للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكومة علاوي و «سيناريو» الواقع الجديد للعراق]

إبراهيم العبيدي

لقد نجحت إدارة الرئيس (بوش) بتمرير مشروع قرارها الأخير رقم ١٥٤٦ المتعلق بالعراق في مجلس الأمن الدولي، والقاضي بنقل السيادة للعراقيين ـ بحسب تعبير القرار ـ في نهاية يونيو/ حزيران وهو الموعد الذي اتفق عليه في قانون إدارة الدولة العراقي الذي أقره الحاكم المدني للعراق (بول بريمر) ومجلس الحكم الانتقالي المعين من قِبَل سلطات الاحتلال.

نعم! تم تمرير هذا القرار الدولي بخصوص العراق على الرغم من اعتراضات وتحفظات بعض الدول الأعضاء الدائمين في المجلس على صيغة القرار، مما اضطر قوتي التحالف (الأمريكي والبريطاني) إلى الإذعان وإجراء بعض التعديلات على القرار لضمان اعتماده والتصويت عليه بالإجماع من قِبَل دول المجلس، وهو الأمر الذي سهَّل ولادة الحكومة العراقية المؤقتة برئاسة الدكتور إياد علاوي. ويعد هذا القرار بتشكيل الحكومة المؤقتة للعراق فصلاً ومشهداً جديداً للاحتلال الأمريكي للعراق، وتكتيكاً بات مكشوفاً في سياق الخطط الأمريكية التي باتت واضحة للعيان في مسلسل مخططاتها في المنطقة، فلا يكاد يختلف كثيراً ما تفعله هذه الإدارة في العراق عما فعلته في أفغانستان والترتيبات التي أعقبت سقوط حركة طالبان: من إعداد الدستور، وتنصيب حكومة مؤقتة يرأسها حامد كرازاي الذي تربطه علاقة وثيقة بالمحرر الأمريكي، وتشكيلة وزارية من ذوي الجنسيات الأمريكية والبريطانية يتضمنها العنصر النسائي المحضر سابقاً لتقوم بمواجهة أي مقاومة من قِبَل أي شريحة من الشعب الأفغاني المعارض لخطط الاحتلال، نيابة عن الاحتلال وجنوده، ليكون المقاوم والمكافح له من الأفغان أنفسهم، كي يحتفظ الاحتلال بسلامة جنوده ما أمكن من الاستنزاف، ولتقنين دور الاحتلال وإضفاء الشرعية عليه في المجتمع الدولي والقوى المتعددة الجنسيات، ودعوى حفظ الأمن لترتيب انتخابات بعد شهور، وما يتمتع به حامد كرازاي من حماية أمريكية خاصة تحيط به لحين إتمام المسلسل.

السيناريو نفسه اليوم يتكرر في المشهد العراقي؛ حيث إن الحكومة المؤقته التي تم تعيينها وتشكيلها من قِبَل قوات الاحتلال على غرار مجلس الحكم الانتقالي، وسيبقى خيار الشعب العراقي في ممارسة الديمقراطية المزعومة أمراً صعب المنال، وسيبقى مهمشاً في أي حكومة قادمة في ظل الاحتلال، ولم يكن اختيار إياد علاوي من قِبَل الإدارة الأمريكية (بحسب تصريح الحاكم المدني بول بريمر قبل مغادرة العراق في مقابلة صحفية) رئيساً للحكومة بمحض المصادفة، بل كان لأسباب موضوعية وعملية تتناسب مع المرحلة القادمة، ويعرفها الاحتلال.

` أهداف تشكيل الحكومة المؤقتة:

لا يخفى على أي متابع أن الإدارة الأمريكية كان لها أهداف علنية وسرية لم تعد خافية على الساسة والمراقبين، أهداف تخص المصلحة الأمريكية على كافة الأصعدة الدينية والسياسية والاقتصادية والعسكرية في الشرق الأوسط، وهي ترغب في سيطرتها المطلقة على مصادر الطاقة الرئيسة في العالم، لتمتلك بعد ذلك زمام الأمور وتحقق الهيمنة الأمريكية وبسط نفودها في العالم. وهذه الأهداف وغيرها كلها تصب في مصلحة الكيان الصهيوني في المنطقة، مع التنسيق الكامل في التخطيط والتنفيذ ما بين الكيان والإدارة الأمريكية.

والذي ينبغي تقريره هنا هو أن القوات الأمريكية جاءت لتبقى في المنطقة ولا سيما في العراق، وهذا ما أشار إليه أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي عند بداية الحرب على العراق وقبلها ما مفاده: «إننا سنبقى ستين عاماً» . ويبدو أن هذا المخطط متفق عليه في السياسة الأمريكية الخارجية بين الجمهورين والديمقراطيين، وآخر شواهد البقاء المشار إليه على الرغم من التعديلات في المدة بسبب مفاجأة المقاومة العراقية التي غيرت الحسابات، هو ما صرح به رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة قبل أيام بمناسبة تسليم السلطة للعراقيين «أن القوات الأمريكية ستبقى في العراق لمدة قد تصل إلى خمس سنوات» . إذن مخطط البقاء ـ قل أو كثر ـ أمر مفروغ منه في السياسة الأمريكية، ولكن الذي لم يحسب هو تكاليف هذا البقاء؛ لا سيما وقد فوجئ الأمريكان بالمقاومة الضارية الشرسة التي استنزفت منهم في سنة واحدة ما لم تخسره أمريكا في حرب فييتنام خلال ثلاث سنوات؛ فكيف إذا استمر الوضع على حاله لسنوات؟ لذلك ستسعى الإدارة الأمريكية جاهدة لتحقيق ذلك الوجود بأقل التكاليف، وهذا هو ما يراد تحقيقه من مكاسب القرار الدولي الأخير ١٥٤٦ الذي أقره مجلس الأمن الدولي بخصوص العراق.

فبعد الحرب على العراق وغزوه من قِبَل الإدارة الأمريكية تحت ذرائع ودعاوى كذبتها الوقائع والأيام، وسقوط النظام العراقي خلال عشرين يوماً، لم تتوقع قوى الاحتلال الأمريكية من أن هناك قوة ما يمكن أن تعكِّر نشوة النصر وكسب الحرب وإسقاط النظام بفترة قياسية، إلا أن الواقع كان غير ذلك؛ إذ جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، وبدأت المقاومة العراقية توجه ضرباتها منذ الشهر الأول من الاحتلال، وظلت ضرباتها تزداد أثراً، وتتطورت نوعاً وكمّاً، واتسعت دائرتها لتشمل أغلب مدن العراق، بعد أن كانت محصورة بما يطلق عليه (المثلث السني) في الوسط والمناطق الغربية من العراق، مما تسبب في استنزاف غير متوقع للقوات الأمريكية جنوداً وآلياتٍ وعتاداً لدرجة أربكت (البنتاغون) وجعلته يتبادل الانتقادات في عدم تقدير القوة العسكرية المطلوبة لتغطية الحاجة في العراق، وهو الأمر الذي جعل الخط البياني للسياسة الأمريكية تطرأ عليه تغييرات جذرية يلحظها المتابع للأحداث. فمثلاً بعد أن كان الأمريكان أول دخولهم للعراق يقولون: لا ندري كم نبقى في العراق، والحديث عن سلطة عراقية سابق لأوانه، وما إلى ذلك من تصريحات تُنبئ عن عدم اكتراث بالمستقبل، لكن نتيجة لضربات المقاومة تم تشكيل مجلس الحكم الانتقالي ذي الصلاحيات المحدودة، وبعدها بدأ الحديث عن موعد لتسليم السلطة للعراقيين في الموعد الذي تم فيه نقل السلطة ولو بسيادة ناقصة وحكومة على المقاس الأمريكي، وغداً سيكون الحديث عن إمكانية خروج القوات الأمريكية من العراق إذا ما استمرت ضربات المقاومة الموجعة على مفاصل التنين الأمريكي وأثخنت جراحه. وهكذا نرى أن التغييرات السياسية في الملف العراق مرهونة بعمل المقاومة وشراستها، ومدى تأثيرها على القوات الغازية، وهي سنة ماضية في أي احتلال؛ فلم نسمع يوماً أن احتلالاً خرج من بلد ما إلا بمطرقة المقاومة، وشواهد التاريخ كثيرة على ذلك.

` الدور المناط بالحكومة المؤقتة:

لم تتعلم الإدارة الأمريكية، ولم تشأ ذلك، ويبدو أنها مصرة على أن تعزف على الوتر والنغمة الطائفية في العراق، وتغليب الشيعة في المسار السياسي على حساب السنَّة؛ حيث لم تكن تشكيلة الحكومة العراقية المؤقته ذات السيادة والسلطة المنقوصة ـ قطعاً ـ تختلف كثيراً على تشكيلة مجلس الحكم الذي أكد الطائفية والعنصرية في المجتمع العراقي، وأن الثقل الشيعي في الحكومة الجديدة واضح للعيان، ويبدو أنها رغبة أمريكية في توقيت قنبلة الطائفية وجعلها جاهزة للانفجار في اي وقت، كما أن فيه مؤشراً على متانة التحالف الأمريكي، وأغلب الفصائل الشيعية على سيناريو العراق الجديد، بشرط تحقيق المكاسب الشيعية، وأبرزها التمثيل الكبير في الحكومة الجديدة للعراق. وهذا هو الذي دعا (الأحزاب الشيعية التي تحالفت مع الأجنبي في مؤتمر لندن بتنسيق إيراني وإقرار المرجعية) إلى لملمة ما سموه (البيت الشيعي) واحتواء انتفاضة الصدر وإقناعه بالعدول عن العمل المسلح ضد القوات الامريكية، وتسوية الأمور سياسياً للفوز بحصة الأسد من المحتل الأمريكي، وهو الأمر الذي يحمل في طياته إشارات الإخفاق المرتقب لهذه الحكومة طال الزمن أم قصر بسبب الثقل السني الحقيقي، وكون المقاومة المسلحة ضد الأمريكان أغلبها سنية، مما سيجعل السنَّة رقماً صعباً في المعادلة العراقية، واستقرار الوضع السياسي فيه لا يمكن تجاوزه بأي حال. أما لماذا يُنتقى علاوي رئيساً للحكومة المؤقتة؟ فهذا يعود بالدرجة الأولى لمواصفاته التأهيلية لهذا المنصب والدور المناط به، والتي من أبرزها بحسب ما ذكرته كثير من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة، وما اعترف به هو شخصياً، كونه رجل الاستخبارات الأمريكية (السي. آي. إي) ولديه علاقات حميمة مع الإدارة الأمريكية بمختلف دوائرها، وهو بعثي سابق منشق، وعمل في الأجهزة الأمنية العراقية آنذاك، وكان له دور مباشر في عمليات تفجير في بغداد ضمن مهام الأجهزة الأمنية العراقية راح ضحيتها عراقيون، وهو شيعي علماني يرأس حزب (الوفاق الوطني) الذي أسس في المنفى، وكان يحظى برضى واشنطن ولندن. فهذه أبرز الصفات التي يمكن القول إنها جعلت علاوي يسأثر بالمنصب والدور المناط به في العراق الجديد، وهي بطبيعة الحال صفات تؤهله أن يكون خليفة الرئيس العراقي المخلوع بجدارة.

لذلك فإن الدور المناط بهذه الحكومة «الجديدة» والمعينة من قِبَل سلطات الاحتلال والمرضي عنها أمريكياً، سيكون ـ والله أعلم ـ في المرحلة القادمة على النحو التالي:

١ - ستكون هذه الحكومة عبارة عن «حكومة ظل» للسياسة الأمريكية التي ينفذها السفير الأمريكي الجديد (نيغروبونتي) من خلال أكبر سفارة أمريكية في العالم في بغداد.

٢ - تقنين الاحتلال، وإضفاء الشرعية عليه دولياً، ورفع صفة المحتل التي وُصِف بها بعد سقوط النظام العراقي، ولا سيما بعدما رأينا تمسك وزير الخارجية العراقي زيباري ورئيس الحكومة علاوي، وهما يطلبان بصريح العبارة إبقاء القوات الأمريكية في العراق، بعد أن احتدم الجدل بين بعض الدول الأعضاء على ضرورة خروج القوات الأمريكية، ووضع جدول زمني لذلك، ليكون الوجود الأمريكي بطلب رسمي من قِبَل الحكومة العراقية مما أحرج حتى دول المجلس.

٣ - تقديم الخدمات وكافة التسهيلات للقوات الأمريكية على كافة الأصعدة، وتمكينها من ترتيب قواعدها العسكرية الخمس في العراق، وإعطاؤها الصفة القانونية لكونها بطلب رسمي من الحكومة العراقية، وكذلك الاستئثار بالنفط العراقي لصالح الإدارة الأمريكية.

٤ - تمكين النفوذ الصهيوني في العراق، وغض الطرف عنه من خلال التطبيع السياسي والاقتصادي عبر الشركات الاستثمارية وشتى الأساليب المتاحة، ولا سيما في شمال العراق (*) .

٥ - محاربة وملاحقة وتصفية عناصر ومجموعات المقاومة العراقية تحت ما يسمى «محاربة الإرهاب» لتكون المواجهة بين العراقيين أنفسهم، بين أجهزة الأمن والشرطة والجيش العراقي والمقاومين، وتلويح رئيس الحكومة بإعلان حالة الطوارئ في بعض المدن خير دليل على ذلك، وهو الأمر الذي يشبه الحرب الأهلية، وهو ما ينذر بالخطر وتأزم الملف الأمني.

٦ - توفير بعض الوظائف للعراقيين ومحاولة احتواء جزء من البطالة المتردية في البلد، وتأمين بعض الخدمات الضرورية في مجال الكهرباء وما شابه ذلك للتخفيف من انتقادات الناس من جراء المعاناة الشديدة التي يعيشونها.

ويرى محللون ان محاكمة صدام ستجر آخرين غيره إلى المساءلة إذا توفر لها الجو القانوني العادل النزيه؛ وذلك بسبب الجرائم التي ارتكبها النظام العراقي ولا سيما الخارجية منها.

` الخلاصة:

نخلص من هذا كله إلي أن الحكومة العراقية المؤقته لم تُمنح حق السيادة والسلطة الكاملين، وأن رموز هذه الحكومة ولا سيما (رئيس الوزراء) سيبقون فيها حتى لو جرت الانتخابات «القادمة؛ حيث ستكون برعاية امريكية؛ لسبب بسيط؛ لأنهم يحوزون على رضى البيت الابيض، وهذه الصورة مطابقة لما عليه الرئيس الأفغاني (حامد كرازاي) ومنذ الاحتلال الأمريكي لأفغانستان وحتى الآن هو موجود في السلطة، ويسعى للبقاء فترة رئاسية قادمة، وبغض النظر عن مدى قدرة الحكومة على تحرير الملف الأمني والنفطي والاقتصادي والسياسي للعراق. وفي المقابل لن تستطيع الإدارة الأمريكية تحقيق أهدافها المنشودة من خلال تشكيل هذه الحكومة، بسبب عدم شرعية هذه الحكومة، وكونها لم تأتِ عن طريق اختيار الشعب كما عبر عن ذلك العراقيون أنفسهم؛ وهو الأمر الذي يعني استمرار حدة العنف في العراق، واستمرار المقاومة، وأرتفاع مسلسل الاغتيالات لرموز الحكومة ومن يتعامل مع قوات الاحتلال، إضافة الى حوادث الخطف للأجانب والتي ستتسبب بتعثر عملية الإعمار المنشودة، ومشهد السيارات المفخخة المتكرر، واستهداف القوات الامريكية من قِبَل المقاومين في جل مدن العراق. وهو الأمر الذي يقودنا إلى القول بأن عنصر الرهان الحقيقي لاستقرار العراق هو خروج القوات الأمريكية منه، وتسليم السلطة للعراقيين بطريقة ديمقراطية «حقيقية» وليس كما يراه (بوش) لتحقيق أهدافه الانتخابية والعدوانية في المنطقة، وهذا الذي يبدو أن المقاومة العراقية تفقهه جيداً، ولا ينطلي عليها ولا على غيرها من الفصائل الوطنية العراقية؛ مثل هذه التكتيكات والمناورات السياسية الفجة التي تمارسها الإدارة الامريكية لتقنين احتلالها؛ لذلك فإن المتوقع مزيد من التصعيد في عمليات المقاومة حتى الإذعان للإرادة الشعبية الوطنية الحقيقية بعيداً عن التدليس والمناورات السياسية.