فيها قذفاً

فيستسلمون، قال تعالى: [هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ

لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ

مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ] (الحشر: ٢) .

د - قد أخبر الله تعالى عن اليهود أنه ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم

القيامة. قال سبحانه: [وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ] (المائدة:

٦٤) ، وكما قال سبحانه في شأن النصارى: [فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى

يَوْمِ القِيَامَةِ] (المائدة: ١٤) .

وبين (ألقينا) (وأغرينا) فرق يحتاج إلى تأمل.

أما فيما بين اليهود وبين حلفائهم فقد أخبر سبحانه وهو الحكيم الخبير أن هذا

أمر ظاهري فقط وإلاّ فإن مصالحهم شتى، وقلوبهم شتى. قال جل وعلا: [لاَ

يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ

جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ] (الحشر: ١٤) ، أي تراهم

مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين، وهم مختلفون غاية الاختلاف. قال إبراهيم النخعي

رحمه الله: «يعني أهل الكتاب والمنافقين» [٢] .

ولو فرض أن حلفاء اليهود من نصارى ومنافقين وغيرهم أخلصوا لليهود فإن

اليهود لا يخلصون لجنسية أخرى ولا لأهل دين آخر مهما بذل لهم، وما زالوا

يتآمرون على حلفائهم، ويتجسسون عليهم، ويسرقون أسرارهم العسكرية، وغير

ذلك على رغم كل ما بذلوه لهم.

هـ - إن اليهود قد ضرب الله تعالى عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا،

واستثنى من ذلك حالتين كما قال سبحانه: [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ

بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ

بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ] (آل عمران: ١١٢) .

وحبل الله تعالى هو عقد الذمة لهم، أما حبل الناس فقد ذهب بعض المفسرين

إلى أنه الأمان كما في المعاهَد والمهادَن والأسير، وهذا غير صحيح؛ لأن الأمان

هو من حبل الله تعالى كعقد الذمة، والأصح أن المقصود بحبل الناس هو الدعم

والتأييد الذي يكون من الناس لهم، وهذا يشير إلى أنهم أبداً في حاجة إلى دعم من

الناس.

وهذا الدعم والتأييد تمثل في عصرنا في القوتين العظميين: روسيا،

وأمريكا. أما روسيا فقد آلت إلى ضعف وهوان، وأما أمريكا فإنها في الأثر طال

الزمن أو قصر.

وهذه الصفات التي ذكرت في اليهود من الهوان والذلة والمسكنة، والحاجة

إلى دعم غيرهم لهم وغير ذلك تجعلهم غير مؤهلين لإمامة العالم، وقد سحبت هذه

الإمامة منهم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وصلاتُه في بيت المقدس بجميع

الأنبياء إشعار بهذا الأمر.

٦- لا يجوز للمسلم أن ينسى حقائق القرآن أو يهتز إيمانه بها لعوارض

الواقع؛ فمن حقائق القرآن أن اليهود ضربت عليهم الذلة والمسكنة، ومن عوارض

الواقع أنهم يملكون ويبطشون، وأن العالم يستمع لهم وينحني لهم في هذه الأيام.

ومن حقائق القرآن أن الله تعالى يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء

العذاب، وأنهم كلما أوقدوا ناراً للحرب أو فتنة مؤامرات أطفأها الله.

ومن عوارض الواقع أن دولاً عظمى تقف إلى جانبهم، وأن كيدهم ومكرهم

مستمر؛ لكن ينبغي النظر إلى أن هذا الذي يبدو مخالفاً في الظاهر هو أمر عارض

سريع التحول، وهو قصير إذا ما قورن بواقع الاضطهاد والذلة في التاريخ

اليهودي؛ فقد تعرض اليهود للقهر في العصر الحديث من قِبَل ألمانيا وفرنسا

والنمسا والمجر وأوروبا الشرقية. إن الأمور بحقائقها لا بظواهرها، وبما تؤول

إليه لا بما تبدو عليه، وهذا من أعظم محكَّات الإيمان؛ فإن المنافقين ومن في

قلوبهم مرض وضعاف الإيمان يتهاوى ما لديهم من إيمان مع أدنى خوف وفزع،

وتبرز لديهم الظنون بالله سبحانه: هل ينصُر دينه، هل ينتصر أولياؤه، أو

سيُتَأصَل الدين ولا يقوم للمؤمنين بعد اليوم قائمة؟

لما ابتلي المؤمنون في الأحزاب، وزلزلوا زلزالاً شديداً حينئذ ظهر النفاق،

وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم. قال سبحانه: [وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ

وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً] (الأحزاب: ١٢) ،

وقال بعض هؤلاء: «كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا

يقدر على أن يذهب إلى الغائط» [٣] . إنه الإغراق في الإيمان بالمحسوس، وعدم

اليقين بالغيب، وبوعد الله ورسوله.

ولهذا يجب أن يكون فهمنا للمتغيرات الواقعية والتاريخية في الأمم والجماعات

والأفراد أكثر عمقاً، وأدق تصوراً، وأن يكون على ضوء قواعد يقينية مقطوع بها

وليس مستنداً إلى أمور ظاهرية آنية.

ومن هذه القواعد:

- للكون إله خالق مدبر سميع بصير، حكم عدل قاهر قادر، يعز من يشاء

ويذل من يشاء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

- الكون يخلو من العبثية والفوضى والمصادفة. قال جل وعلا: [وَإِذْ يَقُولُ

المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً]

(الأحزاب: ١٢) ، وقال: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ]

(الأنبياء: ١٦) .

- الإنس والجن قاطبة مخلوقون لتوحيد الله تعالى وطاعته وعبادته، وليس

هناك أمة منهم أو فئة لا تجري عليها سنن الله تعالى في الخلق عزاً وذلة أو عقوبة

ومثوبة.

قال تعالى: [فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن

تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً * أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ

مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي

الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً] (فاطر: ٤٣-٤٤) .

وهنا يرد سؤال واقعي:

هل الحضارة المعاصرة على اختلاف مواطنها لها استثناء من الإهلاك

وحصانة من الزوال والعقاب الإلهي؟ هل هي أكبر من أن تنالها قدرة الله؟ أم أن

الحضارة المعاصرة بما يمثلها من دول ومجتمعات ما هي إلا حلقة من حلقات

التاريخ البشري يجري عليها كل ما يجري على غيرها من حضارات سابقة اتجهت

وجهتها وبغت بغيها؟

هذا هو جواب الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه

تنزيل من حكيم حميد:

قال جل وعلا: [وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] (القمر: ٥١) .

وقال سبحانه: [فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ]

(الزخرف: ٨) .

وقال: [أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ

أَلِيمٌ] (التغابن: ٥) .

وقال: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ

دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا] (محمد: ١٠) .

وقال سبحانه: [وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ] (هود: ٨٣) .

وقال جل وعلا: [أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ]

(القمر: ٤٣) .

إذن الحضارة المعاصرة ليست نموذجاً فريداً في تاريخ البشرية يستثنى من

العقوبة الإلهية، وليست أكبر من أن تعاقَب، وليست أفضل من غيرها مما سبق

من الحضارات. هذا ملخص مضمون الآيات القرآنية المتقدمة.

وإن المتتبع لآيات القرآن العظيم المعجز يجد أن أهم الأسباب، وأبرز

العوامل المؤدية إلى انهيار الحضارات، ودمارها وكنسها من التاريخ ثلاثة عوامل،

وليس كما ذهب إليه بعض المؤرخين كالمؤرخ «بول كندي» الإنجليزي الأصل

الأمريكي الموطن؛ حيث تناول الحقبة الممتدة من (١٥٠٠-٢٠٠٠م) ، وتناول

سقوط الإمبراطورية الإسبانية والبريطانية والعثمانية والروسية، وبيَّن أن

مواصفات السقوط لهذه الإمبراطوريات تنطبق على الولايات المتحدة؛ فهو بمعنى

آخر يبشر بسقوطها وانهيارها، وعلى رغم ما واجه من نقد لنظريته فهو مُصرّ

عليها، ويدافع عنها، لكنه - ولا يستغرب من أمثاله ممن يفسرون التاريخ على

ضوء المادية الجدلية - عزا أسباب السقوط إلى الإفراط في القوة والتوسع؛ بحيث

إن الالتزامات الاستراتيجية للإمبراطورية إذا زادت عن القوة الاقتصادية لها أدت

إلى عجزها وسقوطها [٤] .

أما العوامل الثلاثة التي تحمل استحقاق الغضب الإلهي، وعقوبة الدمار

والانهيار التي أشار القرآن الكريم إليها فهي:

الكفر، الظلم والاستكبار، والفساد الخلقي والاجتماعي.

- أما الكفر فقد وردت آيات كثيرة تدل على أن الكفر بالله تعالى ونكران

توحيده وطاعته من أسباب الدمار، وأكتفي بالاستدلال بنماذج من الآيات؛ فالحصر

متعسر، ولا يتسع له المقام:

قال تعالى: [كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ

بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقَابِ] (الأنفال: ٥٢) .

وقال جل وعلا: [وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ

قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ] (الرعد: ٣١) .

وقال سبحانه في شأن دمار سبأ: [ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ

الكَفُورَ] (سبأ: ١٧) .

والآيات أكثر من أن تُحصَر في هذا المقام؛ فقد وردت كلمة الكفر ومشتقاتها

في الكتاب العزيز في نحو سبعة وعشرين وخمسمائة موضع.

- وأما في سبب الهلاك بالظلم والاستكبار فقال جل وعلا: [وَكَذَلِكَ أَخْذُ

رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ] (هود: ١٠٢) .

وقال: [وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً] (الكهف: ٥٩) .

وقال سبحانه: [فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ] (الحج: ٤٥) ، وقال

سبحانه: [وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ]

(الأنبياء: ١١) .

فالقاسم المشترك لإهلاك هؤلاء هو الظلم والبغي كما توضح الآيات الكريمة.

وقال: [فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ

يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ

رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ] (فصلت: ١٥-١٦) ، وهذا جزاء الاستكبار

والتطاول والتعالي.

وقال سبحانه: [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً]

(القصص: ٤) .

- وأما الفساد في الأرض فقد بين القرآن الكريم فساد قوم لوط في آيات

متعددة، وكذلك فساد قوم شعيب وما حلّ بهم من عقوبة إلهية، وفساد قوم فرعون

ومن سبقه. قال جل وعلا: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي

لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ

* الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ]

(الفجر: ٦-١٣) .

وخلاصة ما تقدم توضح لنا الآتي:

١ - إن اليهود بدؤوا يقتربون من نهايتهم المحتومة منذ بدؤوا هجرتهم إلى

فلسطين؛ وذلك لأنهم انتقلوا من كونهم أهل ذمة ينعمون في ظل دولة الإسلام إلى

محاربين مغتصبين ظالمين، وإن انتقالهم وتجمعهم واغتصابهم لفلسطين هو باللغة

العسكرية (إعلان حرب على الأمة الإسلامية) ، وقد فعل ذلك من قبل إخوانهم بنو

قريظة حينما نقضوا ذمتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا الحرب مع

قريش والأحزاب.

٢ - إن الحائط الذي يستند إليه اليهود، والدعم الذي يعتمدون عليه آيل

للسقوط، وقد تهاوى بعضه وبقيته في الأثر، فإن امبراطورية «الجنس والربا»

مصيرها هو مصير من سبقها من امبراطوريات الفساد في الأرض.

٣ - إن من البلادة، وقلة الفهم أن يقرأ المسلم كتاب الله عز وجل وما يخبر

به خبر اليقين من هلاك الأمم الكافرة المستكبرة الظالمة، ثم يذهب كل فهمه إلى

قصر ذلك على أهله، وعلى حقبة تاريخية مضت وحسب.

إن سنن الله تعالى لا تتغير، ولا تتبدل؛ فهو الذي [وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى

* وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى] (النجم: ٥٠-٥١)

[وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى] (النجم: ٥٢) ، وكم

أهلك من القرون من بعد نوح، ولن تتغير سننه فيمن سلك مسلك هؤلاء من أمم

الكفر وطواغيت الأرض في كل عصر.

٤ - من البلادة أيضاً أن لا يربط المسلم بين ما يحدث في الأرض من

كوارث، وزلازل وأعاصير وفيضانات وأوبئة، وغير ذلك، وبين سنن الله عز

وجل وهو يقرأ كلام الله الفصل: [وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا

قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ] (الرعد: ٣١) ، ويقرأ مثلاً في دمار سدّ مأرب

وتمزيق سبأ: [ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا] (سبأ: ١٧) وغير ذلك من آيات،

ولم يدر بخَلَده أن هذه العقوبات تتجاوز قرونها وأزمانها وأممها إلى أمم علت في

الأرض ونازعت الله تعالى كبرياءه وعظمته في عصر الأقمار الصناعية

والصواريخ العابرة للقارات، والتبجح العلمي، والعنجهية المادية المغرقة في

الضلال، ألم يقرأ قول الله تعالى: [إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ] (الفجر: ١٤) .

فهذه حضارات ثلاث كان لها مكان عظيم في التاريخ، وضربت بجذورها في

الأرض، من مدنية وعمران، وبناء مدن صخرية، وتوسع في الأموال والأنعام

والزراعة، وعظم في الأجسام وغير ذلك مما يعد مقومات للمدنية والتحضر، فاذا

هي تمحى من الوجود ولا يبقى لها باقية؛ وذلك لأنهم (أكثروا) في الأرض الفساد.

ويمكننا القول استنباطاً مما يشير إليه قوله تعالى: [فَأَكْثَرُوا] (الفجر:

١٢) : إن هناك خطوطاً حمراً إذا تجاوزتها أي أمة أو فرد نزل به غضب الله جل

وعلا، ولن تنفعه قوته ولا جبروته شيئاًَ من عقاب الله تعالى؛ وذلك أن الكبرياء

والعظمة لله تعالى وحده العظيم المتكبر فمن نازعه فيهما قصمه سبحانه ولم يبال به

في أي واد هلك.

والذي أروم الوصول إليه من خلال هذه المعالم القرآنية أصبح واضحاً، وهو

أن الحائط الذي يستند إليه اليهود في عصرنا هذا بات آيلاً للسقوط؛ وهذا ما يمكن

أن نسميه حتمية قرآنية، لا أدعي ذلك تهويلاً ومبالغة ولا تخديراً للعواطف، بل

هذه حقائق مسلَّمات تعتمد على نصوص قطعية محكمة، وليس إلى أحد من البشر

تقدير ذلك بالأيام والسنين؛ فالأمر كله لله جل وعلا.

قال سبحانه: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ

* وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] (القمر: ٤٩-٥١) .


(١) أستاذ مشارك في الحديث الشريف وعلومه، وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
(١) البخاري مع الفتح (١٣/٢٦٤) ، ومسلم (٢/٩٧٥) .
(٢) تفسير الطبري (٢٣/٢٩٣) ، المصباح المنير (١٣٨٧) .
(٣) ابن هشام، ١/٥٢٢.
(٤) جريدة الشرق الأوسط، العدد (٨٣٦) .