فكر
[بين المفكر والمختص]
د. عبد الكريم بكار
يزداد تشعب العلوم يوماً بعد يوم، ويصبح الفرع فروعاً، ويتولد من العلم
الواحد علوم، وتتفجر المعرفة نتيجة الأعداد الضخمة من المثقفين الذين يعملون في
مجالات البحث العلمي، ونتيجة الوسائل الكثيرة المتاحة لهم، وعلى رأسها الحاسب
الآلى.
وإلى جانب هذا فإن العلم نفسه صار يفرز مشكلات جديدة، يوصف كثر منها
بأنه مصيري، ويتقدم العلم ويزداد تشابكه مع العلوم السياسية والأخلاقية! مما دفعنا
إلى تسليط الضوء على هذه القضية.
من هو المفكر؟
يمكن أن نقول بإيجاز: إن المفكر هو من يملك رؤية نقدية ينقل من خلالها
تناقضات مجتمعه ومشكلاته إلى حسِّ الناس وأعصابهم، لتصبح إحدى مفردات
همومهم اليومية، وهو بما يعرف من سنن الله تعالى في الأنفس والآفاق، وبما
يملك من رؤية شاملة فاحصة للواقع والتاريخ يتمتع بـ (حاسة الاستشعار عن بعد) ، فيرى ما لا يراه الناس، فينذرهم ويوجههم نحو طريق الفلاح. وكثيراً ما تكون
حياة المفكر قلقة، بل قد يدفع حياته ثمناً لما يحمل من فكر، إذ أن المفكر كثيراً ما
يكون سابقاً لمعاصريه، وهذا يجعل إدراك أبعاد ما يقول غير متيسر لأكثرهم، كما
أن ما يحدثه من استبصار في مشكلات أمته يتعارض مع مصالح فئات في المجتمع، تقتات من وراء وجود تلك المشكلات، مما يثيرها عليه، ويجعله هدفاً لها. وقد
يكون المفكر متخصصاً في أحد فروع العلم، وقد لا يكون. وقليل أولئك الذين
يتقنون تخصصاً ما ثم تكون لهم رؤية مجتمعية شاملة.
أما المختص فإنه يكون - في الغالب - متبحراً في علم من العلوم التطبيقية أو
الإنسانية، فهو لا يصدر عنه إلا ليعود إليه، وكثيرًا ما يكون المختص فاقداً للوعي
الاجتماعي، إذ إن التخصصات في حالة من التوسع المستمر، كما أن مشكلاتها في
تزايد مستمر، ومهما بذل المرء من جهد بغية إتقان تخصصه وجد أن التراكم
المعرفي يبعده عن غايته تلك، وهذا يقتضي منه المزيد من الانهماك فيه، والمزيد
من البعد عن مشاكل الحياة اليومية، وبالتالي فهو يبتعد باستمرار عن الرؤية الشاملة.
وحياة المختص - في الغالب - أقرب إلى السلامة والاستقرار، لأن الفئات
التي تنزعج من المفكرين تتخذ من الاختصاصيين وسائل تساندها - ولو بصورة
سلبية - في الوصول إلى مصالحها.
ويمكن أن يقال: إن المختص يشبه طبيباً في قافلة كبيرة، فهو لا يعرف
الكثير عن أهداف المسيرة أو محطات التوقف، إذ إن معالجة الأعداد الكبيرة من
المرضى تستغرق كل وقته، أما المفكر فهو قائد القافلة الذي عنده معرفة تامة بكل
المشكلات الكبرى التي تواجه القافلة، كما أن مخطط السير واضح لديه تماماً،
وهذا في الغالب يجعله لا يتمكن من معرفة التفاصيل الدقيقة لكل شؤون الرحلة،
ولماذا يهتم بذلك وهناك المختصون الذين يعملون على علاجها وتسييرها.
التخصص ومشكلاته:
يجب القول ابتداء أن مجالات التخصص آخذة في التفرغ يوماً بعد يوم،
والباحثون يشعرون بضيق المجالات التي يعملون فيها وميلها إلى شدة التخصص،
وهذه الحال نفسها هي التي أدت إلى التراكم المعرفي الضخم الذي نراه اليوم، حتى
إن بعض المولعين بالإحصاء يقولون: إن المعرفة تتضاعف فيما بين كل عشر
سنوات إلى خمس عشرة سنة، وهذا كله ما كان ممكناً لولا التخصص الدقيق
والدقيق جداً، لأنه وحده الذي يسعف في رفع سقف المعرفة، وهو وحده الذي أدى
إلى وجود كل هذه الإنجازات التي نراها. والذين يحاولون إظهار أنهم على معرفة
موسوعية يعرضون - في الغالب - معلومات ناقصة أو مزيفة؛ لأن زمان المعرفة
الموسوعية قد انتهى.
ولكن لابد هنا من القول: إن ما تم من إنجاز علمي، وبذل في سبيله الغالي
والنفيس، إنما وجد من أجل خدمة الإنسان وتحقيق سعادته، وعلى المختصين أن
يتأكدوا من أن تلك الإنجازات حققت أهدافها، وظلت في مأمن من أن تستخدم
لتدمير إنسانية الإنسان، بل وجوده كله! !
ولنضرب لذلك مثالاً واحداً نجلو به ما نرمي إليه.
فقد كان من المعروف قبل الحرب العالمية الثانية أن العلماء الألمان قطعوا
شوطاً بعيداً في محاولة استغلال المعرفة النظرية المتعلقة بالتركيب الداخلي للذرة،
وكان من المسلم به أن هذه المحاولات ستسير في المجال العسكري، وكان هناك
خوف من أن تستغل الطاقة الهائلة التي تتولد عن انشطار الذرة في تدمير الإنسان
على يد هتلر الزعيم النازي، ومن ثم فإن مجموعة من العلماء الفارين من جحيم
النازية إلى أمريكا طلبوا من الرئيس (روزفلت) رئيس أمريكا آنذاك تخصيص
الأموال والوسائل اللازمة لإنتاج القنبلة الذرية قبل أن يتمكن العلماء الألمان من
صنعها وجعلها في يد حاكم مثل هتلر يستخدمها في فرض قيم معادية للإنسانية،
وكان في ظنهم أن حيازة أمريكا لها سوف يردع هتلر - فيما لو امتلكها - عن
استخدامها. وتم ذلك في مدة قصيرة حين أجريت أول تجربة ذرية في عام ١٩٤٥
في صحراء نيفادا، ولم تمض سوى فترة قصيرة حتى ألقيت أول قنبلة على
(هيروشيما) في اليابان في الثامن من آب عام ١٩٤٥، وأعقبتها بعد أيام قنبلة
أخرى على (نغازاكي) مما عجل بالاستسلام النهائي لليابان.
وقد كان من رأي العلماء الذين اخترعوا القنبلة الذرية أن تجرى تجربة دولية
أمام مندوبين من مختلف بلاد العالم لإطلاعهم على مدى القوة التدميرية للقنبلة،
ويطلب من اليابان أن تستسلم على هذا الأساس، ولكن الحاكم السياسي لأمريكا
آنذاك، وهو الرئيس (ترومان) كان له رأي آخر.
وتكفيراً عن الذنب أمضى كثير من أولئك - ومنهم أينشتين - بقية عمرهم في
الدعوة إلى السلام. ومن العسير على العلماء اليوم أن يتحكموا في كيفية استخدام
علومهم وتطبيقاتها حيث إن الشركات والمؤسسات الكبرى هي التي تنفق على
أبحاث العلماء في الغرب، كما أن الدولة في المعسكر الشرقي ترعى العلماء وتنفق
عليهم، مما يجعل إسقاط حقهم في التحكم فيها أمراً مسلماً به مسبقاً.
ولا تقف مشكلات التخصص المغلق عند هذا الحد، فقد وجد مثلاً أن بعض
الأمم تولي ثقة للمختصين والفنيين، وربما يحثونهم على القيام بتشكيل حكومة
تسمى بالحكومة (التكنوقراطية) ، أي حكومة الاختصاصيين، وقد خيب هؤلاء
الآمال في كثير من الأحيان، لأنه ثبت أنهم ينظرون إلى المشكلات الكبرى بمنظور
أضيق مما هو مطلوب؛ لأن مهنتهم وتخصصهم الدقيق يغلب عليهم، ومن ثم فإنهم
عاجزون عن تأمل الأمور من منظور شامل. ومن هنا فإن المجتمع كثيراً ما يلجأ
إلى السياسيين والشخصيات العامة لإصلاح ما أفسده المختصون.
إن في المجتمع حوارات داخلية غامضة، لا يقف عليها إلا من خالط الناس
في شرائحهم العديدة، ومن ثم يعجز غالباً المختصون عن قيادتهم وتحسس مشكلاتهم.
وقد عزلت التخصصات المغلقة أصحابها عن طبيعتهم الإنسانية حين تحول
العلم على أيديهم إلى مجموعة من الإجراءات التي تقتضي تدريباً وتعليماً مكثفاً،
ومن ثم فإن المختص يتباعد تدريجياً عن رؤية الصورة الكلية للحياة، كما أن العلم
وفق هذا المنهج يفقد وظيفة من أهم وظائفه، وهي فقه الذات والعودة إليها واستكناه
أغوارها [وفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ] [الذاريات: ٢١] . ومن ثم فقد برز اتجاه
يدعو إلى ضرورة خروج العالم من تخصصه إلى تخصصات أخرى قريبة منه
تتكامل معه وتثريه، كما نشأت دعوات للعلماء التطبيقيين أن يقرءوا في الدراسات
الإنسانية، وأن يعايشوا المشكلات اليومية لمجتمعاتهم - ولو بمقدار - حتى يحدث
التوازن في ثقافاتهم وشخصياتهم المجتمعية.
وهذه المشكلات هي مشكلات الباحث في العالم المتقدم مادياً، أما المختصون
عندنا فلهم إلى جانب هذه المشكلات مشكلات أخرى من نوع آخر، حيث إن
الباحثين في ميادين العلوم التطبيقية مازالوا إلى هذه اللحظة عند العلوم، أما
التطبيق فإن الأوضاع في العالم الإسلامي لا تساعد على التطبيق الصحيح، ولذلك
فإن من استطاع من الباحثين الهجرة إلى الغرب هاجر، ليجد هناك المجال الرحب
لتطبيق النظريات التي توصل إليها، وليضاف إنتاجه بعد ذلك للحضارة الغربية،
ومن لم يستطع الهجرة توقف النمو العلمي لديه، ثم تراجع؛ لأن العلم لا ينمو إلا
بالتجربة والتطبيق.
أما الباحثون في ميادين العلوم الإنسانية عامة فلهم مشكلة من نوع آخر، حيث
إن عدم تنظيم المعرفة لدينا بالشكل المناسب وانعدام التواصل بين الباحثين جعل
كثيراً منا يجاهد في غير عدو، وذلك لأن البناء المعرفي أشبه شيء ببناء ذي
طوابق، مع فارق واحد هو أن العلماء كلما انتهوا من بناء طابق معرفي انتقلوا إليه
وتركوا ما تحته فارغاً ليشكل أساس البناء ومنطلقاته، وهذا هو التراكم المعرفي.
والمشكلة أن كثيراً من الباحثين لدينا يرفضون الانتقال من الطابق الأول إلى ما فوقه، إما لعدم إدراكهم لضرورة الانتقال، وإما لعجزهم عنه، وإما لعدم معرفتهم أن
هناك طوابق أخرى فوقهم. وهذا ما نعنيه عند القول: إن المعرفة عند كثير من
باحثينا تفقد صفة التراكم اليوم.
إن كثيراً ممن يملك أفضل العقول لدينا مشغولون بنشر كتب تراثية أو كتابة
بحوث كتب خير منها من أكثر من قرن من الزمان، وقد يعمل الواحد من سنوات
في تحقيق كتاب مخطوط نقله مؤلفه عن كتاب مطبوع بين أيدينا، فما الحاجة إلى
تكرار غير مفيد! ! إن ما ينبغي العمل فيه في ميادين العلوم الإنسانية هو كل ما
يمثل إضافة للذات، أو يساعد في حل مشكلة واقعة أو متوقعة، وما عدا ذلك فهو
هدر لطاقات الأمة بأمس الحاجة إليها.
ولا يقف الأمر عند هذا، بل يتجاوزه إلى أن بعض المختصين يفني عمره في
حفظ مسائل وقراءة أبواب لا يحتاج إليها الواقع المسلم في شيء، ولو أنه التفت
إلى واقعه، ثم أعمل النظر فيما يحتاج إليه ذلك الواقع، من فقه، وفهم، وتفجير
للنصوص، وقراءة للتاريخ، لاستطاع عمل الكثير لهذه الأمة.
ومن هنا يرى بعض المفكرين أنه لا يمكن تنمية فقه الأولويات، وفقه
الموازنات في وضع حضاري شديد التعقيد، إلا إذا امتلك المختصون رؤية شاملة،
وعرفوا مواضع أقدامهم، من خلال معرفة الواقع المعاش والواقع التاريخي، ومن
خلال الانفتاح على الأنشطة الحياتية المختلفة.